الطبيعة المائعة للرأي العام لها ضغط لا يرى بوضوح مثل الريح، ومع هذا له ثقل عظيم وأثر كبير تدرك آثاره في قوة هيمنته وقدرته على قلب الوضع الراهن المستأنس والاعتيادي، والذي غالبا ما يكون عاطفيا أو مبنيا على انطباع غير واع أو منظم. والخطاب الإلكتروني من أهم قوى تغيير الرأي العام وقولبته لما يمتلكه من قدرة على الاستقطاب جماهيري والدفع إلى تبني الآراء والمواقف تحت ضغط الكلمة البراقة أو الاستمالة العاطفية، وذلك بسبب سهولة السياق الذي يتشكل من خلاله وميوعته. من أمثلة هذا ما يعرف بغرف الصدى Eco Chambering وهي بيئة إلكترونية تخلق التجانس والتشابه في الآراء، ولذلك تُشبه بالقبيلة الجديدة Neorealism التي تعمل على خلق تجمعات تضخم معتقداتها الموجودة مسبقا عن طريق التفاعل وتكرار التعرض داخل نظام مغلق ومعزول، ومن هنا كانت تسميتها بـ “غرف الصدى” لأن الرأي يجد صداه عند الأطراف المشاركة وتعمم وجهات النظر والآراء بسرعة البرق وبشكل مقنع مما يؤدي إلى تحيز التأكيد Confirmation bias . هذا الاستقطاب يكمن في شكله الاجتماعي والسياسي والمتطرف إذ أنه يعزز الأيديولوجيات ويفرضها ويعصب أعين المشاركين عن رؤية الآراء الأخرى.
من الإيجابي أن الإنترنت وسّع من تنوع المعلومات التي يمكن الوصول إليها وخلق مناخا أرحب لتعددية النقاش العام، إلا أنه على الجانب السلبي منه، قد يؤدي الوصول الأكبر إلى المعلومات إلى التعرض الانتقائي للقنوات الداعمة أيديولوجيا. فيشعر الأفراد في غرفة الصدى تلك (مثل فيسبوك وإنستغرام وتويتر وغيرها) بثقة أكبر في أن آراءهم مقبولة بشكل أكبر من قبل الآخرين. في حين لا توفر غرف الصدى تلك إلا معلومات محددة للأفراد. ورغم حقيقة أن هناك من يقف خلف هذا التجييش الالكتروني، إلا أن هناك كثرا يقعون ضحية التضليل دون دراية منهم ويصبحون جزءا من غرف الصدى بسبب عوامل خارجة عن سيطرتهم، مثل تجميعهم في غرفة إلكترونية واحدة دون علمهم.
فنحن نسير في عصر ما بعد الحقيقة والأخبار المزيفة بفعل الشبكات المغلقة التي تعزل الفكر الاجتماعي أو تقسمه وتعزز ما تريد تعزيزه بمعزل عن حقيقة ما يحدث في الواقع. وهذا ما تفسره لنا نظرية المعرفة الاجتماعية من خلال مفهومي غرف الصدى والفقاعات المعرفية.
فالفقاعة المعرفية Epistemic Bubble – وهو مصطلح صاغه ناشط الإنترنت إلي برايزر- هي حالة من العزلة الفكرية التي تحدثها الخوارزميات بشكل انتقائي وغير عفوي في الغالب، يُزعم أن المستخدم يرغب في رؤيتها بناء على معلومات حول المستخدم معتمدة على سلوك المستخدم نفسه وجمع بيانات حوله، مثل المواقع التي يزورها وسجل البحث الخاص به. ونتيجة لذلك، ينفصل المستخدمون عن المعلومات التي لا تتفق مع وجهات نظرهم مما يؤدي إلى عزلهم بشكل فعال في فقاعاتهم الثقافية أو الأيديولوجية.
فبينما تشير غرفة الصدى إلى الظاهرة العامة التي يتعرض الأفراد من خلالها للمعلومات من الأفراد ذوي التفكير المشترك، فإن الفقاعات المعرفية تحدثها الخوارزميات التي تختار المحتوى بناء على السلوك السابق عبر الإنترنت.