سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
حبيب الشمري
أكتب هذه المقالة تحت تأثير “كورونا”، حيث أقضي حجرًا منزليًا لمدة عشرة أيام بحسب توصيات وزارة الصحة، بعد تسجيل ثلاث حالات إيجابية في منزلي. تمَّ تصنيفي كـ”مخالط” لحالات إيجابية مع عدد من أفراد الأسرة.
منذ اللحظة الأولى لتسجيل الحالات تمَّ رفع درجة الاحتراز في المنزل، والتباعد، وتقليل “الاتصال المباشر” إلى أدنى درجة للجميع دون استثناء، بما في ذلك تحذير ابنتي ذات الست أعوام من الاقتراب مني لتقبيلي أو العبث بجوالي كالمعتاد. تجربة صعبة وقاسية، لكنها بالتأكيد أقل صعوبة من الإصابة بالمرض نفسه.
تغيرت طبيعة الاتصال الإنساني العادي في البيوت ومقرات العمل، وفي العالم أجمع بفعل هذه الجائحة، ظهرت مفاهيم جديدة مثل “التباعد الاجتماعي”، ثم “التباعد الجسدي”، و”الاجتماعات عن بُعد”، وأشياء كثيرة، بلغت ذروتها في إجراءات حظر التجول و”الإغلاق الاقتصادي”، إذ للمرة الأولى التي يتعرض فيها البشر إلى عقوبات بسبب الذهاب إلى بقالة، أو العشاء في مطعم، أو زيارة الحلاق. تعرض العالم للشلل التام، وأصيبت مفاهيم الاتصال بمقتل، ونجحت الدول التي استوعبت أهمية الرسالة الإعلامية وأخفقت أخرى تجاهلت ذلك.
لقد ارتبطت أزمة كورونا بشكل مباشر بقضايا الاتصال منذ اللحظات الأولى لظهور الفيروس في يناير الماضي، وأمكن ملاحظة الارتباك على الخطاب الاتصالي الصيني منذ البداية، حيث فشلت في إدارة العملية الاتصالية من خلال (إنكار) ظهور الفيروس، وللإنكار اتصاليًا عواقب وخيمة، ثم لتضارب الإعلان عن أعداد المصابين، قبل أن تبدأ تدريجيًا بالاعتراف بالكارثة بعد أن أودت بحياة أرواح كثيرة. حاولت “بكين” تحسين صورتها الذهنية فيما بعد من طريق الإفصاح عن معلومات متتابعة تتعلق بطريقة الكشف عن المرض لعلها تكسب تعاطف العالم، ثم شكت من “تنمر” وسائل الإعلام الغربية.
الرئيس الأميركي دونالد ترمب – المثير اتصاليًا – لم يوفر الخصم الصيني، وركز على تشويه صورته الذهنية من خلال ربط الفيروس ببكين، وإطلاق مصطلح “الفيروس الصيني”. وخلال شهري مايو ويونيو عندما كان الرئيس يعطي إيجازًا صحفيًا يوميًا حول تطورات المرض في بلاده، وجه كثيرًا من الانتقادات والتعليقات المسيئة للصين، مما دفع كثير من صحف العالم إلى انتقاد “بكين” بضراوة، وظهرت مطالب بمعاقبة “بكين”، وتحميلها كلفة خسائر العالم البشرية والمادية والمعنوية. حاول ترمب من خلال التركيز على نقد الصين، إخفاء أثر تقليله من حجم تأثير الفيروس في تصريحاته الأولية عن ذلك. وهناك من يعتقد أن أثر هذه التصريحات سيكون لها تأثير سلبي عليه خلال العملية الانتخابية في نوفمبر المقبل، وربَّما تطيح به من كرسي رئاسة أقوى دولة في العالم. وأثناء الأزمة أصبح العالم يتناقل (نكتة) تقول إن المنتج الأصلي الوحيد الذي صدرته الصين هو الفيروس. وفي هذا الأمر استدعاء لطبيعة جودة الصادرات الصينية للعالم، ولا شك أنها رسالة واضحة من المنافسين صناعيًا.
والأكيد بالنسبة لي كمتخصص في مجال الإعلام والاتصال والصورة الذهنية، أن “بكين” ستقضي أعوامًا طويلة لإعادة تحسين صورتها، بل إنها ربَّما لن تستطيع أن تمحو ذلك حتى لو تمكنت من تطور لقاح آمن للفيروس وتوزيعه على العالم مجانًا.
منظمة الصحة العالمية لم تكن أحسن حالاً من الصين، وبدا خطابها ضعيفًا ومتناقضًا بمعلومات غريبة، بل إنها تورطت بتصريحات جاء فيها أن المرض لا ينتقل بين البشر. وحتى اليوم يتندر العالم من شرقه إلى غربه بتصريحات المنظمة التي خسرت أكثر من 450 مليون دولار سنويًا هي مساهمة الولايات المتحدة الأميركية. وعدا الخسارة المالية، فإن الصورة الذهنية والاتصالية للمنظمة تضررت كثيرًا، وأصبح إصلاحها يحتاج عدة سنوات، إن لم تكن قد خسرت كل رصيدها للأبد.
في بريطانيا دفع رئيس الوزراء “بوريس جونسون” ثمنًا غاليًا عندما صدم البريطانيين بتصريحات مفاجئة بقوله “ستفقدون أحبابكم” في محاولة لاستباق أي انهيار للنظام الصحي في البلاد، وكمحاولة للتمهيد لـ”مناعة القطيع”. كانت هذه التصريحات محل استغراب العالم، ورأى فيها خبراء الاتصال مخاطرة كبيرة ذات أبعاد مؤثرة على الصورة الذهنية لقوة البلاد وصلابتها. صنفت هذه الرسالة ومثيلاتها الغربية أنها انحياز للرأسمالية البشعة على حساب حياة البشر. وهكذا خسرت الدول الغربية صورة ذهنية براقة رسمتها على مدى عقود عن احترام حقوق الإنسان، والحرص على حياة الناس، على الأقل لدى الدول العربية ودول الشرق عمومًا.
على عكس الرسالة البريطانية والغربية عمومًا، جاءت الرسالة الاتصالية السعودية مستوعبة للجائحة منذ اللحظات الأولى، وتصدرها خطاب للعاهل السعودي الملك سلمان بن عبدالعزيز، ركز فيها على أهمية المحافظة على أرواح المواطنين والمقيمين على حد سواء، وتسخير كافة الإمكانيات للجهات الصحية، وتوفير ما يلزم للمواطن والمقيم من دواء وغذاء واحتياجات معيشية، وبذل الغالي والنفيس لذلك، والتأكيد على أن أزمة فيروس كورونا ستمضي رغم قسوتها ومرارتها، والإعلان عن حزم اقتصادية ومالية لحماية الأجور في القطاع الخاص، وضمان عدم انقطاع الرواتب. ساهمت هذه الرسالة، في بث الاطمئنان في الداخل والخارج على الرغم من الظروف الاستثنائية، والإغلاق العالمي، وانهيار أسعار النفط. وهو ما يمكن تصنيفه أنه استثمار في الصورة الذهنية للدولة، جنت فوائد سريعة من خلال حجم التفاعل الإيجابي مع التعليمات الرسمية، وبروز الوعي في التعامل مع الجائحة لمختلف فئات المجتمع، فضلاً عن الروح العالية التي تمتع فيها السعوديون على مواقع التواصل الاجتماعي.
وعلى صعيد التعامل الإعلامي المحلي الميداني، فقد حاولت الجهات الصحية مواجهة الأزمة من خلال القيام بحملات توعوية مكثفة، فعلى الرغم من عدم تسجيل حالات بداية مارس الماضي، فقد خصصت وزارة الصحة مؤتمرًا صحافيًا يوميًا لمتحدثها الرسمي. وأصبح هذا المؤتمر هو المنصة الإعلامية الأولى في المملكة لكل الجهات الحكومية والخاصة ذات العلاقة، تنقل من خلاله كافة التطورات الصحية والاقتصادية والأمنية، ما أعطى ارتياحًا شعبيًا، وثقة بحسن إدارة الأزمة.
فنيًا ركزت المنتجات الإعلامية على البساطة، من خلال استنباط عبارات محلية لحث الناس على الالتزام بالإجراءات الاحترازية مثل “كلنا مسؤول” في محاولة لتحفيز المواطن والمقيم على تحمل مسؤولية اتخاذ الإجراءات الاحترازية، ثم عندما تطلب الأمر البقاء في المنازل “الحجر المنزلي” تمَّ إطلاق عبارة “خليك بالبيت”، وعندما احتاجت توجيه رسالة بأهمية التباعد الجسدي اختارت اسم “تباعد” لأهم تطبيق إلكتروني، ثم عبارة “متر ونصف” عندما ظهرت أهمية المسافة لمنع انتشار المرض. وللتقليل من أثر بعض العادات الاجتماعية مثل “القبلات” تمَّ اختيار عبارة “السلام نظر” وهي عبارة لها دلالتها في الثقافة السعودية تدعو لأهمية الاكتفاء بالإشارة بدلاً من القبلات المتبادلة على الخدين، وربَّما على الأنف أيضًا. وعندما قررت السلطات السعودية العودة إلى فتح المقرات الحكومية والخاصة، تمَّ اختيار عبارة “نعود بحذر”، ومع ما رافق ذلك من إعادة فتح الأجواء الداخلية أطلقت عبارة “سافر بصحة”، وخلال موسم الحج تمَّ اختيار عبارة “بسلام آمنين”.
وقد اتضح من خلال نجاح هذه الحملات والعبارات أثر دخول الشباب السعودي في مجال الاتصال بقوة خلال السنوات القليلة الماضية، بعد أن كانت تديره ولسنوات عديدة شركات عالمية تفتقر إلى الفهم العميق للثقافة المحلية، وهو أحد معايير نجاح الحملات الاتصالية.
إن كنا سنتذكر لسنين طويلة جائحة كورونا، كحدث عالمي غير وجه العالم، فإننا سنذكر أيضًا الأثر الاتصالي لذلك، ودور مفاهيم وفنون الاتصال في تحولات هذه الجائحة، وحجم التغيير الذي طرأ على العمليات الاتصالية، والدروس الضخمة التي خرجنا بها كعاملين ومهتمين بهذا القطاع باعتبارها تجربة ضخمة ومؤثرة، وذات أبعاد مختلفة.
بقي دور الجامعات ومراكز الدراسات والأبحاث لتشريح حالة “كورونا” اتصاليًا بشكل دقيق، واستخلاص الفوائد، وتقديم الخلاصات لصناع القرار في القطاعين العام والخاص، لأخذ العملية الاتصالية بالاعتبار لمعالجة الأزمات المختلفة بما فيها مثل هذه الجائحة النادرة.
كاتب وصحفي سعودي*
سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
تابعوا أحدث أخبارنا وخدماتنا عبر حسابنا بتويتر