سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
عبدالله الذبياني
مدخل
الجغرافيا السياسية هي العلم الذي يبحث في تأثير الجغرافيا على السياسة، والباحثون في هذه العلم يرون أن هناك علاقة طردية بين مساحة الدولة وقوتها السياسية أو إيراداتها.
هل يمكن من خلال هذه النظرية، التي تعد حقيقة لدى الباحثين في علم الجغرافيا السياسية، معرفة الأسباب التي أدت بجماعة الإخوان المسلمين إلى الوضع الذي تعيشه الآن، فبعد أن كان حلمها طوال 80 عامًا أن تحكم مصر سياسيًا، وتدير القرار السياسي والاجتماعي في السعودية، وهي فعلت كل ما في وسعها ماليًا وسياسيًا لتحقيق هذا الهدف، وركزت كل قواها على ضفتي البحر الأحمر، إيمانًا بأن السيطرة السياسية والاجتماعية على هاتين الدولتين، تعني إدارة شؤون المنطقة وبناء دولة الخلافة، ها هي تنزوي في مناطق لا تملك قوى بشرية تدعم وجودها ولا بعدًا جغرافيًا يضمن لها القوة السياسية.
وفي الوقت الذي اعتقدت المنظمة أنها في أقرب نقطة من تحقيق هدفها، مع وصولها لسدة الرئاسة في مصر وسط انتخابات مشبوهة، ومع وجود صدى لهذا الفوز وسط عناصر الجماعة الموجودين في السعودية، ومع سيطرة خلاياها خلال عقود ماضية على مفاصل عديدة في الدولة، كان من الطبيعي – مع هذه المعطيات – أن تكون هذه المرحلة أو تلك السنة 2013، إيذانًا ببدء دولة الخلافة رسميًا وبرضا الشارع في مصر وترحيب الخلايا الإخوانية في السعودية.
تصادفت هذه القفزة الإخوانية مع وجود رجل ضعيف في البيت الأبيض، أبرم اتفاقًا مع إيران كان يعد بمثابة تهديد للأمن الاستراتيجي للسعودية، ومع الدعم اللوجستي للجماعة من البيت الأبيض، ووسط اعتقادها أن الرياض منشغلة في اتخاذ الاحترازات ضد طهران وليس غيرها، رأت الجماعة أنها أمام لحظة تاريخية نحو تحقيق مشروعها، للحد الذي لم تجد الخلايا الإخوانية في السعودية حرجًا من مبايعة مرسي (أو المرشد)، فالضلع الأول في منظومة أمن المنطقة سقط في أيديها، وتبقى ضلع واحد فقط هي السعودية، فسوريا خارج الحسابات نظرًا للأوضاع التي تمر بها فهي لم تعد تشكل حلمًا منظورًا للإخوان، ولا تشكل – أيضًا – تهديدًا لمشروع الجماعة.
غير أن ما حدث لم يكن في حسابات الجماعة، لكنه كان في حسابات الجغرافيا السياسية والقوى البشرية، فسقط الإخوان في مصر بإرادة الشعب وبإرادة سياسية وترحيب شعبي صنفت الرياض الجماعة بأنها منظمة إرهابية يُعدُّ مدانًا من ينضم لها، أو يقدم لها أي شكل من أشكال الدعم؛ وفوق ذلك، باشرت الإمارات حراكها السياسي كقوة فاعلة ومؤثرة سياسيًا واقتصاديًا في المنطقة، وصنفت المجموعة – أيضًا – حركة إرهابية، ووفق ذلك عدم القبض على عدد من عناصر الجماعة في الرياض وأبو ظبي والقاهرة، وعاد المشروع الإخواني إلى نقطة الصفر (إعلان الجماعة على يد حسن البنا مارس 1928).
أيقنت الجماعة بعد هذا السقوط أنه لا يمكن لها بناء حلمها في مصر ولا في السعودية، فالعمق السياسي والجغرافي والقوى البشرية لهاتين الدولتين وما تمثلانه من أهمية في السلم الدولي والاقتصاد العالمي، يحولان دون إعادة عقارب الحلم مرة أخرى والتخطيط له مجددًا في نفس البقعة الجغرافية.
كان على الجماعة أن تبحث عن مناطق مناسبة تفتقد أولاً العنصر الذي يتوفر في السعودية ومصر (وهما القوى السياسية والعمق الجغرافي/ عامل الجغرافيا السياسية)، وثانيًا أن تكون دولة تتوافر فيها مقومات الوفرة المالية من ناحية، ومن ناحية يكون لديها قبول بتحمل مالية الجماعة. وهذا القبول ليس بالضرورة أن يكون طوعيًا، بل قد يتأتى من هشاشة النظام السياسي وسهولة اختراقه من الجماعة.
كانت الجماعة قد استفادت من درس فرعها في غرة، وهي منظمة حماس التي تدير القطاع منذ عقد من الزمن، وهذا يعني أن الجماعة يمكنها التكون مرة أخرى في منطقة مماثلة لقطاع غزة من الناحية الجغرافية والسياسية.
فالجماعة كانت تبحث عن موقع لا تتوافر فيها الجغرافيا السياسية، حتى لا تكرر مأساتها في السعودية ومصر، لكنها – أيضًا – لا تريد أن تعيش على الفتات كما منظمة القاعدة أو حماس لحد بعيد.. ولذلك استحضرت عنصرًا إضافيًا مهمًا في مرحلة تكونها الجديدة وهو العامل الاقتصادي.
كانت البيئة مواتية في قطر، التي كانت الجماعة تملك فيها قدمًا راسخة منذ وصول القرضاوي إليها قبل 40 عامًا.
فإضافة إلى غياب عنصر الجغرافيا السياسية في قطر، فهي تملك ثروة وسط تخبط سياسي وغياب شعبي، ووسط حضور لعناصر الجماعة وعلو صوتهم وكعبهم هناك، كانت كل المعطيات ترشح قطر، وقد تولى القرضاوي وقناة الجزيرة التمهيد لذلك، لإعلان قطر رسميًا مقرًا لنشوء الجماعة من النتوء الترابي.
وحتى يكون الحديث في سياقه الطبيعي، لا يمكن تغافل الدعم الذي كانت تقدمه قطر للجماعة قبل تلك اللحظة التاريخية، غير أن قطر بحد ذاتها لم تكن حلمًا للجماعة، وليست أرضًا مناسبة لبناء الحلم، فهي قبل 2013 لمن تكن أكثر من خزينة مالية تأخذ منها الجماعة كما يأخذ غيرها، لكنها بعد هذا التاريخ أصبحت الخزينة ملك الجماعة.
وما يعكس قوة الجغرافيا السياسية والقوى البشرية في السعودية ومصر، أن الجماعة قضت 80 عامًا وأكثر لتحقيق حلمها الذي سرعان ما انهار، في حين أنها لم تحتج سوى سويعات لتملك زمام الأمور السياسية في قطر، حتى إن الإعلام هناك، الذي يديره أشخاص من إيديولوجيات وعقائد مختلفة، بات متحدثًا باسم الجماعة، وحتى الأفراد الذين لا تقبلهم أدبيات دولة الإخوان لأسباب مذهبية وعقائدية، أصبحوا منظرين لمشروع دولة الجماعة.. وهذا لم يكن ليتحقق بهذه السرعة لولا غياب عنصر الجغرافيا السياسية. هذا التمكن الذي حدث في قطر، شجع خلايا الإخوان في دول أخرى لتعلي من صوتها، ولم تعد تجد عائقًا في الخروج عن سياسة حكومات تلك الدول، بل إنها باتت تصنع سياسات خارجية تخالف، ولو شكليًا، سياسات الدول التي تقيم فيها. ليس هذا فحسب، بل إنه في عدة قرارات يلاحظ أن الحكومات طوعت مواقفها لتناسب الجماعة، فدولة الجماعة الآن على مقربة، والعامل الجغرافي مماثل، وليس من ضامن أن تذهب الجماعة بعيدًا؛ وهذا ما يفسر مواقف الجماعة في الكويت التي لم تجد أي عائق في الاصطفاف مع نظام الحمدين (نظام الجامعة على وجه الدقة) أمام مقاطعة دول مكافحة الإرهاب. ولم تجد الجماعة هناك حرجًا في أن تعلن دعمها لأردوغان في أزمته الاقتصادية وكأنها تدير الخزانة العامة، بل إن اختراقها هناك بلغ أن يعلن مسؤولون في الحكومة دعمهم للاقتصاد التركي رغم الأوضاع الاقتصادية التي تمر بها بلادهم.
نضيف – أيضًا – أن الجماعة لقيت فترة حكمها في مصر الدعم من الحزب الإخواني في تركيا وعلى رأسه الرئيس أردوغان، مماثل جدًا للدعم الذي تلاقيه الآن في قطر، لكنه ذهب هباء في القاهرة بحكم الجغرافيا السياسية، ووجد جيوبًا بيئية مناسبة في قطر في ظل غياب الجغرافيا السياسية… كما حال دعم الرئيس التركي لمنظمة حماس في غزة، لن يكون بمقدوره تقديم هذا الدعم واستدامته في أماكن غير مماثلة لقطاع غزة جغرافيًا وسياسيًا.
كاتب وباحث سعودي*
@abdullah_athe
سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
تابعوا أحدث أخبارنا وخدماتنا عبر حسابنا بتويتر