سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
سامي عمارة
وها هي الأوضاع في روسيا تبقى على ما كانت عليه، وعلى المتضرر، ان يواصل العمل من أجل بناء جبهة معارضة تستطيع تغيير واقع الفوز الساحق الذي يحققه الحزب الحاكم «حزب الوحدة الروسية» منذ تأسيسه في مطلع القرن الحالي.
تلك هي خلاصة القراءة الأولية للنتائج التي أسفرت عنها الانتخابات البرلمانية الأخيرة في روسيا. فقد بقيت الأوضاع في مجلس الدوما على ما كانت عليه، منذ الإعلان عن عودته في عام 1994. كما حقق «حزب الوحدة» ما كان يبتغى دوما من الحصول على الأغلبية الدستورية أي نسبة ثلثي الأعضاء+1، في ظل تهافت نتائج المعارضة «الممنهجة» أي المسجلة رسميا، التي كثيرا ما أطلقنا عليها تسمية «المستأنسة» نتيجة خضوعها المستمر لواقعها الذى تقف عاجزة عن تغييره على مدى ما يقرب من الثلاثين عاما.
جرت انتخابات مجلس الدوما الأخيرة وسط أجواء سادها الكثير من التوتر الناجم عن تصعيد الأوساط الغربية انتقاداتها وهجماتها ضد النظام القائم في روسيا، في محاولة لتصفية حسابات خاصة لا علاقة لها بواقع الأمور داخل الساحة الروسية، وفي توقيت نجح فيه الحزب الحاكم في حشد كل الجهود البشرية والمادية اللازمة للتمويل والدعاية لمرشحيه بغض النظر عن «الملاحظات والاتهامات بالتزوير»، التي اكدت وزارة الداخلية الروسية أنها لم تؤثر على نتائج هذه الانتخابات. وكانت انتخابات هذا العام شملت اختيار أعضاء مجلس الدوما، وانتخاب أعضاء عدد من محافظي الأقاليم والمقاطعات، وكذلك المجالس النيابية في عدد من الأقاليم، وهي التي سارعت الكثير من الدوائر الغربية إلى الإعلان عن عدم اعترافها بنتائجها، وأحيانا قبل بدء عملية التصويت.
وقد كشف الكرملين والحزب الحاكم وكل أجهزة الدولة عن الكثير من الاهتمام الخاص بهذه الانتخابات، الامر الذي عزاه كثيرون من المراقبين الى ما جرى إقراره من تعديلات دستورية تمنح البرلمان في دورته المقبلة الكثير من الصلاحيات التي لم يكن يتمتع بها في دوراته السابقة. وتتعلق هذه التعديلات بأحقية المجلس في اختيار رئيس الحكومة والتصديق عليه وعلى الوزراء، فضلا عن دوره المحوري في تحديد توجهات وخيارات الانتخابات الرئاسية المرتقبة في عام 2024 التي من المتوقع ان يحسم معها الرئيس بوتين موقفه من احتمالات الترشح لفترة – او لفترتين رئاسيتين – قد تمتد حتى عام 2036. وإن كان هناك من يتوقع ان يمتنع بوتين عن الترشيح لفترتين رئاسيتين مقبلتين، حسب ما كشف عنه رئيس بيلاروس ألكسندر لوكاشينكو الذي قال ان بوتين صارحه بذلك، وإن كانت المؤشرات تقول إن بوتين وفيما اتخذ مثل هذا القرار، يظل مدعوا الى البقاء على مقربة، بما يكفل له تأمين وضعيته والمحيطين به، حسب مراقبين كثيرين في العاصمة الروسية.
وعودة الى الانتخابات البرلمانية وما أسفرت عنه من نتائج، نشير الى ان الحزب الشيوعي ورغم فوزه بنسبة تفوق بما يقرب من ضعفي الأصوات التي حصل عليها في الدورة السابقة، بما يعنى تعزيز عدد أعضائه في الدورة المقبلة، فإنه لن يستطيع ان يسهم في إجراء التغيير المنشود، لأسباب تعود في معظمها الى هيمنة الحزب الحاكم وتمتعه بالأغلبية الدستورية التي تكفل له تحقيق كل ما يريده من تغييرات تشريعية، وإقرار ما تطرحه حكومته من قوانين. ورغم ان البرلمان يضم في دورته المرتقبة حزبا خامسا هو «حزب الناس الجدد» او «الشعب الجديد»، لأول مرة منذ تشكيل مجلس الدوما في 1994، بعد نجاح أعضائه في تجاوز نسبة 5% من أصوات الناخبين، وهي نسبة تكفل لهم 13 مقعدا في الدورة المقبلة للبرلمان الروسي، فإن مواقع المعارضة ستظل تتسم بالضعف وعدم القدرة على إحداث التغيير المطلوب لأسباب تعود في معظمها الى ما صار يملكه الحزب الحاكم من اغلبية دستورية تبدو أقرب الى حق «الفيتو» في مجلس الامن الدولي. وقد فسرت ساردانا أفكسينتيفا مستشارة زعيم حزب «الناس الجدد»، النتائج العالية التي حققها الحزب، إلى ان ذلك يمكن ان يعزى الى ما وصفته بـ «المطالب الكبيرة لإجراء التغيير» في المجتمع. كما ان هناك ثلاثة من ممثلي الأحزاب الأخرى استطاعوا الفوز بثلاثة مقاعد بموجب النظام الفردي، وهو ما يعنى عمليا ان الدورة المقبلة ستشهد لأول مرة في تاريخ مجلس الدوما المعاصر تمثيل ثمانية أحزاب يعلق عليها الكثيرون في الساحة الروسية الكثير من الآمال في إضفاء الحيوية على نشاط المجلس، والتصدي للهيمنة الكاسحة للحزب الحاكم.
أما عن الفوز الكبير الذي حققه الحزب الحاكم، وبغض النظر عما يقال حول «التزوير» و«استغلال الجهاز الإداري» لآليات ومؤسسات الدولة في الدعاية لمرشحيه، فضلا عن نظام «التصويت الالكتروني» الذى قالوا إنه جرى اختراقه، فإن المؤشرات تقول انه يعود أيضا وبدرجة كبيرة إلى ضعف المعارضة وترهلها، وتردى أدائها في الدورة السابقة، فضلا عن سقوط الكثيرين من أعضائها في شرك الجري وراء الامتيازات، حتى لا نقول ما هو أكثر. ويكفي ان نشير الى ان مجلس الدوما في دورته السابقة، كان يضم بين جنباته ثلاثة مليارديرات، وما يقرب من مائتي مليونير «دولاري». ولعل ذلك يمكن ان يفسر مدى الملل الذي أصاب الملايين من الناخبين من جراء «مشاهدة الوجوه نفسها التي طالما «ازدانت» بها مقاعد المعارضة في كل الدورات السابقة دون نتيجة، أو تغيير يُذكر.
وكان الحزب الحاكم أكثر حسما في تعامله مع قضية الانتخابات برمتها، ولا سيما في موقفه من اختيار قائمة مرشحيه التي تصدرتها أسماء الشخصيات الأكثر شعبية وقبولا في الساحة الروسية، ومنها سيرجي لافروف وزير الخارجية وزميله سيرجى شويجو وزير الدفاع، إلى جانب يلينا شميليوفا الرئيس المناوب للجبهة الشعبية التي أسسها الرئيس بوتين في مايو 2011، ودينيس كبير أطباء المستشفي المركزي لمواجهة وباء الكورونا، تقديرا لما بذله ورفاقه من جهود خارقة في كسر حدة انتشار هذا الوباء، وأنًا كوزنيتسوفا مفوض الرئيس لحقوق الأطفال، لتعويض القصور الذى أصاب حركة الحزب الحاكم إبان سنوات حكم دميترى ميدفيديف سلفه او خليفته أيا كانت التسميات آنذاك. وبهذه المناسبة توقف المراقبون كثيرا عند استبعاد اسم ميدفيديف من صدارة قائمة الحزب الحاكم رغم كونه لا يزال رئيسا لهذا الحزب. وبالمناسبة فقد غاب ميدفيديف أيضا بحجة المرض، عن احتفالات «حزبه» بالفوز الساحق الذى حققه في انتخابات مجلس الدوما، وتجاوزه النصاب اللازم للحصول على الأغلبية الدستورية. وكانت النتائج شبه النهائية كشفت عن فوز مرشحيه بـ 324 مقعدا من مجموع أعضاء المجلس البالغ عددهم 450 مقعدا، بموجب القائمة الحزبية (126 عضوا) من 225، والنظام الفردي – 198 مقعدا من 225!
أما عما يقال حول القيود التي فرضتها الدولة ضد ترشح أسماء بعينها ومنها أنصار المعارض الروسي السجين حاليا الكسى نافالني، فهو قول حق يراد به باطل. فلم تكن هذه الأسماء لتحظى عمليا بالدعم الشعبي المطلوب لتجاوز نسبة 5% المقررة كحدٍ أدني لدخول البرلمان بالنسبة للقوائم الحزبية. ويكفي ان نسوق دليلا على ذلك، ان الأحزاب الشرعية السبعة الأخرى التي خاضت هذه الانتخابات لم يحصل أى منها على ما يزيد عن واحد في المائة بموجب القوائم الحزبية، وان استطاع ثلاثة من ممثلي هذه الأحزاب الفوز بموجب النظام الفردي كما أشرنا عالية، فضلا عن حزب المتقاعدين الذي اقترب من 3% وهي النسبة التي يمكن ان تكفل له الحصول على الدعم المالي من جانب الدولة لدعم نشاطه. وفي هذا الصدد نتوقف لنشير إلى ان «أنصار نافالني»، وادراكاً من جانبهم لحقائق الأوضاع على أرض الواقع، جنحوا ومنذ بداية العملية الانتخابية الى دعوة ناخبيهم الى التصويت لمصلحة من يرون لديه القدرة والفرصة الأكثر حظا في الفوز، تحسبا لاحتمالات تحويل أصواتهم الى «سلة الحزب الحاكم»، حسب النظام المعمول به. وثمة مراقبون كثيرون يقولون ان اغلبية أصوات هؤلاء، ذهبت بالفعل الى الحزب الشيوعي الروسي، الذى كثير اما جاء «ثانيا» في كل الانتخابات البرلمانية التي جرت منذ مطلع تسعينيات القرن الماضي.
غير ان جينادى زيوجانوف زعيم الحزب الشيوعي الروسي ومنذ تأسيسه في عام 1993 أعلن رفضه قبول مثل هذه الاحكام، وهو ما حاول تأكيد نقيضه بالإشارة الى ما حققه الحزب من نتائج طيبة حققت الفوز على الحزب الحاكم في الكثير من مقاطعات وأقاليم الشرق الأقصى الروسي، بما في ذلك في مقاطعة خاباروفسك التي تتواصل احتجاجاتها ضد السلطات الفيدرالية وحزب «الوحدة الروسية» لما يزيد على العام لأسباب متعددة. وفي هذا الصدد أشار زيوجانوف في تصريحات نقلتها القناة الإخبارية الرسمية «روسيا -1 «، الى ان التزوير في هذه الانتخابات لم تشهده روسيا منذ عام 1996، في إشارة الى الانتخابات الرئاسية الروسية التي خسرها زيوجانوف في جولتها الثانية، رغم اعتراف الكثيرين، ومنهم عدد غير قليل من كبار قيادات الدولة والحكومة بوقوع التزوير الذي كان «مطلوبا» للإعلان عن فوز الرئيس الأسبق بوريس يلتسين.
وكانت موسكو الرسمية كشفت عن وجود فريق من الخبراء الأمريكيين الذين وصلوا الى موسكو بدعوة خاصة من الكرملين للعمل تحت إشراف تاتيانا «ابنة الرئيس» على الحملة الانتخابية للرئيس الروسي الأسبق.
وفي هذا الصدد أعرب عدد من ممثلى أحزاب وقوى المعارضة عن احتجاجهم أيضا ضد نظام التصويت الالكتروني (عبر الانترنت)، الذي عزوا إليه بعضا من وقائع التزوير، وهو أمر يتعذر اثباته، وخاصة ان هناك في موسكو وحدها ما يقرب من المليونى ناخب أدلوا بأصواتهم بموجب هذا النظام، ومنهم الرئيس بوتين ورئيس حكومته ميخائيل ميشوستين. غير ان هذا النظام وما قيل حول تدخل الجهاز الإدارى للدولة، لم ينجحا في إنقاذ الحزب الحاكم من خسارته معركته حول منصب محافظ الإقليم الذى فاز به ممثل الحزب الليبرالي الديمقراطى «المعروف تحت اسم حزب جيرينوفسكي»، الذى تراجعت مواقعه حتى 21 مقعدا ليقنع بالمركز الرابع متخلفا عن المركز الثالث الذي فاز به حزب العدالة الروسية بعد تحالفه مع حزبي «الوطنيون الروس» بزعامة جينادى سيميجين الذى سبق وانشق عن الحزب الشيوعى الروسي، وحزب «من أجل الحقيقة» بزعامة الأديب الروسى القومى زاخار بريليبين. وبهذه المناسبة أعرب رئيس الحزب سيرجى ميرونوف عن سعادته بحصول حزبه على المركز الثالث الذى قال انه يحصل عليه لأول مرة منذ تأسيس الحزب في عام 2006، بما يرفع عدد أعضائه في المجلس النيابي، حتى 27 مقعدا.
وهكذا تسدل موسكو الستار على العملية الانتخابية، رغم ما يتواصل من جدل وصخب احتجاجا ضد نتائج الانتخابات البرلمانية الروسية، لتتحول الى الاستعداد لبدء دورة برلمانية جديدة في السابع من أكتوبر المقبل، يعرب الكثيرون عن آمالهم في ان تحقق ما تصبو اليه روسيا حكومة وشعبا، من التغيير المنشود في فترة ثمة من يقول إنها الأكثر توترا وحساسية في تاريخ روسيا المعاصر والتي قد تمتد الى عام 2024 موعد الانتخابات الرئاسية المقبلة.
المصدر: صحيفة الأهرام
سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
تابعوا أحدث أخبارنا وخدماتنا عبر حسابنا بتويتر