سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
الحبيب الأسود
لم يجانب المؤرخ التونسي الهادي التيمومي الصواب عندما نعت الوضع في بلاده بأنه وصل إلى مرحلة التمثيل بجثة الدولة، فأغلب الباحثين الجديين والمحللين الموضوعيين يدركون أن تونس تعيش حالة غير مسبوقة من التدهور الاقتصادي والتهور السياسي، لم تعرف لها مثيلا إلا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وتحديدا بداية من العام 1869 عندما أدى الفساد المستشري إلى عجزها عن الإيفاء بديونها، وبالتالي إلى وضع اقتصادها تحت وصاية عدد من الدول الأوروبية أو ما عرف آنذاك بالكومسيون المالي الذي لم يلغ في العام 1884 أي بعد إخضاع البلاد إلى الحماية الفرنسية، وهي مجرد وصف سياسي لحالة الاحتلال المباشر.
مهما قيل عن تونس ما قبل العام 2011، فإن لا أحد يشكك في أن الدولة الوطنية كانت قائمة وبقوة، وكانت قادرة على حماية مواطنيها وتوفير حاجياتهم الضرورية، وعلى أن تتحاور بندية مع الدولة الأخرى، وأن تدافع عن مصالحها وأن توازن في علاقاتها، وتحتل مكانة محترمة في المنطقة والعالم، وأن تصون كرامة أبنائها، وأن تنأى بنفسها عن سياسات المحاور دون أن تتخلى عن موقعها في صف الاعتدال، وأن تكون لها أجهزتها القوية وإدارتها الناجعة وخبراتها المتقدمة في مختلف المجالات وكفاءاتها المشهود لها دوليا.
لم تكن تونس دولة شعارات براقة لتجييش العواطف، ولا دولة تتدخل في شؤون الآخرين، ولا دولة انفلات للخطاب وزلات الألسنة والمواقف “الثورية” الصاخبة، ولا دولة تبعية لهذا الطرف الإقليمي أو ذاك الطرف الدولي. نعم لم تكن دولة ديمقراطية، ولكنها لم تكن دولة دكتاتورية كما يروج القادمون من المنافي أو الخارجون من السجون أو الوافدون من أرصفة الشوارع إلى سدة الحكم ودوائره، لم تكن دولة ثرية ولكنها لم تصل إلى ما هي عليه اليوم من انهيار كامل لمنظومتها المالية والاقتصادية. لم تكن دولة رفاه كامل، ولكنها لم تكن دولة تشاؤم وبؤس وعجز كما هي حالها اليوم، ولم يكن توفير رغيف أبنائها مرتبطا بما تحصل عليه من قروض ومن هبات ومساعدات خارجية. لم تكن دولة منغلقة، ولكنها لم تكن دولة مستباحة إلى حد أن الأطراف الخارجية تتدخل في كل مجالات الحياة فيها من نشاط البرلمان إلى الخطاب الديني، ومن علاقاتها الخارجية إلى خياراتها الاقتصادية والاجتماعية.
عندما وصل الهواة إلى وضع أيديهم على الدولة، كما أشار المؤرخ فتحي اليسير في كتابه “دولة الهواة” برز ما وصفه المفكر يوسف الصديق بـ”مفهوم السائس وهاوية الهواية”، فخضعت البلاد إلى سياسة اقتسام الغنيمة من قبل الحاقدين عليها، ومن كانوا يتقدمون للسيطرة على مقدراتها بشعارات تصب في إطار واحد وهو تكفير وتخوين بناة الدولة الوطنية، سواء بمنطق الأيديولوجيات الوافدة أو بمنطق هتك عرض التاريخ واستعادة الصراعات القبلية والمناطقية والتباينات السياسية، أو بالانقلاب على مفهوم الدولة وتدمير بنيتها وضرب ثوابتها ومؤسساتها واجتثاث نخبها الحقيقية، وفرض بدائل تخلو من الكفاءة والتجربة والخبرة، وذلك في محاولة واضحة لإخضاع عقيدتها الوطنية إلى عقيدة من قادتهم الصدفة إلى حكمها في إطار سياسة المخبر الاستثنائي الذي أريد له أن ينبثق عما سمي بالربيع العربي قبل عشر سنوات.
تونس اليوم هي حالة تتراوح بين الفوضى والفوضى، لا يعرف أهلها كيف يتعاملون معها؛ بقهقهات السخرية أم بدموع الأسى والحسرة. فالسلب والنهب والفساد تضرب كل القطاعات، دولة الفوسفات تستورد الأسمدة الكيميائية لزراعاتها بعد تعطل إنتاجها المحلي، وتونس الخضراء تستورد الخضار من الخارج بعد انهيار منظومتها الزراعية، وتونس التي تحتاج إلى كل أبنائها تعرف أكبر نزيف للأدمغة والسواعد، حيث أصبحت الهجرة حلم الجميع سواء بعقود رسمية أو خلسة على قوارب الموت.
وتونس التي كانت واحدة من عواصم السياحة الصحية، تواجه عجزا على توفير الكثير من الأدوية لمرضاها، وتتأخر عن أغلب دول العالم في توفير لقاحات كورونا. وتونس التي أرادها بُناتها الأوائل دولة محترمة في محيطها تنتظر الصدقات والمساعدات من الدول والمنظمات الدولية، وتونس التي لم تتأخر يوما قبل 2011 في الإيفاء بديونها باتت على أهبة العجز على دفع ديونها المستحقة، وإن دفعتها فبديون جديدة تحصل عليها بضمانات دولية وبنسب فائدة أكبر بكثير.
الدولة التي كانت نموذجا للانضباط تعرف اليوم حالة قطيعة بين قصورها الثلاثة، ويستقوي بعض أبنائها على البعض الأخر بالسفراء الأجانب، خطابها السياسي بلا مضمون، ودورها الاجتماعي دون فاعلية، وثائقها السرية على قارعة الطريق، وحرمات مؤسساتها منتهكة، ودبلوماسيتها مشلولة، ونصف أوقات مسؤوليها مخصصة للرد على شائعات فيسبوك.
عندما انتشر فايروس كوفيد – 19 كانت تونس من أكثر الدول تأثرا به، والسبب أن جسد الدولة قد فقد مناعته كنتيجة طبيعية للفساد والإهمال وحالة الإنهاك التي تسبب فيها حكم الهواة، ولضبابية الرؤية وغياب الإرادة وصراع الإرادات بين المتنافسين على الغنيمة.
لم تكن جائحة كورونا وراء كل أزمات تونس ولكنها كانت جزءا من أسباب الأزمة، وكانت الطارئ الصحي الذي كشف عن مرض مزمن ما انفك ينخر الجسد الغض بلا رحمة لمدة عشر سنوات، ومنذ أكثر من عام، أصبحت تونس أقرب إلى المريض الخاضع لأحكام غرفة الإنعاش، بينما دخل من يفترض أنهم أطباء مؤتمنون على علاجه في معركة بلا أفق، فالرئيس له مشروعه المؤجل إلى حين تحقيق طموحه في السيطرة المطلقة على كل الصلاحيات دون معارضة أو أحزاب. ورئيس البرلمان له مشروعه العقائدي الإخواني المستقوي بخيارات الليبرالية الجديدة في تكريس مشروع التمكين الفعلي تحت شعارات ديمقراطية لا يعترف بها. ورئيس الحكومة انقلب على الأول الذي كلفه وسار في ركاب الثاني الذي دعمه. وبارونات الفساد يحكمون سيطرتهم على مفاصل الدولة بإسناد من المستفيدين منهم في الخفاء. والنقابات تغرد خارج السرب رفضا لأية إصلاحات قد يفرضها الدائنون الأجانب وممثلوهم، والشعب منقسم في خيارته بين الولاءات على الشعارات لا على الأفعال.
يخطئ من يعتبر أن جائحة كورونا هي الخطر الحقيقي على التونسيين، فهي لم تكن غير العارض الذي أدى إلى الكشف عن المرض الحقيقي المستعصي الذي يهدد تونس الدولة والمجتمع والسيادة والحاضر والمستقبل، حتى لا أقول إننا في حالة تمثيل فعلي بجثة الدولة كما قال الدكتور التيمومي.
المصدر: صحيفة لعرب اللندنية
سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
تابعوا أحدث أخبارنا وخدماتنا عبر حسابنا بتويتر