سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
ديان كولي
خلال أشهر قليلة تمدد شبح الذكاء الاصطناعي على العالم، وفي وقت متأخر من عام 2022، أدى إطلاق “شات جي بي تي” الذي يعتبر الأبرز في الموجة الجديدة من نماذج الذكاء الاصطناعي إلى تأجيج المخاوف في شأن التداعيات الكوارثية للتكنولوجيا، وبحسب سرديات متنوعة فقد يؤدي الذكاء الاصطناعي إلى تعزيز سرعة انتشار المعلومات المضللة وقتل الديمقراطية وإلغاء ملايين الوظائف، بل حتى وضع نهاية للجنس البشري. وطغت تلك المخاوف على النقاشات حول الوعود التي تحملها تلك التكنولوجيا، وخلال العقود القليلة الماضية قوبلت التطورات السريعة للتكنولوجيا الرقمية وتقنيات الاتصالات بالترحاب غالباً مع نشوة غير مبررة حيالها.
وأوحت القفزات الحديثة في الذكاء الاصطناعي بأفكار مشوبة بحذر متشكك وواسع النطاق في شأن المسار الذي بات التغيير التكنولوجي منخرطاً فيه، ووضعت الادعاءات الإيجابية للذكاء الاصطناعي التوليدي قيد المساءلة من كثيرين ممن أدركوا أن الابتكار قد لا يندرج دوماً ضمن الأمور الحسنة.
لقد ألف الاختصاصيان في الاقتصاد دارون إسموغلو وسايمون جونسون كتاب “السلطة والتقدم، صراعنا طوال 1000 عام على التكنولوجيا والازدهار” Power and Progress: Our Thousand-Year Struggle Over Technology and Prosperity,، قبل إطلاق “شات جي بي تي” والنماذج الاخرى في الذكاء الاصطناعي، وفي ظل الذعر السائد حاضراً حيال الذكاء الاصطناعي يبدو تشديد الكتاب على الحضور الكلي الشامل للتفاؤل بالتقنية وكأنه قطعة آثار تعود لزمن غابر.
وفي المقابل توقع المؤلفان المخاوف السارية الآن، إذ حذرا من أن الذكاء الاصطناعي “أم كل التقنيات غير الملائمة”، وأنحيا باللائمة على الأوليغارشيا الليبرالية بأنها صنعت الأدوات المؤذية للذكاء الاصطناعي التي شرعت بالفعل في إزالة الوظائف الجيدة من العالم، ونبها إلى أن فشل الحكومات الوطنية في محاضرة الضرر الناجم من تلك الأدوات سيؤدي إلى مفاقمة الأشكال المختلفة من التفاوتات في مجتمعاتها. ووفق إسموغلو وجونسون فإنه يتوجب عل الدول إيجاد طرق في التشارك الواسع النطاق للمنافع المتأتية من تلك التطورات التقنية، إذ باتت الدول ملزمة بإيجاد “سياسات حكومية تتضمن رسم إطار مؤسساتي وحوافز، وتعززها سرديات إيجابية بغية تحفيز القطاع الخاص على النأي عن الإفراط في الأتمتة والمراقبة لمصلحة الميل إلى التقنيات الأكثر توافقاً العمال”.
وفي سياق نقاشهما عن التحديات الراهنة يراجع الكاتبان أمثلة مستقاة من الـ1000 عام الماضية تتعلق بكيفية تعامل المجتمعات مع التغير التكنولوجي، إذ لم يمثل الابتكار قوة مستقلة وطبيعية يتوجب على الناس التأقلم معها، بل ليس له أن يكون كذلك، وبالأحرى فإن الطريقة التي يفهم بها الناس التقنيات والسرديات التي ينسجونها حول دور الابتكارات الجديدة تسهم في حسم مسار تداعياتها، سواء نحو التفاعلات الإيجابية أو التأثيرات التخريبية، وبمجرد ابتكار تقنيات جديدة وتطويرها وتطبيقها فإنها ستمتلك تأثيرات متباينة على الوظائف والأعمال والمداخيل استناداً إلى مدى استعمالها في خدمة القوى عاملة البشرية أو الاستغناء عنها والحلول بديلاً عنها، ولعل الشيء الأكثر أهمية في اللحظة الراهنة يتمثل في مدى التشارك الواسع في الفوائد الاقتصادية المتولدة من التقدم التقني، ولا يحصل ذلك إلا إذا استطاعت الدولة والمؤسسات الاجتماعية، على غرار النقابات، أن تؤدي دور الوزن المقابل والموازي لقوة السوق التي تحوزها الشركات التكنولوجية، ولا يغدو الناس مستسلمين وبلا حول في مواجهة التكنولوجيا الجديدة إلا إذا أتاح المجتمع حدوث ذلك.
سرديات سيئة ونتائج وخيمة
لطالما غيرت الابتكارات التكنولوجية العالم وبدلته تبديلاً، بدءاً من المحاريث المتطورة في القرون الواسطة ومروراً بآلة حلج القطن والنول الميكانيكي في القرن الـ 19، ووصولاً إلى التقنيات المحوسبة في القرن الـ20، وفي المقابل لم يسر التقدم بسلالة أبداً، وحملت كل موجة من الابتكارات مشكلاتها الخاصة وضيعت أناساً كثيرين.
ويكاد تصور المجتمعات عن دور التقنية أن يتساوى في الأهمية مع التكنولوجيا بذاتها، وتوخياً لأن يسير التغير التقني بصورة مفيدة لأوسع الشرائح الاجتماعية، يجب أن ينبث في المجتمع تصور مشترك عنها، فمثلاً عملت الرؤية المشتركة بصورة عامة على ضرورة الانتقال السريع نسبياً من الوقود الأحفوري إلى الطاقة المتجددة، وعلى تحفيز تسارع الابتكار للبدائل التي تكون في متناول العموم، على غرار الألواح الشمسية الفولطية وأدوات طاقة الرياح.
وفي مسار مغاير قد توصل السرديات السيئة عن التكنولوجيا إلى مخرجات رديئة، فمثلاً نجم إنشاء قناة بنما بين عامي 1903 و1914 عن رؤية متخبطة بصورة مذهلة، ولم يكن ذلك الممر المائي الذي يربط المحيطين الهادئ والأطلسي سوى تصور في دماغ فرديناند دي ليسبس، الديبلوماسي الفرنسي والمطور المكرم لقناة السويس المنجزة عام 1869.
وعلى رغم تطاول زمن شق قناة السويس وموازنتها المبالغ فيها وسوء أدائها بمعايير النقل، إلا أنها غذت حُمى شق الأقنية البحرية خلال الهزيع الأخير من القرن الـ 19، ما يوازي التفاؤل بالتكنولوجيا في تلك الأيام، إضافة إلى أنها درت أرباحاً طائلة على المستثمرين فيها. وبالركوب على تلك الموجة من النجاح صمم دي ليسبس تحقيق حلمه المديد عن شق قناة عبر أميركا الوسطى، وعلى غرار ما حدث مع مخططاته في شأن قناة السويس، نسج دي ليسبس رؤية مؤثرة عن قوة تلك التكنولوجيا في ربط أرجاء العالم ببعضها بعضاً وتعزيز التجارة العالمية.
وفي مسار مغاير جاء تصميم ذلك المشروع على شكل كارثة هندسية رافقها سوء التخطيط والتنفيذ، إضافة إلى الكارثة الإنسانية التي تعرض لها العمال خلال موجة من وباء الحمى الصفراء. [تتمثل الحمى الصفراء بحدوث ارتفاع مفاجئ وحاد في حرارة الجسم يرافقه غثيان وقيء، مع احمرار العينين واصفرار لون الجلد الناجم عن التهاب في الكبد، وتنجم من الإصابة بفيروس ينقله البعوض]. وسرعان ما وضعت “شركة قناة بنما” تحت الحراسة القضائية، وقضى دي ليسبس محاطاً بسمعة رديئة، فكان أشبه بحال ملك العملة المشفرة [سام بنكمان] في أيامنا هذه. [أحيل بنكمان إلى القضاء ثم سجن وصودرت أمواله بعد أن كان ملياردير الاستثمار في تقنيات العملة المشفرة، وصار مثلاً عن السقوط والتحطم]، فلم تكن الرؤية إلا سراباً وقادت دي ليسبس ومستثمريه إلى الهاوية والخراب.
وفي كتابهما يحاجج إسموغلو وجونسون بأنه على غرار التوق إلى شق القنوات البحرية في القرن الـ19، فإنه من الصعب الاطمئنان إلى الرؤية التي تقود صناع الذكاء الاصطناعي ومطوريه والمتمرسين فيه، إذ يقيس أولئك الصنع التقدم التقني بمدى قدرة الآلات على الحلول بديلاً عن البشر، مما يقود المبتكرين إلى صنع منتجات متخصصة في مهمات معينة تؤديها بدلاً من الإنسان، وعلى عكس ذلك يقترح المؤلفان توجيه الجهود والاستثمارات للعمل بوحي من فكرة “الآلات النافعة” بهدف ابتكار تقنيات تساعد البشر في تحقيق أهدافهم.
سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
تابعوا أحدث أخبارنا وخدماتنا عبر حسابنا بتويتر