هكذا ضرب الطّاعون الأنطونيّ الامبراطوريّة الرّومانيّة في القرن الثّاني للميلاد ليأتي على حياة خمسةٍ من الملايين من البشر؛ وضرب طاعون جاستينيان الامبراطوريّة البيزنطيّة ليُودِيَ بحياة ثلاثين مليونًا؛ ومثْلُه ذهب الطاعون الدملي بحياة مائتيْ مليون، في القرن الرابع عشر، ومثله ذهب الطاعون الصّينيّ بحياة اثنى عشر مليونًا في أواسط القرن التّاسع عشر؛ فكانت اجتياحات وباء الطاعون – وقد استمرّت حتى القرن العشرين – أشدّ موجات الأوبئة فتكًا بحياة الإنسان: على ما يفيدُنا التّدوين التّاريخيّ للأوبئة.
ولم تكن جوائح الجُدري والكوليرا أخفَّ وطأةً ممّا خلّفه الطّاعون؛ فقد قضى بالجدري ما يزيد عن الخمسين مليون إنسان حين ضرب وباؤُه في بدايات القرن السّادس عشر. وكذلك حصدت الكوليرا حياة مليون شخص في القرن التّاسع عشر وأوائل العشرين. أمّا الإنفلوانزا في روسيا، نهاية القرن التّاسع عشر، فأزهقت أرواح ما يزيد عن المليون إنسان قبل أن تبدأ الإنفلوانزا الإسبانيّة في إبادة الحياة لتصل الحصيلة، في العام 1918، إلى خمسين مليونًا. واستمرّت الإنفلوانزا تضرب هنا وهناك (في الصّين – أواسط القرن العشرين – أودت الإنفلوانزا الآسيويّة بحياة مليون شخص)، وتتّخذ أشكالاً مختلفة آخرها إنفلوانزا الخنازير. ومثل الجدري والكوليرا والإنفلونزا ذهب وباء الإيدز بحياة خمسةٍ وثلاثين مليون إنسان، هذا إضافةً إلى أوبئة أخرى قاتلة مثل التيفوئيد وإيبولا وسارس وغير ذلك من الڤيروسات والأوبئة التي نجَح العلم، في حالات كثيرة، في أن يوفّر علاجات لها باللَّقاحات، فيما عجز، في حالات أخرى، عن أن يوفّرها ولكن أمكنه أن يسيطر عليها، نسبيًّا، كما في حالة الإيدز.
غير أنّ ما تَفَرَّدَ به وباء كورونا المستجدّ (كوڤيد 19) عن كلّ هذه الأوبئة السّابقة هو عالميَّتُه واتّساع نطاق انتشاره ونطاق المصابين به. كانت أوبئة الماضي، وإلى حدود منتصف القرن العشرين، موضعيّة، محلّيّة؛ تُصاب بها بلادٌ بعينها و، أحيانًا، مدنٌ بعينها فيها أو قرًى. وكان يسْهُل، للسّبب ذاك، عزلُ المناطق المصابة وإقفالها والتّعامُلُ مع الحال الوبائيّة فيها و، بالتّالي، كان يمكن للحياة العادية أن تستمرّ في البلاد – خارج البؤر المعزولة – من دون أن يصيبها اضطراب أو توقُّف؛ ومن دون أن تتأثّر حركة الإنتاج والتّبادُل كبيرَ تأثير. أمّا مع وباء كورونا فاختلف الأمر كثيرًا؛ إِذِ اتّسَع فيه الخرْقُ على الرّاتق، ففَشَا فُشُوًّا أفُقيًّا مجتاحًا كلّ بلدٍ، عابرًا الحدود والمحيطات والقارّات، حتى لم تَبْق له بؤرةٌ واحدة تُعْزَل وتُحاصَر، وأصبحتِ الكرةُ الأرضيّة برمّتها بؤرتَه وساحةَ فَتْكه ! وهو، في اتّساعه الامبراطوريّ الكونيّ هذا، أصاب البشريّة في جغرافيّتها كلِّها لا في قسمٍ منها، وضربَ عمران الاقتصاد العالميّ، وأَوْقَف حركة الإنتاج وأَكْسَدَ التّجارة، وأصاب النّاس في أرزاقها وأذْهبَ فُرَص العمل عنها، وجعل الحياة على الكوكب شبه مستحيلة!
كيف حصل أن أخذت هذه الجائحة هذا المدى العالميّ المخيف في بحر أشهرٍ معدودات، فآذنت بتهديد الحياة والجنس البشريّ برمّته؟.
كلّ الذي جرى واختلفت به جائحة كورونا عن شقيقاتها من الجوائح بالأمس أنّ عولمةً لفيروس كوڤيد 19 وَقَعتْ فأخذتْهُ إلى أصقاع الأرض كافّة من مهده في أقصى آسيا. ها هي بائقةٌ أخرى من بوائق العولمة تصيب العالم، ولكنّها أشدُّ بوائق العولمة فتكًا؛ ففيها يستوي فقراء العالم وأغنياؤُهُ، جياعُه ومُتْرَفوه، جَهَلتُه والمتعلّمون، العاجزون عن الإنفاق على العلاج والقادرون عليه. كورونا وزّعَتْ توزيعًا عادلاً قسوتها على الجميع ولم تتخيّر قتلاها. ومثل العولمة، التي تطيح بالسّيادات والحدود، أطاحت كورونا بالسيادات والحدود، فلم تترك مجالاً أمام سياسات صحيّة حمائيّة. والدّول التي لم يكن يسعها، أمس، أن تُقْفِل حدودها أمام أحكام العولمة الاقتصاديّة والتّجاريّة والإعلاميّة الجارفة أُجْبِرَت، مع عولمة فيروس كوڤيد 19، على إقفال حدودها والانكفاء إلى داخلها أملاً في كفّ المزيد من أدى الجائحة الجارفة، حتى الاتّحادات الإقليميّة التي ابتنتْها الدّولُ بينها – أملاً في تعظيم قوّتها وتأهيل قدرتها التّنافسيّة في عالم العولمة – باتت عبئًا على أمنها الصّحيّ القوميّ ومصدر خطرٍ شديدًا عليه، فآثرت الانكفاء عن اتّحاداتها إلى داخلها القوميّ.
في صورة ما يجري، اليوم، مفارقةً صارخة: العولمة التي حملت على صهوتها ڤيروس كورونا وأخذتْه إلى الآفاق، نظير سِلعةٍ في التّجارة الدّوليّة أو خبرٍ في الفضائيّات أو معلومة في الشّبكة العنكبوتيّة، هي عينُها (العولمة) التي تتلقّى، سلبًا، نتائج عولمتها الفيروسي، ها هي أطرافُ أخطبوطها الضّارب تتوقّف كأنْ ليست بها حياة، ها هي اندفاعتُها الهوجاء تنْحسر وتخبو حتّى لكأنّها لم تكن؛ ها أوصانُها تتقطّع بفعل إغلاق الحدود؛ كأنّ في عولمة الفيروس بداية نهاية العولمة؛ كأنّ السّحر انقلب على السّاحر.