سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
سوسن عبدالله
ظهر ولي العهد، محمد بن سلمان، في الوقت والمكان المناسب، مخاطبًا العالم الغربي والشعب الأميركي، فجر يوم الاثنين 19 مارس 2018م، عبر أشهر برنامج “Minutes 60” على شبكة CBS التلفزيونية الأميركية في لقاء تاريخي مع الصحفية نورا أودونيل، بعد ثلاث سنوات من المفاوضات لإجراء مقابلة مع القيادة السعودية. ويعتبر هذا اللقاء لولي العهد، أو كما يُلقب في الإعلام الغربي بـMBS، أول حديث لمسؤول سعودي منذ عام 2005 للإعلام الأميركي؛ حيث استغرقت المقابلة الرسمية 90 دقيقة في المجمع الملكي في الدرعية، قبيل مغادرة ولي العهد إلى بريطانيا.
لماذا برنامج “Minutes 60“؟
يأتي إظهار وتقديم ولي العهد لـلشعب الأميركي كشخصية العربي المسلم الذي يقود التغيير في السعودية، كونها ممثلة للإسلام في وجدان المسلمين عامة، والعرب خاصة، حين تحدث عن رغبته في إعادة الإسلام الوسطي لما كان عليه، عازمًا على إزاحة ملامح شخصية العربي المسلم المرتبطة بالثقافة العدائية الرافضة للثقافة المغايرة، وهو ما أكّدته وسائل الإعلام الغربية في حملاتها الإعلامية ضد السعودية.
يمكن وصف العلاقة بين السعودية والولايات المتحدة بالجيدة، منذ عهد مؤسس التوحيد الملك عبدالعزيز آل سعود – رحمه الله – والرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت، لكن اضطربت علاقة السعودية بالولايات المتحدة منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر، وما تبعها من حملة إعلامية غير مسبوقة في ضراوتها ضد السعودية، بعثت بها صراع الحضارات والشعوب على الساحة الدولية، وأعادت بناء مفاهيم قديمة كمفهوم الجهاد والكفار، وتأويل النصوص المقدسة في الخطاب الديني.
كان خطاب ولي العهد، موجّهًا لفئتين هما: “الجمهور الفطن” في الشعب الأميركي الذي لديه المعرفة بأمور السياسة الخارجية وهو الأهم؛ حيث يملك التأثير في صناعة السياسة الأميركية تجاه المنطقة العربية، “والجمهور العام” الذي يغلب عليه المناخ الفكري الأميركي السلبي تجاه المسلمين، وتحديدًا السعودية التي ارتبط اسمها بالإرهاب بعد أحداث 11 سبتمبر، ويعد الجمهور العام أقل تأثيرًا في الرأي العام الأميركي لنقص اهتمامه ومعرفته بالسياسة الخارجية وسرعة تأثره بالقيادة السياسية. ومما يؤكد هذه الصورة النمطية، هو السؤال الذي استفتحت به الصحفية لقاءها مع ولي العهد، بارتباط اسم السعودية بأحداث 11 سبتمبر وأسامة بن لادن، وكان لمّاحًا في إجابته والتعامل بقوة الحق الذي يغلب قوة المنطق، حين استشهد بوثائق وكالة المخابرات المركزية CIA وتحقيقات الكونجرس بأن الهدف هو خلق الانشقاق بين الشرق الأوسط والغرب، وبين السعودية والولايات المتحدة.
يؤمن ولي العهد بالقيمة السياسية للإعلام ودوره في صناعة الصورة الثقافية والفكرية للشعوب، سواء على مستوى تحليل المعلومة، أو تحليل الخبر، أو تحليل الصورة على مستوى أنها علامة، أو فكرة، أو سلوك. لقد اختزل الإعلام صورة التاريخ الشخصي للجماعة في صوت وصورة، وهنا تكمن خطورة الصوت والصورة التي كانت هاجسًا للدكتور غازي القصيبي – رحمه الله – في كتابه (أميركا والسعودية). لكن في هذا اللقاء، يرى المشاهد الأميركي التقارير- المقتطفات التصويرية – في البرنامج كمصادر لحكاية التغيير ووثائق من الواقع الحقيقي للسعوديين يتطلعون إلى عهد جديد، بعيدًا عن الصورة النمطية للسعودية المختزلة في الصحراء والنفط؛ وهو ما أكّده ولي العهد، حينما وجّه رسالة مباشرة لمشاهدي البرنامج باستخدام هواتفهم الذكية لمعرفة السعودية الحقيقية بالبحث في غوغل خلال السبعينيات والستينيات.
صنع محمد بن سلمان، حكاية التغيير والسعودية الجديدة من خلال الإعلام الأميركي باستخدام وظيفتين من الوظائف الخمس للغة، هما: الانفعالية والإقناعية، حيث استهدف شحن الموقف الإعلامي بالإثارة من خلال موقفين:
الموقف الأول: عند تشبيه الزعيم الإيراني علي خامنئي بـ”هتلر” الجديد في الشرق الأوسط، فكلاهما لهما هدف الهيمنة والتوسّع بمشروع خاص، ولم تدرك أوروبا خطورة هتلر في ذلك الوقت بتأسيسه للدولة النازية وقتل ما لا يقل عن 11 مليون إنسان، بما في ذلك 6 ملايين يهودي لقوا مصرعهم خلال الإبادة الجماعية في الحرب العالمية الثانية. في هذا الموقف استحضر صفحة مؤلمة شكّلت تاريخ العالم السياسي والعسكري والاستراتيجي، وقاربها مع نظام الملالي الذي بدأ منذ وصوله للسلطة عام 1979، في إنشاء ثورة حلت محل الدولة لفرض هيمنتها “حلم إعادة الإمبراطورية الفارسية”، من خلال بث الغوغائية بالدول العربية؛ مما تسبب في توتير المنطقة ونسف استقرارها، وإدخالها في حروب غير مباشرة، جميعها كانت إيران طرفًا فيها.
أمَّا الموقف الثاني: فهو حين شدد على أن السعودية لا تحتاج إلى أي قنبلة نووية، لكنها ستسارع لامتلاكها في حال امتلكتها إيران، وظنّ البعض ذلك تهديدًا، لكنه إعلان لمستوى القوة ونوعها اللذين تملكهما السعودية؛ لأن ولي العهد أكّد أن إيران ليست ندًّا، فالتقدم التقني والصناعي والعسكري السعودي يفوق الإمكانيات الإيرانية التي ليست سوى نمر من ورق.
طرح ولي العهد، فوق طاولة المقارنة، أنه لا يتوقع قبول الولايات المتحدة بوجود ميليشيا على حدودها مع المكسيك تطلق الصواريخ على واشنطن، بصورة لا تخلو من حنكة سياسية، فهو يستحضر التفكير النفعي للسياسة الأميركية، الذي يعني البعد عن التعامل مع الرهانات القابلة للخسارة، كذلك فكرة التعميم التي قد تمارسها الإدارة الأميركية، حيث ظهر التفكير المنطقي لولي العهد كقائد سياسي يملك الرؤية الواضحة.
أكّد ولي العهد، على الأمن الاستراتيجي للسعودية على المستوى الجغرافي، وتأثيره في حركة القضايا العربية والإسلامية وتحولاتها، والذي يمتد إلى داخل الحدود اليمنية، حين تحدّث عن التوغل الأيديولوجي الإيراني المتطرف واختراقه لبعض أجزاء اليمن، وقيامه بمناورات قريبة من حدود السعودية، ومنع الميليشيات الحوثية من وصول المساعدات للتسبب في مجاعة وأزمة إنسانية. لقد تمكنت إيران من تقديم الحوثيين على أنهم فصيل سياسي في اليمن، يواجه قوات يمنية عربية، وأنه جزء من المجتمع يطالب فقط بحقوق شرعية، رغم أنها “ميليشيا تنفذ الأجندة الإيرانية”، وهو ما صرّح به قائد الحرس الثوري الإيراني اللواء محمد علي جعفري، بعد مقتل الرئيس اليمني السابق علي عبدالله صالح بدعم إيران للحوثي بشكل استشاري ومعنوي، وهو ما يعتبر اعترافًا ودليلاً قاطعًا على تورط إيران في اليمن.
شخصية ولي العهد
القادة والزعماء هم من يصنعون الأحداث في العالم، سواء في حالة الحرب، أو السلم. لذا، عند دراسة السعودية الجديدة، تبرز عدة محددات خارجية وداخلية، وأهمها المحددات المتعلقة بالقائد السياسي للمرحلة من حيث إدراكه للموقف، وشخصيته، وأسلوبه في اتخاذ القرار، ودوافعه الذاتية ونشأته التي تمثل أساسًا مهمًا لدراسة القرار في العالم، لا سيَّما في التاريخ المعاصر الذي يمثل عصر الإعلام الرقمي والمعلومات.
تطرق ولي العهد، إلى أثر والده الملك سلمان، في نشأته وثقافته المعرفية بتكليف أبنائه بقراءة التاريخ أسبوعيًا، واستشهد بقول والده: “إذا قرأت تاريخ ألف عام، فأنت لديك خبرة ألف عام”، ويبدو أنه رأى تاريخ هتلر فعليًا في خامنئي، فصاحب البصيرة هو الذي يقلب التاريخ، حيث ذكر السياسي والكاتب إيدموند بيرك “من لا يعرف التاريخ محكوم عليه بتكرار الأخطاء التي وقعت فيه”.
إن المراقب لمقابلة ولي العهد، يرى عدم اعتماده على العاطفة الجماهيرية الجارفة التي تمثل الحالة البدائية للمجتمعات لحشد الرأي العام، والتي استغلها معظم رؤساء دول ما يسمى بـ”الربيع العربي” حتى سطّر التاريخ نهايتهم المؤسفة. لقد كان حديث ولي العهد الشاب، موضوعيًا ومختصرًا، واعتمد على الجمل البسيطة القصيرة، وطبق قاعدة “خير الكلام ما قلّ ودلّ”، فهو يعلم تمامًا أنه يخاطب مجتمعات معلوماتية واعية، وأمام تاريخ يُكتب بوضوح لا يتيح لأحد كتابة سطر منه غير واقعي.
جرت العادة في مقابلات الرموز السياسية والرؤساء، إطلاعهم على طبيعة الأسئلة التي ستتضمنها المقابلة، أو اللقاء في وسائل الإعلام، لاختيار ما يسمح به البروتوكول، وتعتبر أحد حقوقهم اعتبارًا لمكانتهم ومسؤولياتهم، وهذا ما لم يضعه ولي العهد، سواء بأسئلة مشروطة، أو موضوعات محظورة. اتضح ذلك عند سؤال الصحفية لولي العهد، بناء على تقرير نشرته نيويورك تايمز الأميركية، في منتصف ديسمبر الماضي، يتطرق إلى إنفاقه وشرائه قصرًا في فرنسا ويختًا، وهو ما أثار ضجة حول ممتلكاته، إذ لم يرفض التعليق، بل كانت إجابته مباشرة غير ملتوية بصوت واضح خالٍ من التردد أو الارتباك بعبارة: “أنا ثري ولست غاندي أو مانديلا، كما أنني عضو في عائلة حاكمة قبل مئات السنين من تأسيس السعودية”.
إن لتعليم محمد بن سلمان، وحصوله على درجة البكالوريوس في القانون، تأثيره الكبير في سلوكه السياسي واتخاذه للقرارات، وحزمه على تحقيق العدالة، وعزمه الشديد على فرض القانون على الجميع دون تمييز، وهو ما حصل في حملته الجريئة ضد الفساد، التي لم تخرج عن “تطبيق القانون وعقابًا للمفسدين، ونجحت الحكومة في استرداد أكثر من 100 مليار دولار”. بالإضافة إلى وعيه التام بأن النظام التعليمي في السعودي مخترق من جماعة الإخوان، وسيتم القضاء عليهم في فترة قصيرة. وربَّما إحدى الخطوات، هي قرار واحدة من أكبر الجامعات السعودية بعدم تجديد لبعض الأكاديميين السعوديين وغير السعوديين ممن هم متأثرون بفكر تنظيم الإخوان الإرهابي وعدد من التنظيمات الأخرى بعد ثبوت تورطهم وتأييدهم لهذه الجماعات بالوثائق.
ويظهر الجانب القانوني من شخصية ولي العهد، في حواره حول قضية حقوق المرأة السعودية التي حظيت باهتمام كبير من وسائل الإعلام العالمية بتعليقه: “أن الرجل والمرأة متساويان، والدين لم ينص على ارتداء العباءة السوداء، كما كفلت الشريعة الإسلامية حقوق المرأة لكنها لم تحصل عليها، وأننا قطعنا شوطًا طويلًا لإعطائها هذه الحقوق”، ولم يقبل مقارنة المعايير الأميركية في الحقوق بمعايير السعودية التي تضمنت نبرة حادة بضرورة احترام معاييرنا في حقوق الإنسان.
كشفت المقابلة الكاريزما العالية الظاهرة على شخصية ولي العهد، حيث ظهر بالزي الرسمي السعودي الذي يعكس الهوية الوطنية وإبرازها للعالم، وأهمية عزلها عن الزي المشوّه المرتبط بالجماعات الإرهابية. كما أن للغة جسده دلالات، حيث اتسمت عليه الصراحة والصدق، ودقة الملاحظة وانفتاح على الآخر. إضافة إلى عمق المعرفة التي ينطلق منها محمد بن سلمان، حيث كان دقيقًا في ذكر الأرقام وتاريخ العلاقات الدولية بين السعودية والولايات المتحدة والدول الأخرى. كما ابتعد عن إثارة التساؤلات وتركها معلقة دون إجابات، بل يعقبه بجواب صريح وواضح، أو يعقبه بكلمات مكررة، وهي: (بلا شك، صحيح، وبالطبع) لتأكيد المقصود في ذهن المشاهد. وفي نهاية اللقاء كانت الإجابة الشجاعة والتحدي بعزمه على التغيير ولن يوقفه عن تحقيقه “إلا الموت”!.
أتت المقابلة في وقت حساس ومهم من تاريخ منطقة الشرق الأوسط، وتمهيدًا لزيارة ولي العهد للولايات المتحدة، مساء اليوم، في جولة جديدة تشمل 6 مدن أميركية، وتعزيزًا للمصالح المشتركة بين الرياض وواشنطن، خاصة بعد تصاعد حدة التوتر بين السعودية وإدارة الرئيس الأميركي باراك أوباما في أكتوبر 2013، بعد رفض الرياض لمقعد في مجلس الأمن الدولي، احتجاجًا على تقاعس مجلس الأمن والولايات المتحدة في النزاع السوري. كما أدى توقيع الاتفاق النووي مع إيران عام 2015 إلى أزمة ثقة مع أوباما. فمن المحتمل أن يشهد لقاء محمد بن سلمان ودونالد ترمب، قرارات وتحالفات واتفاقات أكثر عمقًا من ذي قبل بعد خروج ريكس تيلرسون من وزارة الخارجية الأميركية.
باحثة في الإعلام السياسي*
@sawsan3bdullah
المراجع
سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
تابعوا أحدث أخبارنا وخدماتنا عبر حسابنا بتويتر