سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
د أشرف كشك
تداعيات عديدة ودروس مستفادة لاتزال تثيرها التطورات في أفغانستان، ففي حديث لوكالة الأنباء الفرنسية في الحادي والثلاثين من أغسطس الحالي 2021 أشار جوزيب بوريل الممثل الأعلى للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية إلى تأثير الأزمة على الدول الأوروبية وكان لافتاً في حديثه الى ثلاث نقاط الأولى: القول بأن ما حدث في أفغانستان يجب أن يدفع الأوروبيين إلى تجهيز أنفسهم بقدرة تدخل عسكري لمواجهة الأزمات المقبلة التي يشهدها العراق ومنطقة الساحل، والثانية: أنه إذا قامت الولايات المتحدة بسحب كامل قواتها بحلول 31 أغسطس فإنه لن يكون لدى الدول الأوروبية القدرة العسكرية للسيطرة على المطار العسكري في كابول وتأمينه، والثالثة: بالنسبة لمسار الأحداث في أفغانستان لم يسأل أحد الأوروبيين عن رأيهم، وأنهى حديثه مقترحاً أن يقوم الاتحاد الأوروبي بتأسيس قوة تدخل دولي قوامها 50 ألف جندي يكون لديها القدرة على العمل في الظروف الراهنة وأنه سوف تتم مناقشة ذلك الاقتراح من جانب وزراء الدفاع في الاتحاد.
حديث بوريل لم يكن منشأ لواقع العلاقات الأمريكية – الأوروبية بل كاشفاً لأحد أبعادها، صحيح أن الولايات المتحدة الأمريكية قد لعبت دوراً محورياً في تحقيق مفهوم توازن القوى في أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية الأمر الذي كان أساساً لتحقيق الأمن الإقليمي من خلال ركيزة اقتصادية تمثلت في مشروع مارشال لإعادة إعمار أوروبا وركيزة دفاعية تمثلت في تأسيس حلف شمال الأطلسي «الناتو» والذي لم يكن بديلاً لمشروع الاتحاد الأوروبي الذي بدأ في ثوب اقتصادي ليصل إلى تنظيم إقليمي في الوقت الراهن يعكس الهوية الأوروبية من ناحية ويسهم مع الولايات المتحدة في حفظ الأمن العالمي من ناحية ثانية، إلا أن الجدل حول أين ينتهي الدور الأمريكي ومتى يبدأ الدور الأوروبي لم ولن ينتهي لأسباب عديدة ليس أقلها مسألة تقاسم أعباء النفقات العسكرية، فبرغم عدم تطرق الرئيس بايدن لتلك المسألة بعد على غرار سلفه الرئيس ترامب الذي لطالما أعرب عن امتعاضه جراء عدم التزام الدول الأوروبية بتخصيص نسبة 2% من ناتجها المحلي الإجمالي للأغراض الدفاعية في ميزانية الناتو، فإن ذلك لا يعني تخلي الإدارة الأمريكية عن تلك المطالبات، من ناحية ثانية عدم وجود خبرات أوروبية للعمل خارج أراضيها بشكل مستقل عن القيادة الأمريكية سواء من خلال الناتو الذي تتداخل عضوية 22 دولة أوروبية مع عضويته، أو من خلال التحالفات التي قادتها الولايات المتحدة لمواجهة تهديدات الأمن الإقليمي خلال الحرب العراقية – الإيرانية، وتحرير دولة الكويت، وغزو العراق، والتحالف الدولي ضد داعش، وجميعها شهدت جهوداً أمريكية أوروبية مشتركة بغض النظر عن نسبة مساهمة كل جانب ومدى التقاء أو تعارض مواقف الجانبين حيالها.
وعلى الرغم من أن الاتحاد الأوروبي كتنظيم للأمن الإقليمي قد نشأ بالأساس من منظور اقتصادي بيد أن فكرة إيجاد هوية أمنية ظلت الحلم الذي راود دوله وازدادت وتيرته إبان الأزمات عموماً وعلى نحو خاص في أعقاب خروج بريطانيا من المنظومة الأوروبية «البريكست» وكانت البدايات العملية لذلك هي توقيع 23 دولة أوروبية وثيقة للتعاون الدفاعي في نوفمبر 2017 تضمنت 20 التزاماً منظماً للتعاون الدفاعي ولكن لوحظ أنها لم تضم كل الدول الأوروبية، كما أنه لم يكن لدى بعضها رغبة حقيقية في إرسال جنودها لمناطق نزاعات خارج أراضيها، ثم إعلان فرنسا في يونيو 2018 عن تأسيس قوة أوروبية لمواجهة الأزمات التي تقع خارج الدول الأوروبية بعضوية 9 دول بالإضافة إلى بريطانيا من خارج المنظومة الأوروبية، إلا أنها أيضاً شهدت تباينات فمن ناحية لم تضم الدول الأوروبية كافة، ومن ناحية ثانية سيادة جدل مؤداه: هل ينبغي أن يكون تطوير تلك القوة داخل هيكل الاتحاد الأوروبي أم مستقلاً عنه؟ ناهيك عن استمرار قناعة بعض الدول الأوروبية بأن المظلة الفعلية للأمن الأوروبي هي حلف الناتو، وصولاً إلى اقتراح الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في نوفمبر 2018 بتأسيس جيش أوروبي موحد وهو الاقتراح الذي لم ينج من النقد أيضاً ليس من جانب الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب فحسب بل أيضاً من جانب الدول الأوروبية التي لم يكن بعضها لديه تحفظ على فكرة إرسال قوات أوروبية للخارج فقط، بل في طبيعة الفكرة ذاتها هل هي مجرد قوة أمنية أم جيش يضم عقائد عسكرية متباينة؟ وصولاً إلى توقيع فرنسا وألمانيا معاهدة التعاون والاندماج تتكون من 7 فصول و28 مادة في 22 يناير 2019 بما يعنيه ذلك أنه توجد داخل الاتحاد مسارات ثنائية بالتوازي مع التيارات والانقسامات الأخرى داخل تلك المنظومة.
وعلى الرغم من عدم اكتمال تلك المقترحات بشكل عملي على أرض الواقع فإن الاتحاد الأوروبي لم يقف مكتوف الأيدي أمام تهديدات الأمن العالمي بل لعب دوراً مهماً وخاصة تجاه أمن الملاحة والأمن البحري ابتداءً بالمشاركة في مكافحة القرصنة قبالة سواحل الصومال منذ عام 2008 وفقاً لقرارات أممية إلى جانب القوات البحرية للناتو والعديد من الدول الأخرى ومروراً بعملية إيريني لمراقبة السواحل الليبية ومنع وصول الأسلحة لأطراف النزاع هناك من خلال استخدام الأصول البحرية لدول الاتحاد الأوروبي وذلك وفق تفويض أممي وهي العملية التي تم تمديد عملها إلى مارس 2023 وانتهاءً ببدء فرنسا قيادة بعثة لمراقبة الملاحة في مضيق هرمز بدعم ثماني دول أوروبية والتي بدأت عملها بالفعل في يناير 2020.
ويعني ما سبق أن اقتراح بوريل يجد سنده في رغبة أوروبية حقيقية للاضطلاع بدور أمني عالمي، تعززها خبرات متنوعة اكتسبتها من خلال العمل مع الشريك الأمريكي في مناطق النزاعات المختلفة، إلا أن الواقع ليس من السهولة بمكان، فبنظرة فاحصة على الأزمات الراهنة خارج الأراضي الأوروبية فإنه يجمعها أمر مشترك وهو وجود جماعات مسلحة دون الدول تستهدف هدم الدولة الوطنية الموحدة ولا تصنف جميعها بمعيار واحد من جانب الدول الأوروبية، فضلاً عن عدم اتفاق الدول الأوروبية ذاتها بشأن طبيعة عمل تلك القوة وسبل دعمها، وبرأيي أن المعضلة الأكبر تتمثل في استمرار رؤية الدول الأوروبية لحلف الناتو لكونه المظلة الأمنية الجامعة لكل الدول الأوروبية، ولكن ثمة شكوك تكتنف إمكانية استمرار تلك الرؤية بعد تجربة أفغانستان، من ناحية أخرى فإن النهج الأوروبي ذاته حيال الأزمات لم يكن الخيارات العسكرية أولاً بل السبل الأخرى، فهل ثمة تغيراً في التصورات الأوروبية تمليها الضرورات العالمية الراهنة؟ في تقديري أن الأزمات الكبرى تؤسس لتحولات جوهرية في استراتيجيات الدول والمنظمات وثمة تحول سوف تشهده السياسات الأوروبية في أكبر درس خرجت به الدول الأوروبية من التجربة الأفغانية للعمل متحالفة أو مستقلة.
المصدر: مركز البحرين للدراسات الاستراتيجية والدولية والطاقة ”دراسات”
سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
تابعوا أحدث أخبارنا وخدماتنا عبر حسابنا بتويتر