سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
يعتبر مفهوم القوة واحدًا من المفاهيم الكبرى والرئيسية في أدبيات العلوم الاجتماعية والسياسية. وصيغت كثير من المفاهيم المتاخمة له، أو المشتقة منه، باعتباره “القدرة على التأثير على الآخرين”؛ لتحقيق الأهداف العامة المرجوة. فهناك من يقاربها مقاربة سوسيولوجية على غرار أعمال “ماكس فيبر” الكلاسيكية التي اهتمت بظاهرة القوة، وركزت بشكل خاص على قوة الكاريزما، حال قيامها بدراسة الجماعات الدينية. لقد كان لأعمال “فيبر” تأثيرها في سياق الاهتمام بالتأثير الرمزي غير المعتمد على استعمال القوة المباشرة.
الرياضة والقوة الناعمة.. كيف؟ ولماذا؟
لقد كان الاهتمام بالقوة غير المباشرة، أو القدرة على التأثير دون تدخل عسكري، أو ما عرف بالقوة الناعمة، هو نتاج طبيعي لإدراك النخبة الأميركية لحاجتها إلى كسب التأييد العالمي دون اللجوء للقوة العسكرية ذات التكلفة العالية، سواء أكانت تكلفة اقتصادية أو بشرية، أو تبعاتها الخطيرة المدمرة. لقد استطاع جوزيف س. ناي، تطوير مفهوم “القوة الناعمة” في كتاب يحمل في عنوانه نفس المفهوم. ولقد شغل المؤلف منصب وكيل وزارة الدفاع في عهد بل كلينتون. ولقد طور الرجل مفهومه، حيث قام مركز الدراسات الاستراتيجية والسياسية في عام 2006 بتكليفه ومعه ريتشارد أرميتاج، إلى جانب نخبة استراتيجية لإعداد تقرير لمراجعة مفهوم القوة. ونتج عن ذلك تقرير عنوانه (القوة الذكية)، وذلك بعد عام كامل من التكليف المذكور. وقد طور جوزيف ناي، المفهوم فيما بعد في كتابه (مستقبل القوة)، ليؤسس لمفهوم جديد هو “القوة الذكية”؛ إذ يرى “ناي” صعوبة الرهان على القوة الصلبة بمفردها، أو القوة الناعمة فقط في الشأن الدولي، بل يجب الجمع بين القوتين معًا فيما يعرف بالقوة الذكية[1].
لطالما حظيت الرياضة عمومًا، وكرة القدم على وجه الخصوص، باهتمام الدول والشعوب، سواء تلك التي تبحث عن نفوذ رياضي يدعم نفوذها الاقتصادي والسياسي، أو الأخرى التي تبحث عن تميّز من بوابة الرياضة يضمن لها إثبات وجودها بين الأمم. وفي القلب من ذلك، تأتي كرة القدم باعتبارها أكثر الألعاب الرياضية شعبية حول العالم، ومن ثَمَّ تأتي اﻷحداث الرياضية الكبرى، وتحديدًا المتعلقة بما يسمى بـ”الساحرة المستديرة” أي كرة القدم، ويقصد بالأحداث الرياضية الكبرى، تنظيم بطولات مثل كأس العالم لكرة القدم. فبلا شك، يمثل الحدث أهمية كبرى من أجلها، تسعى الدول لاستضافة إقامته على أراضيها، بل تسعى كل الدول بواسطة منتخباتها، للصعود إلى تصفياته، فكل دولة تضع من أجل أخذ حقوق التنظيم، خططًا شاملة ومتكاملة لإنجاز البنى التحتية والبنى الرياضية المطلوبة وفق المعايير الدولية، وبذلك تكون أصول ثابتة واستثمارات للبلد نفسه بعد انتهاء الحدث الرياضي. كما أن هناك فوائد أخرى تسعى إليها الدولة المنظمة[2].
روسيا بالمونديال.. رسائل سياسية وعوائد اقتصادية
هذا ما ينطبق على روسيا خلال الفترة الراهنة، فهي كدولة تستضيف بطولة كأس العالم، أول مرة، منذ انطلاق البطولة عام 1930، ولذا استلزم اﻷمر أن تستغل هذا الحدث أفضل استغلال، إذ إنها ستكون طوال مدة البطولة محط أنظار العالم بأسره، ومن المهم أن تظهر بمظهر حضاري وعصري متطور في كل شيء، لكي تجذب بعد ذلك جموع السياح إليها؛ مما يساعد على تعزيز ثقة الشعب الروسي وفخره بوطنه. واستعدت روسيا لاستضافة بطولة كأس العالم 2018، منذ الإعلان عن حصولها على حقوق تنظيمه، وبناء على ذلك قامت بإنشاء ملاعب خاصة ومبانٍ وساحات خاصة وفنادق لتستوعب السائحين المتوقع وجودهم على اﻷراضي الروسية أثناء البطولة. ومن أهم تلك الاستعدادات، قيام روسيا بالعمل على تطوير استاد “دينامو موسكو” والحديقة المحيطة به على طراز حديث جدًا، لتكون مركزًا لإقامة بطولة كأس العالم بروسيا. وتطوير “دينامو موسكو” يزيد من المساحة المتوفرة للجماهير، لأنه يضم ما يقرب من 45 ألف مقعد داخل الاستاد، و10 آلاف مقعد في الساحة المحيطة، ويحتوي على مواقف للسيارات ومطاعم وغيرها من المرافق والخدمات التي تجعله مبنى متكاملاً قادرًا على استيعاب التدفق الجماهيري المتوقع من المشجعين؛ لا سيما أن شكل هذا الاستاد، يمثل تحديًا روسيًا كبيرًا، فهو يجسد الثقافة والفن الروسي الفلكلوري – إن جاز التعبير – حيث يحتضن تصميمه التاريخ، ويخلق رمزًا للمعاصرة مع القرن الحادي والعشرين مما يعمق الشعور بالفخر والتميز لدى الشعب الروسي[3].وهنا يتجسد التعريف الحقيقي لمفهوم القوة الناعمة.
يقع “دينامو موسكو” في بتروفسكي في قلب موسكو، هذا الموقع ذو الأحداث التاريخية، والذي يعود إلى عام 1782، عندما أمرت يكاترينا ببناء قصر بتروفسكي، الذي أصبح بعد ذلك مركزًا للثقافة في موسكو، ولقد تمَّ افتتاح ملعب “دينامو موسكو” الأصلي عام 1928، ومن أجل مواكبة الأحداث العالمية المعاصرة ولدعم روسيا للفوز باستضافة بطولة كأس العالم على أراضيها، قامت إدارة الاستاد بعقد مناقصة لتطوير وإعادة بناء هذا الاستاد في مطلع عام 2010. وبذلك، فمن يحرص على مشاهدة ومتابعة مباريات بطولة كأس العالم، لن يتوقف استمتاعه على المواهب والمهارات الرياضية، بل سوف يستمتع أيضًا بمناظر رائعة جاذبة للنظر، وبناء عليه تسعى روسيا لتحسين صورتها بالعالم، وجذب السياح، ما سيصب في المحصلة في مصلحة الوضع السياسي والاقتصادي للبلاد.
كيف تستفيد الدولة المنظمة من البطولة كقوة ناعمة؟
مما سبق، يمكن القول إن الترويج للقوة الناعمة للبلد المضيف لفعاليات بطولة كأس العالم، يساهم في التسويق لكل ما تريد الدولة المنظمة تسويقه للعالم من خلال الدعاية والإعلام. ونستشهد هنا بتجارب سابقة، كتجربة تسويق النجاح الاقتصادي في البرازيل في أولمبياد 2016، وكأس العالم 2014، وفي كأس العالم في جنوب إفريقيا في عام 2010، وصولاً إلى ترويج الثقافة أو السياحة الوطنية حتى الثقافة الشعبية واﻷطعمة المميزة وما شابه ذلك. ويمتد اﻷمر إلى حد المكاسب والعوائد الاقتصادية والمالية من خلال هذا الحدث.
لا بدَّ من حساب العائد دون حساب قيمة الأصول الثابتة المضافة في البلاد، فيما يرى جانب آخر أن معظم الأصول الناتجة عن تنظيم هذه البطولات تقل الأهمية النسبية لمعظمها بعد انتهاء البطولات بسبب قلة استخدامها. ولكن في كل الأحوال، لا يمكن الإنكار أن تنظيم الأحداث الرياضية الكبرى، يحرك البنية التحتية في البلد المضيف بشكل إيجابي. وكذلك تقسيم المصروفات، حيث يمكن تقسيم المصروفات إلى مصروفات استثمارية، أي يمكن ردها، سواء على مدى الطويل، أو القصير، بل يمكن الربح منها. وهناك مصروفات بلا عائد كمصروفات الأمن وحفلات الافتتاح وغيرها. وهنا يرى فريق أن تنظيم الأحداث الرياضية العالمية، يضر الاقتصاد الوطني أكثر مما يفيد، وأن تنظيم هذه الأحداث، ما هو إلا إهدار للأموال العامة دون عوائد؛ لأن العوائد التي تأتي لا تغطي غالبًا ما تمَّ إنفاقه. ويرى فريق آخر، أن الاحداث الرياضية لها عوائد اقتصادية وسياسية واجتماعية[4].
بينما تكمن الاستفادة الاقتصادية، على سبيل المثال، في بيع حقوق النقل التلفزيوني للبطولة، وحقوق الرعاية والتسويق الخاصة بالبطولة، وكذلك حقوق ترخيص المنتجات، بالإضافة إلى الضيافة والسياحة، إلى جانب التذاكر وغيرها، وتوفير فرص عمل وفرص استثمارية للشركات الأجنبية والوطنية. لقد خططت الحكومة في المملكة المتحدة عند تنظيم أولمبياد لندن 2012، لأن تطلق حملة ضغط اقتصادي غير مسبوقة مع بدء توافد الدبلوماسيين ورجال الأعمال الأجانب على العاصمة لحضور الألعاب الأولمبية. ومن بين المشاريع المستهدفة – التي بلغ إجمالي قيمتها 6.2 مليار دولار – بناء مؤسسات صحية في الصين، وأحواض لبناء السفن في البرازيل، ومد خطوط سككية في روسيا، وعمليات تنقيب عن المحروقات في المياه العميقة بالسواحل المكسيكية. وفي لندن تمَّ إنفاق تسعة مليارات جنيه إسترليني (14 مليار دولار) لاستضافة الأولمبياد عام 2012، فالحكومة البريطانية اعتبرتها استثمارات طويلة الأمد، وتوقعت أن تدر عائدات بقيمة 13 مليار جنيه (20 مليار دولار) في الأعوام الأربعة التالية بعد عام 2012.[5]
وهنا يجدر القول، إن التنافس الشديد بين دول العالم لاستضافة المونديال، يعكس الفوائد الاقتصادية الجمة التي تجنيها الدول. وتدل المؤشرات على أن كوريا واليابان اللذين اشتركا في استضافة بطولة 2002، حققا مكاسب تقدر بحوالي 9 مليارات دولار، في حين أن ألمانيا التي استضافت بطولة عام 2006 حققت مكاسب تصل إلى 12 بليون دولار. أمَّا جنوب إفريقيا، فوصلت مكاسبها إلى 5 مليارات دولار خلال كأس العالم 2010.
المنتخبات المشاركة والقوة الناعمة للبطولة
ولا يقتصر اﻷمر هنا على الدول المستضيفة فقط، بل يمتد إلى الدول المشاركة في المونديال، فمن المؤكد أن المشاركة في الحدث لها قوة ناعمة. على رغم أن تعبير قوة ناعمة يستخدم أساسًا لوصف القوة الاستراتيجية لدول كبرى، فلا أقل منه وصف التأثير الهائل لكرة القدم في المجتمعات المعاصرة. ويرسم كل مجتمع شبكة علاقات مع “القوة الكبرى”التي تمثّلها كرة القدم، تمامًا كالقول بأن الدولة ترسم شبكة علاقاتها مع القوى الكبرى في السياسة. ربَّما يُتعجب عند مقارنة السياسة بكرة القدم، ولكن عند التفكير بصورة أكثر مناسبة، سنخرج عن التقاليد الراسخة التي تجعل السياسة في مكانة عليا، وكل ما سواها دونها؟ لنجرب أن نقول، بكل روية أيضًا، إن كرة القدم تملك قوة تأثير تفوق السياسة، وهو ما يعود – بالضرورة – على المشاركة في بطولة كأس العالم بالنسبة للدولة التي وصل منتخبها للبطولة اﻷبرز واﻷكثر شعبية على مستوى العالم[6].
كرة القدم بين الشعبوية والسياسة
إجمالاً، تعد قوة الدول الناعمة لها وجوه عدة؛ فلم يَعُد الإعلام كقوة تأثير وتعبير عن حضور الدول دوليًا وإقليميًا؛ وهو ما يمكن تلخيصه كالتالي:
– أصبح كل ما يُمثل الدولة في أي منافسة، هو مؤشر قوتها والتسويق لنفسها سياسيًا، قبل أن يكون سياحيًا واقتصاديًا. وعلى هذا، كانت كرة القدم ملعبًا للتنافس الرياضي.
– التنافس له أبعاد وطنية لتحفيز شعور الانتماء داخليًا، والتعبير عن قوة الدول الناعمة خارجيًا.
– تعتبر كرة القدم إحدى الأدوات التي تعتمد عليها الدول في تحسين صورتها أمام العالم.
– استطاعت دول كثيرة أن تجعل من منتخباتها الوطنيةولاعبيها، سفراء لها في الخارج، ويرفعون أعلام بلادهم، ويمثلون أوطانهم في المنافسات الدولية التي تُقرب بين الشعوب والدول.
– لم تَعُد الشعوب تراقب فقط السياسات، فكثير من الشعوب باتت تتابع فرقًا ومنتخبات ليست داخل حدودها.
– أصبحت كرة القدم لغة متعارف عليها بين سكان العالم أجمع[7].
– تُساهم كرة القدم، بصورة كبيرة، في بناء اقتصاد بعض الدول، حتى أصبح هناك ما يعرف باسم “اقتصاديات كرة القدم”، وتُعد البرازيل على رأس دول العالم التي يعتمد اقتصادها كثيرًا على عوائد كرة القدم[8].
– اتجهت دول كثيرة حول العالم إلى الاهتمام بكرة القدم واستخدامها في بناء أسمائها.
وأخيرًا، بات قياس قوة الدول الشاملة مرتبطًا بضرورة تطوير آليات قوتها الناعمة التي تُعد أحد الأعمدة الرئيسة في استراتيجيات الدول في التأثير والحضور والتنافس مع غيرها من الدول لتعبر من خلالها عن أبعادها السياسية والاقتصادية؛ بالإضافة إلى تنشيط حركة السياحة الداخلية وتجديد الحالة الوطنية للأجيال الجديدة.
وحدة الدراسات السياسية*
المراجع
[1]جوزيف س. ناي، القوة الناعمة: وسيلة النجاح في السياسة الدولية، ترجمة محمد توفيق البجيرمي، السعودية، دار العبيكان للنشر، 2007، ص25.
[2]تنظيم الأحداث الرياضية العالمية.. فوائد اقتصادية وسياسية، مركز أبحاث كاتيخون.
[4] المنافع الاقتصادية لتنظيم كأس العالم.
[5] الرياضة قوة ناعمة جديدة على طاولة الحكومات، جريدة العرب الدولية.
[6] كأس العالم الطريق إلى التنمية المستدامة، العربية.نت.
[7] المونديال “قوة ناعمة” للشباب والجسد والمرأة، صحيفة الحياة.
سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
تابعوا أحدث أخبارنا وخدماتنا عبر حسابنا بتويتر