“كورونا” والسلوك الاجتماعي المرتبك | مركز سمت للدراسات

“كورونا” والسلوك الاجتماعي المرتبك

التاريخ والوقت : الأحد, 23 أغسطس 2020

عبدالله العرفج

 

يمكن القول إن البشرية دخلت عهدًا جديدًا مع إطلالة عام 2020 بسبب جائحة كورونا أو “كوفيد – 19” التي لم يشهد التاريخ لها مثيلاً من حيث معدلات انتشارها وحجم تأثيرها في جميع المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وشموليتها العالم بأسره بفعل العولمة. ويمكن للمتخصص في علم الاجتماع مقاربة هذه الجائحة بالتحليل من عدة أوجه ومن خلال عدة نظريات. وفي هذه المقالة سوف أتناول البعد الاجتماعي لهذه الجائحة من خلال مصطلح بات تقليديًا في علم الاجتماع، ولكنه ما يزال صالحًا لتفسير بعض الظواهر الاجتماعية، وهو المفهوم الذي صكه “أميل دوركايم” في بدايات القرن الماضي وأسماه ” الأنومي” أو اللامعيارية للتعبير عن حالة من الضبابية، ناتجة من اختلال المعايير الاجتماعية التي تحدد طبيعة السلوك في المواقف المختلفة، حيث يجد الإنسان نفسه في زمن التحولات السريعة والعصيبة في حيرة ذهنية ونفسية أمام بدائل سلوكية جديدة، مفتقدًا بذلك عالم الراحة الذي يوفره السلوك العفوي التلقائي الذي تحدده المعايير على شكل افعل ولا تفعل بشكل واضح. صحيح أن “دوركايم” لم يستخدم هذا المفهوم لتحليل النوازل الصحية، ولكن بشيء من التحوير يمكن توظيفه لرصد أولي لأثر “كورونا” على السلوك الاجتماعي للأفراد، خاصة في مجتمعنا السعودي. وسوف أستخدمه هنا باعتباره تغيرًا مفاجئًا أو طارئًا على قواعد السلوك المعتادة.

فمن المعروف أن النظام الثقافي في أي مجتمع يتكون من القيم والمعايير؛ فالقيم تفضيلات لنماذج معينة، تكون بمثابة منارات للسلوك المحبب والمفضل، في حين أن المعايير هي قواعد السلوك المعتادة للوصول أو تحقيق تلك القيم، وتتضمن توصيفات أو قوالب جاهزة للسلوك في المواقف المختلفة، ويكون الناس قد تعودوها من صغرهم، من خلال التنشئة الاجتماعية؛ ولذلك فهي تمارس تقريبًا بشكل تلقائي في الأحوال العادية، وتكون مصدر أمان للفرد من التشتت والارتباك في المواقف المختلفة. أمَّا في الأحوال الاستثنائية كالتغير الاجتماعي السريع الطارئ الذي يمس الإطار الثقافي، والكوارث الكبرى، فتهتز المعايير المعتادة بفعل معايير جديدة تزاحمها، وتبدأ المشكلة على مستوى الأفراد عندما يطالبون بالخضوع فورًا للمعايير الجديدة التي تحتاج وقتًا كبيرًا للثبات والاستمرارية، وبالتالي التعود عليها من قبل الأفراد؛ مما يحدث حالة من الارتباك، وأحيانًا التمزق أو التشتت بين قواعد اعتادوها، ويمارسونها بشكل طبيعي وتلقائي، وقواعد جديدة مفروضة عليهم بشكل طارئ ومفاجئ، وتحتاج منهم إلى فعل جديد مبتكر يتطلب مجاهدة للنفس للقيام به. وبالتأكيد هناك أساليب متنوعة أو مختلفة يلجأ إليها الأفراد للتعامل مع الوضع الجديد يتراوح بين الخضوع والاستسلام أو المقاومة والتمرد، كما حصل – مؤخرًا – في مدريد بإسبانيا عندما تظاهر المئات ضد الكمامة منادين بالحرية.

ومن الأمثلة في مجتمعنا السعودي والعربي عمومًا على حالة الارتباك بين فعلين اجتماعيين أحدهما كان مفضلاً في الماضي، أي له قيمة عند الناس: التحية عند مقابلة شخص عزيز، وقد تكون لم تره منذ مدة طويلة، فالواجب القديم أو المعيار المعتاد يقول إنه يجب عليك أن تبادر إلى تقبيله أو مصافحته، وهي قاعدة انكسرت أو اخترقت. في حين القاعدة الجديدة المبنية على الحالة الصحية الجديدة تقول ابتعد، تجنب المصافحة والتقبيل حتى لو كان قريبًا جدًا، بل ربَّما أحد الوالدين وهي القاعدة البديلة؛ ولذلك نرى الحيرة والتردد في مواجهة هذا الموقف. ومن القواعد الممارسة اجتماعيًا القاعدة الدينية المتعلقة بالصلاة حيث تحث عليها جماعة في المسجد، في حين القاعدة الجديدة الطارئة المستندة إلى قاعدة الضرورة وحفظ النفس تلزم الفرد أو تحثه على الصلاة في البيت، وفي حين تقول القاعدة الدينية المعتادة: تراصوا، فإن مضمون القاعدة الجديدة يقول: تباعدوا، فالتناقض واضح بين القاعدتين، وبالتالي فإن الصراع في الأنفس يكون كبيرًا؛ ولذلك ترى من بعض المصلين من المحافظين من لا يزال رافضًا لقاعدة التباعد سواء في الشعائر الدينية أو الاجتماعية.

وفي المناسبات الاجتماعية والأعياد وتحاشيًا للتماس والتقارب المولد للعدوى، توارت ثقافة الجماعات الكبيرة لصالح الجماعات الصغيرة، تبعًا لقاعدة التباعد الاجتماعي، وهو فعلاً تباعد اجتماعي وليس مجرد تباعد جسدي؛ فأنت تبعد عن التجمعات الأخرى وتحتمي في جماعة البيت وهي العائلة الصغيرة جدًا المكونة من الأب والأبناء، أو ما سمي سوسيولوجيًا بالعائلة النووية، ومن هنا عدَّه البعض تباعدًا جسديًا وليس اجتماعيًا، وهو في حقيقته اجتماعي أيضًا. ولذلك رأينا الأعياد هذه السنة تتم وسط جو عائلي بسيط، ولكنه مريح ومشبع للكثيرين وقد يؤسس لسلوك اجتماعي مستقبلي يقوم على العائلة الصغيرة، وليس الكبيرة أو الحمولة. وبقدر ما كان مريحًا للبعض، فإنه شكل تحديًا ثقافيًا واجتماعيًا لبعض الشرائح.

السؤال هنا والجائحة في مراحلها الأخيرة، هل تستمر هذه السلوكيات الجديدة، أم تختفي وتعود السلوكيات القديمة المعتادة بمجرد ما ترفع الضوابط والبروتوكولات، أم أنها تظل تعمل جنبًا إلى جنب مع القواعد السلوكية القديمة بحيث نجد أشخاصًا يستمرون في ممارستها؟ شخصيًا أعتقد أنه برغم أن هناك من قد يكون وطَّن نفسه وأجبرها على هذه القواعد الجديدة، ورأى أنها تحقق له بعض الفوائد، إلا أنه من المؤكد عودة الأفراد للممارسة سلوكياتهم القديمة بمجرد رفع القيود وزوال حالة اللامعيارية. والسبب أن هذه القيود طارئة ومفروضة بقوة القانون أو النظام لفترة محددة مرتبطة بهذه الجائحة، وليست ناشئة عن تحولات طبيعية في البنية الثقافية للمجتمع، وبالتالي فإنها غير قادرة على تأسيس قاعدة سلوكية جديدة تمارس بعفوية وتلقائية محببة ومريحة، في حين أن قواعد السلوك أو المعايير المعتادة قد خضع لها الفرد لسنين طويلة عن طريق التنشئة الاجتماعية.

كاتب، دكتوراه في علم الاجتماع الثقافي من جامعة الملك سعود*

@aharfaj1

النشرة البريدية

سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!

تابعونا على

تابعوا أحدث أخبارنا وخدماتنا عبر حسابنا بتويتر