سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
يبدو أن حمى الحركات المتطرفة تواصل انتشارها في العالم، حتى وصلت البرازيل فقد أسرفت نتائج الانتخابات الرئاسية التي شهدتها في أكتوبر الماضي صعودًا لليمين المتطرف على حساب اليسار، وقد نُصِّب جايير بولسونارو رئيسًا للجمهورية بنسبة 55.1% أي ما يُعادل 57 مليون صوت، وبفارق 10 نقاط عن منافسه في حزب العمال وأحزاب اليسار فرناندو حداد الذي لم يحظَّ إلا بـ 44.9% من الأصوات بما يُعادل 47 مليون صوت.
وتُمثل البرازيل أكبر دولة في أمريكا اللاتينية وثالث أكثر بلدٍ في الأمريكيتين وخامس أكبر دولة في العالم، كما تحتل المركز السابع في قائمة أقوى اقتصادات العالم، وهي دولة اتحادية تتكون من ستٍ وعشرين ولاية ومقاطعة فيدرالية واحدة تضم العاصمة برازيليا وتتألف فيها الهيئة التشريعية الكونغرس من مجلس الشيوخ ويضم واحد وثمانين عضوًا أي ثلاثة أعضاء عن كل ولاية، ومجلس النواب ويتألف من خمسمئة وثلاثة عشر عضوًا وتقوم فكرة التقسيم على أن مجلس الشيوخ يُمثل مصالح الولايات بينما يُمثل مجلس النواب عموم الشعب.
الانتخابات الرئاسية لهذا العام تُعد الأكثر تعقيدًا في تاريخ البلاد، إذ شكلت نتائجها آخر حلقات الصعود المضطرد لليمين المتطرف حول العالم، خاصة في ظل تصريحات ومواقف رئيس البلاد الجديد التي وصفها البعض بأنها فاشية وتنهي عصر اليسار الذي ظل مسيطرًا على زمام الحكم في البرازيل لعقدين سابقين.
ولعل الباحث في أسباب التحول السياسي الأخير، يجد أنّه لا ينفصل عن سياسات اليسار في السنوات الأخيرة والتي لم تخلو من قضايا فساد ذاع سيطها في القارة الأمريكية، بالتزامن مع قهر للممارسة السياسية وتراجع كبير لمعدلات التنمية، ما دفع الأحزاب اليمينية للظهور بقوة، ومن ثمَّ قادت البلاد ، لكن إلى أين ستقودها؟
اليسار ورحلة الصعود المتنامي
شهدت ثمانينيات القرن الماضي ولادة أول حزب اشتراكي في البرازيل، كان مواجهًا للسلطة ومنحازًا للفقراء آنذاك وظهر اسم “لويس إيناسيو لولا دا سيلفا” كأحد أبرز مؤسسيه وهو الذي انخرط في العمل النقابي منذ أواخر الستينيات ثمَّ ما لبثَّ أن انتُخب رئيسًا لاتحاد عمال الصلب في منتصب السبعينيات وعمل تدريجيًا إلى تحويله إلى حركة مستقلة واستحدث فيها منصبًا مهمًا هو حاكم ولاية “ساوباولو” وقام هو بالمهمة، ومع نهاية الثمانينيات وعلى مدار عقد كامل حاول الحصول على كرسي الرئاسة لكنّه لم يحظَّ به إلا في عام 2002 وكان أول رئيس من صفوف الطبقة الكادحة العاملة.
استبشر البرازيليون خيرًا بالقادم الجديد كونه وعد بنزاهة الحكم لصالح الفئات الشعبية وأغدق عليهم بالبرامج الاجتماعية التي تُحسن مصير أفقر الشرائح، وبدأ بالفعل بتنفيذ وعوده فانتزع ثلث شعبه من الجوع وأمنَّ لهم متطلبات الصحة والتعليم والغذاء، ما جعله ينجح في استمالة قلوب وأصوات الناخبين مجددًا في عام 2006 ليفوز بولاية ثانية ساهم خلالها في تحقيق العدالة الاجتماعية،(1)كما انتهج سياسات ليبرالية فاقت أحلام شريحة الرأسماليين لحماية صناعاتهم واستثماراتهم وفي عهده تطورت الصناعات المتقدمة كصناعة السيارات والطائرات وتُشير تقديرات شركة إمبراير البرازيلية أنها توسعت في تصنيع الطائرات التجارية وساهمت بنسبة كبيرة في تطوير أسطول شركات الطيران الإقليمية في أمريكا من فئة طائرات إمبراير 190 والتي تشتهر بمحركات حديثة لديها تكنولوجيا التحكم عن بعد باستخدام الدفات الكهربائية(2)كما عمد إلى الاهتمام بالعلاقات الدولية ومع صعوده إلى الولاية الثانية شكل منظمة البريكس بُعيد الأزمة المالية العالمية عام 2008 وشاركته فيها الصين والهند وروسيا وذلك من أجلتأسيس نظام عالمي متوازن قائم على تعزيز التعاون والتنسيق في كافة المجالات على رأسها المجال الاقتصادي(3)
كل ذلك جعل الرأسماليين يُؤيدونه بصورة تفوق تأييد الطبقتين الفقيرة والمتوسطة ويُطالبون بتغيير الدستور لتمكينه من فترة رئاسية ثالثة، لكنه رفض وبقيَّ رئيسًا للجمهورية البرازيلية حتى الأول من يناير 2011، ومن ثمَّ دعم مرشحة حزبه ورئيسة وزرائه السابقة ” ديلما روسيف”.
روسيف وانهيار العصر الذهبي لحزب اليسار
أدى الدعم الذي قدمه “لويس إيناسيو لولا دا سيلفا”رئيس الجمهورية البرازيلية السابق، لمرشحة حزبه ورئيسة وزرائه السابقة “ديلما روسيف” وتعهد الأخيرة بمواصلة نهجه في انتشال البلاد من حالة الضعف الاقتصادي إلى حالة القوة والازدهار، إلى نجاحها في الانتخابات التي عُقدت في أكتوبر 2010 لتكون أول رئيسة جمهورية في تاريخ البرازيل التي تضم أكثر من 200 مليون نسمة آنذاك، ومع بداية توليها المنصب واجهت العديد من المشاكل أهمها الأزمة المالية العالمية عام 2008 والتي أثرت سلبًا على اقتصادات الدول، وفي عام 2013 واجهت احتجاجات الشعب على استشراء الفساد وسوء الخدمات وارتفاع تذاكر النقل العام، لكنها حاولت أن تمتص الغضب الشعبي العارم بالدعوة إلى استفتاء شعبي تُفضي نتائجه إلى تشكيل لجنة تتولى عملية الإصلاح السياسي في البلاد، بالإضافة إلى تحقيق حالة من التعافي الاقتصادي والاستثمار في التنمية الاجتماعية وهو ما منحها الفرصة لتتولي فترة رئاسية جديدة في عام 2014، غير أنها لم تكتمل إذ حاصرتها شبهات الفساد نتيجة ترأسها لشركة النفط الحكومية بتروبرايس، ناهيك عن شبهات سوء استثمارها للمنح المالية في الانتخابات، بيد أنها تنفي ذلك وتتهم خصومها بالقيام بانقلاب ضدها (4)
ولم يُجد نفيها نفعًا ففي عام 2016 صوت مجلس الشيوخ بأغلبية لصالح توجيه اتهامات إليها، وفي مايو/أيار جُمدت عن العمل في منصبها الرئاسي، وتم عزلها لاستخدامها على نحو غير قانوني أموالًا من بنوك حكومية لتعزيز الإنفاق العام فيما تم إسناد مهامها الرئاسية إلى نائبها “ميشيل تامر، الذي ينتمي لحزب الحركة الديموقراطية، فعمد إلى تشكيل حكومة ائتلافية من الليبراليين للبدء بإجراءات عزل روسيف ووقفها عن العمل وكان لهذه الأحداث تأثيرًا كبيرًا على الحياة العامة خاصة بعدما تم إلغاء كافة أشكال الدعم والمعونة.(5)
لقد خيّبت “روسيف” آمال الشعب البرازيلي باستمرار حالة الاستقرار الاقتصادي وانتهاء ظواهر الفقر والبطالة التي أوجدها سابقها ” لولا دي سيلفا”، فبدلًا من نمو الاقتصاد أُصيب بحالة من الركود والانكماش بنسبة 3.5% على مدار عامين متواليين 2013، 2014 وتم الكشف عن عمليات فساد بقيمة 11 مليار دولار وأكثر تورط فيها مسئولون كبار والمفاجئة أن كان من بينهم الرئيس السابق “لولا سيلفا” حتى أنه حوكم بعقوبة السجن لمدة 12 عامًا مع بداية العام الحالي.
صعود وهيمنة اليمين المتطرف في البرازيل
دفعت الأحداث بالقاعدة العمالية وبالشعب البرازيلي عمومًا إلى التصويت لمرشح اليمين المتطرف في الانتخابات الرئاسية الأخيرة “جايير بولسونارو” والذي تقدم بشكل ملحوظ فحصل على 55.7% من الأصوات في الدورة الثانية ، مقابل 43.3% لمرشح اليسار فرناندو حداد، بحسب ما أعلنت المحكمة الانتخابية العليا استناداً إلى نتائج فرز 88% من الأصوات، وبحسب محللون فقد جاءت هذه النسب كـنتيجة سياسية للأزمة الاقتصادية وتفاقمها العنيف، ناهيك عن إفلاس اليسار الحاكم وخياناته. حيث يُحملهم مراقبون مسؤولية وصول اليمين المتطرف إلى السلطة في البرازيل، ويؤكدون أن خطاب “بولسونارو” الذي عزف فيه على وتر التدهور الأمني والمعيشي وتركيزه على استعادة الأمن، ومحاربة الفساد، وتمكين رجال الشرطة من ملاحقة المجرمين وتأكيده على حق القوات المسلحة في ممارسة دورها السياسي كان سبب انجرار البرازيليون خلفه.(6)ويُعرف “بولسونارو” بانتمائه الكاثوليكي، ومدافعته عن الأسرة التقليدية، وخلال حملته الانتخابية نجح في كسب دعم الكنائس الإنجيلية، لكنّ تصريحاته بعد الفوز أثارت سخطًا وغضبًا عارمًا في أوساط شريحة واسعة من الناخبين فقد بدا واضحًا أنّه عدائي تجاه السود والنساء والمثليين.
هل يتغير وجه البرازيل ووجهتها السياسية؟
بانتقال البرازيل إلى أقصى اليمين وإنهائها أربعة عقود من حكم اليسار الذي تبين فساده منذ سبع سنواتٍ مضت، تكون قد دخلت مرحلة جديدة في تاريخها السياسي، ويرى مراقبون أن انتصار بولسونارو من شأنه أن يحشد كراهية الأجانب والتظلم التافه لدى الطبقة الوسطى في مشروع يهدف إلى تقوية الدولة، وإزالة العقبات أمام الاستغلال الكبير للفقراء، والحنث بجميع الالتزامات والوعود بوقف تغير المناخ وحماية البيئة، بما لا يدع مجالًا للشك أن البرازيل تمضي نحو تحولات خطيرة قد تكون لها تداعيات واسعة على تجربتها الديموقراطية، وعلى الصعيدين الإقليمي والعالمي، في حين تخشى المنظمات الدولية الحقوقية على مستقبل البرازيل من ناحية حقوق الإنسان والتزام الرئيس الجديد الموصوم بالفاشية بمعايير حقوق الإنسان، خاصة في ظل تصريحاته العنصرية والعرقية ضد النساء والسود والمثليين ناهيك عن تصريحه في خطاب الفوز والذي قال فيه “لا يمكننا الاستمرار في مغازلة الاشتراكية والشيوعية والشعبوية وتطرف اليسار”، بالإضافة إلى توعده بمعاقبة خصومه السياسيين كيف لا وهو يعتبر أن الخطأ الأكبر الذي ارتكبه الحكم العسكري أنّه كان يُعذب معارضيه دون القتل.(7)
ويعتزم “بولسونارو” تشكيل حكومة تضم عددًا من الجنرالات العسكريين من بينهم نائبه الجنرال المتقاعد “هاملتون موراو” الذي يتمتع بصلاحيات واسعة في كل ما يتصل بالشؤون الأمنية، ويسعى إلى محاربة الديمقراطية ويرى بضرورة إيجاد دستور جديد للبرازيل لا يُشارك فيه ممثلو الشعب في البرلمان وإنما رأس الهرم السياسي فقط الأمر الذي يدعو إلى التشاؤم من المستقبل القاتم الذي تنتظره التجربة الديمقراطية في البرازيل، لكنَّ الخطر الذي سيواجه البرازيل بعد اختيارها بصعود اليمين المتطرف وهيمنته على السلطة أملًا في التخلص من تبعات فساد اليسار في السنوات الأخيرة، إلى الحالة الاجتماعية للشعب بالتحايل على المعونات التي تقدمها الحكومة للفئات المجتمعية الفقيرة والمهشمة في مجال الرعاية الصحية والتعليم، حيث يُشير “باولو غيديس” المستشار الاقتصادي للرئيس المنتخب إلى معاناة البرازيل من أزمة اقتصادية طاحنة تتطلب “إعادة هيكلة صناديق المعاشات التقاعدية وخصخصة المؤسسات العامة” وهو ما يعني وقف الدعم عن تلك الفئات أو تقليصه على حساب دعم الشركات الخاصة وأصحاب المصالح المالية الذين قدموا له دعمًا لوجستيًا خلال حملته الانتخابية بتمويل ملايين الرسائل على الوسائط الإلكترونية ووسائل التواصل الاجتماعي.(8)
نتائج
نستخلص من العرض السابق للتجربة البرازيلية بين صعود اليسار وانهياره مؤخرًا لصالح اليمين المتطرف بعد حكم دام 13 عامًا ما يلي:
1- نجاح اليسار البرازيلي في التعبير عن تطلعات شعبه، فعمل على القضاء على الفقر وحاول تحقيق العدل والمساواة، وكافح الفساد، وأزال كل ما من شأنه التسبب في إحداث فجوة ما بين مكونات المجتمع.
2- حققت البرازيل خلال تجربة “لولا دا سيلفا” طفرة على المستويين الاقتصادي والاجتماعي، وتقدمت البلاد بشكل ملحوظ في الصناعات المتقدمة كالسيارات والطائرات، لتسجل شركة “إمبراير” البرازيلية رقم جديد، بعدما أصبحت ثالث أكبر شركات تصنيع الطائرات.
3- توريط عدد من القيادات اليسارية في شبهات فساد، واستغلال السلطة لتحقيق مصالح شخصية. كان السبب الأساسي في انهيار اليسار وصعود اليمين المتطرف في الانتخابات الأخيرة.
4- فشل الحكومات اليسارية خلال السبع سنوات الأخيرة في تبني إستراتيجية أمنية شاملة تستهدف استيعاب الخلافات، وتضمن تحقيق الاستقرار، والتمكين الحقيقي لقوات الشرطة في ظل الانهيارات الأمنية المتوالية، أدت إلى ميل البرازيليين نحو اليمين.
5- إن بولسونارو لا يخفى اقتناعه التام بضرورة العودة للدكتاتورية العسكرية لكنّه في الوقت ذاته يؤكد على أهمية المؤسسات الديمقراطية وفاعلية دورها في تحقيق الاستقرار والتوازن الذي فشل التيار اليساري في تفعيله.
وحدة الدراسات السياسية*
المراجع:
1- تجربة النمو الاقتصادي في البرازيل: نموذج استرشادي لمصر، مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية،
2- طائرات امبراير 190. الميزات، موقع الشركة،
3- مجموعة البريكس.. القوة الصاعدة في العلاقات الدولية، نون بوست،
4- ديلما روسيف في مواجهة الفساد، صحيفة البيان،
5- 5 أشياء لابد أن تعرفها عن رئيسة البرازيل ديلما روسيف، BBCعربية، https://bbc.in/2qE2ZSH
6- هزيمة اليسار في البرازيل، صحيفة البيان الإماراتية،
7- البرازيل: عن قدرة الديموقراطية في مواجهة اليمين المتطرف، صحيفة الحياة الدولية،
8- الرئيس البرازيلي المنتخب اعتبر فوزه «تكليفاً إلهياً لا بد من إنجازه”، جريدة الشرق الأوسط،
سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
تابعوا أحدث أخبارنا وخدماتنا عبر حسابنا بتويتر