آخر ما كان يتمناه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، مع بداية ولايته الثانية، أن يجد نفسه، بعد أن خسر الأغلبية المطلقة في البرلمان، مقيداً وغير قادر على تنفيذ أجندته الإصلاحية، السياسية والاقتصادية والاجتماعية، بحرية تامة، كما كان يفعل طوال فترة ولايته الأولى التي امتدت منذ عام 1917 وحتى الانتخابات التشريعية الأخيرة.
قبل أيام، استفاق ماكرون على وقع الصدمة التي لم تفقده الأغلبية المطلقة فحسب، بحصول تحالفه «معاً» على 246 مقعداً أي بخسارة 104 مقاعد عن الانتخابات السابقة، وإنما ليجد الجمعية الوطنية (البرلمان) منقسمة إلى ثلاث كتل كبيرة، حيث حل تحالف اليسار بزعامة جان لوك ميلونشون في المرتبة الثانية بحصوله على 142 مقعداً، بينما حل الحزب اليميني المتطرف بزعامة مارين لوبان في المرتبة الثالثة مع 89 مقعداً بعدما كان يحظى بثمانية مقاعد فقط في الانتخابات السابقة، وهو ما اعتبر بمثابة زلزال سياسي لم يكن يتوقعه أحد.
ماكرون الذي اعتاد طوال السنوات الخمس السابقة على أن يحكم من قصر الإليزيه بوجود أغلبية ساحقة، مكنت حكومته من أن تأخذ القرارات لكي يصادق عليها البرلمان من دون أي نقاش جدي من المعارضة، لعدم جدوى النقاشات في ظل هيمنة مطلقة لحزبه آنذاك، يجد نفسه الآن أمام واقع جديد ينذر بنهاية عهد ما عرف ب «الماكرونية». هذا الواقع بات يفرض عليه خيارات متعددة، أحلاها مر كما يقال، إذ لم يعد بوسعه تمرير قرارات من دون موافقة المعارضة، سواء اليسارية أو اليمينية المتطرفة، وبالتالي لا بد له من البحث عن تحالفات جديدة، غير أن هذه التحالفات ليست مجانية، وإنما سيكون لها «ثمن سياسي» وتنازلات في المقابل.
الجهة الأقرب لماكرون هي التحالف مع الحزب «الجمهوري» اليميني التقليدي الذي حصل على 61 مقعداً، لكن هذا التحالف منقسم حول دعم ماكرون لاختلاف برامج الحزبين خصوصاً في المجال الاقتصادي، ولاعتبارات سياسية أخرى، ومع ذلك برزت أصوات من داخل «الجمهوريين» تطالب ماكرون بتقديم تنازلات وترى أن هناك إمكانية للتحالف بشروط معينة، فيما هناك استحالة للتحالف مع اليسار أو اليمين المتطرف. وهو ما لا يريده ماكرون، الذي يدرك أن تلبية هذه الشروط سيضعفه بالتأكيد ويعرقل تنفيذ أجندته الإصلاحية. والأرجح أنه سيضطر إلى بناء تحالفات ظرفية مع أي طرف حول كل قانون يريد تمريره، وفقاً لطبيعة مشروع القانون المقترح، وبالتالي فإنه سيواجه إزعاجاً كبيراً في تمرير مشاريع القانونين، خصوصاً بوجود معارضة يسارية ويمينية قويتين، ويعملان بالتأكيد على إضعاف ماكرون. وقد تكون أولى الخطوات بدأت بالفعل مع إعلان تحالف اليسار طلب التصويت على الثقة برئيسة الحكومة في الخامس من الشهر المقبل.
يبقى خيار أخير لدى ماكرون، وهو حل البرلمان، حيث يخوله الدستور صلاحية ذلك، لكن هذا الخيار لا معنى له إن لم تسفر أي انتخابات جديدة عن فوزه بالأغلبية المطلقة، وهو ما لا يتوفر في المرحلة الراهنة على الأقل، وبالتالي فإن ماكرون سيبقى مقيداً حتى إشعار آخر.