سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
ونستون تشرشل
لم يكن ونستون تشرشل قائدًا عظيمًا فقط، فقد امتلك أيضًا بصيرة استثنائية أتاحت له وضع إصبعه على كل ما يصنع عظمة المرء، وما قد يُسقِط بعض القادة في وقت قصير، وتشهد نظرته في الزعيم السوفييتي المنفي ليون تروتسكي على ذلك. هذا المقال من كتاب تشرشل “معاصرون عظماء” الذي نُشر لأول مرة في عام ١٩٣٧م، أي قبل ثلاث سنوات من اغتيال تروتسكي.
عندما يقتصرُ الغاصب والطاغية على الجدل الأدبي، وعندما يندفع الشيوعي للصحافة الرأسمالية بدلًا من قذف القنابل، وعندما يخوض سيد الحرب اللاجئ معاركه مرة أخرى، ويصبح الجلاد المعفى عنه هذِرًا في بيته الخاص، فنحن قد نبتهج في النهاية للإشارات التي تقول بقدوم أيام أفضل. أمامي الآن مقال عن ليون تروتسكي المعروف ببرونشتاين الذي أسهم أخيرًا في “John O’London’s Weekly”[1] وعالج فيها أوصافي للينين، وتدخل الحلفاء في روسيا، ولورد بيركينهيد والموضوعات المقترحة الأخرى. وقد كتب هذا المقال من منفاه في تركيا حين تضرعه لإنجلترا، وفرنسا وألمانيا لمنحه حق الدخول إلى المدن التي كانت – و لا تزال – هي كل غايته ومقصده للتدمير.
روسيا، بلاده الحمراء، روسيا – التي تم تأطيرها وتنميطها لأهوائه بغض النظر عن معاناة الآخرين ومجازفته بنفسه – نفته بعيدًا. وكل دسائسه، وكل جُرأته، وكتاباته، وما قدمه من خطب رنانة، ومن أعمال جريئة، كل إنجازاته قادت فقط لهذا: إن “الرفيق” الذي هو تابِعه في الرتبة الثورية، والذي هو أدنى منه في الفطنة، وإن لم يكن في الجريمة، يحكُم عوضًا عنه. في حين أن المُنتصر تروتسكي الذي تم تسليط الموت على تجهمه لآلاف المرات، يجلس مغمومًا، وقد تقطعت السبل بجلده الحقود لفترة في شواطئ البحر الأسود، والآن قد جرفته الأمواج نحو خليج المكسيك. [٢]
لكنه كان حتمًا رجلًا يصعب إرضاؤه، ولم يعجبه القيصر [٣] فقتله هو وعائلته، ولم تعجبه الحكومة الإمبريالية ففجرها، ولم يحب ليبرالية جاتشكوف [٤] وميليكوف [٥] فأطاح بها، ولم يحتمل الاعتدال الثوري الاجتماعي لكيرنسكي وسافينكوف فاستولى على مواقعهم. وفي النهاية، عندما تأسس النظام الشيوعي، سعى بأقصى جهده لنشره في كل أنحاء روسيا. وبرزت دكتاتورية البروليتاريا، وتحول نظام المجتمع الجديد من الرؤى إلى الواقع الملموس، وتم القضاء على ثقافة الكراهية واستئصال الحقبة الفردانية، وأصبحت الشرطة السرية خادمة للأممية الثالثة [٦]، وتحققت طوباويته وهو لا يزال ساخطًا، غاضبًا، متذمرًا، مزمجرًا بعض الشيء ومتآمرًا. لقد أثار الفقراء ضد الأغنياء، وأثار المعدمين والمفلسين ضد الفقراء، وأثار المجرمين ضد المعدمين والمفلسين. كل شيء قد تهشَّم كما أراد له، غير أن رذائل المجتمع البشري مرغوبة، فقد بدت وكأنها كوارث جديدة.
وسعى في أعمق عمق مع كل طاقته اليائسة للأعمق، لكن البائس الفقير كان قد بلغ حينها الحضيض. لا يوجد هناك شيء أدنى من طبقة المجرمين الشيوعيين، وعَبَثًا وجه بصره إلى الحيوانات البرية، فالقردة لم تستطع تقدير بلاغته، وكذلك لم يستطع حشد الذئاب التي ازدادت أعدادها، خصوصًا خلال إدارته، لذلك وقف المجرمون الذين نصّبهم جنبًا إلى جنب ورموه خارجًا. ومما قاده إلى الثرثرة في هذه المقالات الصحفية، والزغاريد في مضيق البوسفور[٧]، والتوسلات؛ السعي للسماح له بزيارة المتحف البريطاني[٨] لدراسة وثائقه أو لشرب مياه مالفيرن لأجل رماتيزمه، أو من نوهايم لأجل قلبه، أو هومبرغ لداء النقرس، أو لأي أماكن أخرى من أجل بعض الشكاوي.
لقد تم اختراق هذا التفكير الطويل في الفيء التركي بواسطة عين مصطفى كمال المتقصية، مرورًا بكل هذه المخارج في فرنسا، والدول الإسكندنافية، ووصولاً إلى الملاذ الأخير في المكسيك. ومن الغريب أن رجلا بذكاء تروتسكي لم يفهم الكراهية الواضحة من الحكومات المتمدنة لدعاة الشيوعية. فكتب كما لو أنه – بسبب ضيق الأفق – متحيز ضد الأفكار الجديدة والنظريات السياسية المتناحرة. لكن الشيوعية ليست عقيدة فقط، إنها خطة لحملة.
ولم يكن الشيوعي صاحب آراء معينة، بل كان هو المتعهد الحاذق لوسائل مدروسة جيدًا لتنفيذها. لقد تمت دراسة تشريح السخط والثورة في كل مرحلة وجانب، بتجهيز كتاب للتدريب الحقيقي، بروح علمية تقوّض كل المؤسسات القائمة. وطريقة التنفيذ هي جزء من الإيمان الشيوعي كما هو المذهب نفسه، ففي البداية يتم التذرع بمبادئ الليبرالية والديمقراطية الحديثة لإيواء الكائن الوليد. ثم يتم الاستعراض والتأكيد على حرية التعبير، وحق الاجتماع العام، وكل شكل من أشكال الاضطرابات السياسية القانونية والحق الدستوري. ونرى أن التحالف يتجه مع كل حركة شعبية نحو اليسار.
وإن إنشاء نظام ليبرالي أو اشتراكي معتدل في فترة الاضطرابات لهو الحدث الأهم، ولكن لم يكد يُنشأ، إلا وقد تمت الإطاحة به. إذ يجب أن يتم استغلال المشاكل والشح الناجم عن الفوضى.
ولا تحضُر الاصطدامات إلا مع سفك الدماء، ويجب أن يتم ترتيبها بين وكلاء الحكومة الجديدة والشعب العامل. وتتم صناعة الشهداء، واستخدام الموقف الاعتذاري في الحكام كورقة رابحة. وربما صنعت البروباغندا الهادئة قناع الكراهية قبل أن يتجلى بين الأفراد. ولا عقيدة كائنة أو باقية مع غير الشيوعيين، فكل فعل بحسن نوايا، (متسامح، مصالح، رحيم، شهم)، من جانب الحكومات أو رجال الدولة، هو فقط مُستخدم لأجل الخراب. ثم عندما يحين الوقت واللحظة المناسبة، فكل شكل من أشكال العنف المُهلك الناتج عن تمرد الغوغاء للقيام باغتيال سري، يجب أن يتم الإقدام عليه دون أدنى تردد أو تأنيب ضمير.
سيتم اقتحام القلعة تحت رايات الحرية والديمقراطية، وبمجرد أن يسقط جهاز السلطة في جماعة الإخوان، تسقط كل المعارضة، وكل الآراء المخالفة، ويكون جزاؤها عقوبة الإعدام. والديمقراطية ليست إلا أداة لاستخدامها وكسرها فيما بعد، والحرية حماقة عاطفية لا تستحق حتى عناء أي منطق، والحكم المطلق للكهنوت الذي نصب نفسه وفقًا للعقائد التي تعلمها بواسطة التلقين ستُفرض على البشرية دون التخفيف من آثارها تدريجيًا إلى الأبد.
كل هذا المنصوص في الكتب المدرسية المضجرة، كُتب أيضًا بالدم في تاريخ العديد من الدول القوية. هذا هو إيمان الشيوعيين وهدفهم، لتكون حذرًا ينبغي أن تكون مسلحًا.
لقد كتبتُ هذا المقطع منذ سبع سنوات تقريبًا
ولكن.. أليست هذه حسابات دقيقة للمؤامرة الشيوعية التي أغرقت إسبانيا حاليًا في فوضى بشعة ضد رغبات الأغلبية الساحقة من الإسبان في كلا الجانبين؟ [٩]
من المحتمل أن تروتسكي نفسه لم يفهم أبدًا العقيدة الماركسية، ولكنه كان سيدًا لا يضاهى في كتاب تدريباته. لقد امتلك في طبيعته كل الصفات المطلوبة لفن تدمير المدنيين، والأمر بتنظيم كارنو [١٠]، والذكاء البارد والمنفصل لميكافيلي، وعصابة الخطابة المؤلفة من كليو [١١]، وضراوة جاك السفّاح، وصلابة تيتوس أوتس، ولا أثر للشفقة، ولا معنى للإنسان، ولا مخاوف روحانية تُضعف قدرته العالية والدؤوبة للعمل، ومثل السرطان ينشأ، ويتغذى، ويُعذَّب، ويُذبح بسبب وفائه لطبيعته.
لقد حصل على زوجة تشاركه الإيمان الشيوعي [١٢]، وتعمل وتخطط إلى جانبه، وتشاطره منفاه الأول إلى سيبيريا في عهد القيصر، وتنجب له الأطفال وتساعده على هروبه، لكنه هجرها [١٣]. ثم وجد عقلًا آخر يشابهها [١٤]، فتاة من أسرة طيبة طُردت من المدرسة في خاركوف، لإقناعها التلاميذ برفض حضور الصلوات وقراءة الأدب الشيوعي بدلاً من الكتاب المقدس، وحصل من خلال هذه الفتاة على أسرة أخرى.
ويقول ماكس إيستمان بصفته واحدًا من كتاب سيرته الذاتية: “لو كان لديك عقل فقط، لأدركت أنها ليست زوجة تروتسكي. تروتسكي لم يُطلِّق أبدًا أليكساندرا إيڤانوڤا سوكلفسكي التي لا تزال تستخدم اسم برونشتاين”.
ويكتب تروتسكي لوالدته بمصطلحات باردة تقشعر لها الأبدان. لقد مات والده برونشتاين نتيجة إصابته بالتيفوس في عام ١٩٢٠م عن عمر يناهز الثالثة والثمانين. ولم تجلب انتصارات ابنه الراحة له، لهذا اليهودي المؤمن الكادح والصادق. واُضطهد من قبل الحمر لأنه كان برجوازيًا، واضطهد من قبل البيض لأنه والد تروتسكي، وفي النهاية تخلى ابنه عنه. لقد بقي ليغرق أو يسبح في الطوفان الروسي، ولكن هذا اليهودي سبح بثبات حتى النهاية. وماذا بقي له ليفعله؟
تروتسكي، هذا الكائن المختلف عن البشر العاديين، كان منزوع العواطف والمشاعر، لذلك ارتقى فوق قطيع متشابه، وكان ملائمًا بشكل ممتاز لمهمته. وكان هناك عنصر ضعف خطير، وبخاصة من وجهة النظر الشيوعية.. كان تروتسكي يطمح في عالم دنيوي عادي، وكل الجماعيات في العالم لم تستطع تخليصه من أنانيته التي تصل حد المرض، المرض القاتل. ويجب ألا يدمر الدولة فقط، بل عليه أن يحكم أنقاضها بعد ذلك. لقد أبغض كل نظام في حكومة لم يكن هو رئيسه، أو على على الأقل مسؤولاً عنه. كانت دكتاتورية البروليتاريا تعني بالنسبة له أن يطيع دون طرح أسئلة. كان بإمكانه أن يُملي الأوامر نيابة عن البروليتاريا. “الجماهير الكادحة”، و”مجالس العمال والفلاحين والجنود”، و”إنجيل ووحي كارل ماركس”، و”الاتحاد الفيدرالي للجمهوريات السوفييتية الاشتراكية” وما إلى ذلك… قد تجلت في كلمة واحدة: تروتسكي.
لقد أدى ذلك إلى المتاعب، وغار الرفاق وأصبحوا مشبوهين، وعلى رأس الجيش الروسي الذي أعاد بناءه وسط صعوبات ومخاطر لا توصف، وقف تروتسكي قريبًا جدًا من عرش آل رومانوف الشاغر. ولم تعد الصيغ الشيوعية التي كان يستخدمها بتأثير مدمر على الآخرين عائقًا له. لقد تخلص منهم بسهولة كما تخلص من زوجته ووالده واسمه. يجب أن يُجدَّد الجيش، وأن يُحاز النصر، وعلى تروتسكي أن يفعل ذلك وينتفع منه. لسبب ما يجب أن تندلع الثورات، لقد استنزف براعته الاستثنائية لأقصى حد.
وتم تغذية وكسو ضباط وجنود الأنموذج الجديد ومعاملتهم بشكل أفضل من أي شخص آخر في روسيا، وتم تملق ضباط النظام القيصري القديم آلاف المرات. “لتذهب السياسة إلى الشيطان، دعنا ننقذ روسيا” وأُعيدت التحية، وشارات الرتب والامتيازات. وأُعيد إنشاء سلطة القادة. لقد وجدت القيادة العليا نفسها مُعالجة من قبل هذا المُتسلق الشيوعي، مع فارق وحيد وهو أنهم لم يشهدوا ذلك أبدًا من قبل وزراء القيصر. وسبب ترويج هذه التدابير بانتصار سهل ومثالي، هو هجر الحلفاء المواليين الروسيين.
وفي عام ١٩٢٢م، كان التقدير كبيرًا جدًا في الجيش لموقف تروتسكي الشخصي، ونظامه الذي قد تتم بواسطته صناعة ديكتاتور روسيا من قبل القوات المسلحة.
كان – و لا يزال – يهوديًا، لا شيء بإمكانه أن يغير ذلك. لهو بخت قاسٍ عندما تهجر عائلتك، وتتنكر لعرقك، وتبصق على دين آبائك، وتصقل اليهود وغير اليهود في حقد مشترك، أهو سبب!! صدُّك عن جائزة ضخمة لأصحاب العقول الضيقة سبب لمثل هذا التعصب، والتفاهة، والتزمت الذي من الصعب حقًا تحمله. وفي النهاية، تم نقل هذه الكارثة بواسطة قطار أكبر، في أعقاب خيبة أمل تُبشر بفاجعة تلوح في الأفق.
في هذه الأثناء لم يكن “الرفاق” جامدين، لقد سمعوا الحديث من الضباط. ورأوا أيضًا إمكانية إعادة تشكيل الجيش الروسي من عناصره القديمة. لقد بدا لينين نفسه بعيدًا، بينما عاش الخطر. وفي الواقع، اعتبر لينين تروتسكي وريثه السياسي، وسعى لحمايته. ولكن في عام ١٩٢٤م مات لينين، وبقي تروتسكي مشغولاً مع جيشه، ولا يزال يتمتع بالعمل يومًا بعد يوم لإدارة قسمه. ولا يزال يُمطر نيكولاس الثاني بوابل من التصفيقات، وتحول بعينه للعثور على المعارضة الصلبة والمذعنة التي نُظمت ضده.
وكان ستالين الجورجي أمينًا عامًا لأداة الحكم، وتمكن من إدارة المؤتمر الحزبي وتلاعب بلجان لا تعد ولا تحصى. وجمع بكل صبر الأسلاك مع بعضها البعض وسحب منها وفقًا لتصور واضح. وعندما تقدم تروتسكي آملاً، واثقًا، بقبول خلافة لينين، عملت آلية الحزب في اتجاه مختلف، وهُزم تروتسكي في الحلبة السياسية البحتة للأنشطة الشيوعية في وقت وجيز. واُتهم بقوة بعض كتاباته الوافرة في “مكافحة اللينينية”، ولا يبدو أن تروتسكي فهم أن لينين حل محل الإله في العقل الشيوعي. وبقي لبعض الوقت تحت فكرة أن أيًا من هذه الإنابة المرغوبة قد تأثرت به مباشرة. و اعترف بأن هرطقته ولهفته منحت للجنود والعمال الأسباب الوجيهة التي أدت به إلى ذلك. واُستقبلت تصريحاته كرصاصة طائشة مرعبة.
وتم إطلاق العنان لـ OGPU، وعزل الضباط المعروفين بالتزامهم لتروتسكي من مناصبهم، وبعد فترة من التوتر الصامت نُصح تروتسكي بأخذ إجازة. وما زالت هذه الإجازة بعد عدة انقطاعات مستمرة.
واستخدم ستالين نجاحه لبناء أكبر. المكتب السياسي دون سحر لينين، أو قوة تروتسكي، كان بدوره مُطهَّرًا من كل عناصر الصلابة المتبقية. السياسيون الذين أقاموا الثورة نُبذوا وعوقبوا و ضُعِّفوا من قبل مدير الحزب. وابتلع مؤتمر الحزب مجلس الوزراء، ومع وجود ستالين على رأسه أصبح هو الحكومة الحالية لروسيا، وهجر المتمردون تروتسكي بعد أن أرشدهم للاستيلاء على السفينة. أين سيكون مكانه في التاريخ؟ وبالنسبة لجميع أهوال التاريخ، يُسلط ضوء براق على كل ممثلي مسرح الثورة الفرنسية. المهن والشخصيات ابتداءً من روبسبير، ودانتون، ومارا، ليسوا إلا بصيصًا مُتقدًا عبر قرن من الزمان. ولكن الشخصيات المملة، والبائسة من البلاشفة الروس، لم يتم افتداؤهم لمصلحة بالرغم من حجم جرائمهم.
كل شكل وتركيز فُقد في عملية واسعة للتمييع الآسيوي، وحتى ذبح الملايين وبؤس عشرات الملايين، لن تجذب الأجيال المقبلة إلى ملامحهم الجلفة وأسمائهم الغريبة. والآن قد دفع معظمهم ثمن جرائمهم، وبزغوا من خلايا سجن تشيكا (Cheka)، للإدلاء باعترافاتهم الغريبة وغير الطبيعية للعالم. لقد التقوا الموت سرًا، الموت الذي شحنوا إليه العديد من أفضل الرجال وأشجعهم.
ولكن تروتسكي نجا، وتلكأ على المسرح، ونسي كل جهوده التي كبحها لينين، لمواصلة الحرب ضد ألمانيا بدلاً من تقديم الشروط لبرست ليتوفسك. لقد نسي مهنته الخاصة كسيد حرب، ومجدد انتهازي للجيش الروسي، ولسوء حظه عاد إلى البلشفية الأرثوذكسية، وأصبح مرة أخرى دليلاً لأنقى طائفة شيوعية. وجمع حول اسمه المتطرفين الجُدد والمنظرين للثورة العالمية، ومن ثم تم توجيه كامل الانفجار من الحقد السوفييتي عليه. ونفس البروباغندا الخسيسة التي استخدمها بقسوة على النظام القديم، هي الآن ترتكز على عاتقه من قبل الناجي الأوحد رفيقه السابق.
كل روسيا، ومن بولندا إلى الصين، ومن القطب الشمالي إلى جبال الهيمالايا، لُقنت باعتبار تروتسكي وغدًا سعى بطريقة أو بأخرى لإضافة سلاسل جديدة للعمال، واجتذاب النازية في وسطهم.
ويستدعى اسم لينين، وعقيدة كارل ماركس ضده في اللحظة التي يسعى بشكل مسعور لاستغلالهم. وتستعيد روسيا قوتها كلما خفَّ ڤايروس الشيوعية في دمها. وربما يكون النهج قاسيًا لكنه ليس رهيبًا. إنها ضرورة الحفاظ على النفس التي دفعت الحكومة السوفييتية لقذف تروتسكي وسمومه المقطرة خارجًا. عبثًا يصرخ احتجاجًا ضد إعصار من الأكاذيب، عبثًا يندد بالاستبداد البيروقراطي الذي كان وبكل سرور سيترأسه، عبثًا يجاهد لحشد عالم أوروبا السفلي للإطاحة بالجيش الروسي الذي كان فخورًا بإنعاشه.. لقد انتهت منه روسيا وإلى الأبد.
ربما سيكون لديه الوقت الكافي لتأمل صنيعة يديه. ولا يمكن لأحد أن يتمنى له عذابًا أفضل من امتداد حياته، وينبغي لذكائه الحاد وروحه التي لا تهدأ أن تأكل بعضها البعض وسط كومة من العجز والتسفيه.
وفي الواقع، نحن قد نتنبأ يومًا أن تترقى نظرياته لتُطبق، وتكف عن كونها مزعجة لتصبح نشطة وتجسد عالمًا مُبشرًا في الخارج، وعندما يُسامح ويُعفى عنه – ونتيجة الشعور بالأمان – يزحف عائدًا، ومخزيًّا، وهامدًا إلى المزارات الأوروبية والأمريكية، حيث قضى مبكرًا الكثير من السنوات هناك. وربما يحدث هذا في السنوات المقبلة [١٥]، وسوف يجد بعض الراحة في العمل الذي قام به، كما وجدها والده في الابن الذي أنجبه.
———————————
الهوامش:
[1] مجلة رائدة أدبية نُشرت من ١٩١٩-١٩٥٤.
[٢] في فبراير ١٩٢٩، تم ترحيل تروتسكي من الاتحاد السوفييتي، وقضى أربع سنوات من منفاه في بويوكادا، وفي عام ١٩٣٣ انتقل إلى فرنسا، ثم إلى النرويج قبل استقراره في المكسيك.
[٣] نيقولا الثاني.
[٤] ألكسندر إيفانوفيتش جاتشكوف ١٨٦٢-١٩٣٦م، وزير حرب في الحكومة الروسية المؤقتة من فبراير حتى إبريل ١٩١٧م، وبعد الثورة البلشفية في أكتوبر ١٩١٧، قدم دعمًا ماديًا للحرس الأبيض وهاجر بعد ذلك إلى ألمانيا ثم باريس حيث توفي هناك.
[٥] بول نيكولايفيتش ميليكوف ١٨٥٩-١٩٤٣م، كان سياسيًا يأمل في الإبقاء على الملكية الدستورية بعد ثورة فبراير ١٩١٧م. أصبح وزيرًا للخارجية في الحكومة المؤقتة الأولى، وأدت دعواته العلمية في ٢٠ نيسان ١٩١٧م إلى تحالفات الحرب الروسية والوقوف إلى جانب مطالب استقالته التي كان في ٢ مايو. بعد الثورة البلشفية أصبح مستشارًا لمختلف قادة الحركة البيضاء وهاجر في نهاية المطاف إلى فرنسا حيث أمضى بقية حياته هناك.
[٦] يسمى أيضًا بالكومنترن، تنظيم شيوعي دولي أُنشئ في موسكو عام ١٩١٩م، وتم حله في عام ١٩٤٣م.
[٧] مضيق تركي بطول ٢٠ ميلًا، يقسم أوروبا من آسيا في إسطنبول، بين بحر مرمرة والبحر الأسود. وتشرشل يشير هنا إلى الوقت الذي كان تروتسكي في منفاه وسط بويوكادا.
[٨] عمل كارل ماركس في غرفة القراءة في المكتبة البريطانية التي تم ضمها سابقًا إلى المتحف البريطاني.
[٩] إشارة إلى الحرب الأهلية الإسبانية ١٩٣٦-١٩٣٩م، التي كانت في الواقع صراعًا بين الشيوعية والفاشية.
[١٠] سادي كارنو ١٧٩٦-١٨٣٢، عالم فيزياء فرنسي ومهندس عسكري يعرف الآن بأب الديناميكا الحرارية.
[١١] كليو ٤٢٢ ق.م رجل دولة أثيني في الحرب البيلوبونيسية ٤٣١-٤٠٤ ق.م، والذي مُثِّل باعتباره غوغائيًا من قبل معاصريه ثيوسيديز وأريستوفانيس.
[١٢] أليكساندرا إيڤانوڤا سوكلفسكي ١٨٧٢-١٩٣٨م ماركسية ثورية التقت تروتسكي وتزوجت به في السجن عام ١٨٩٩. آخر مرة شوهدت فيها في معسكر عمل في سيبيريا عام ١٩٣٥م.
[١٣] هرب تروتسكي من سيبيريا عام ١٩٠٢م تاركًا عائلته وراءه.
[١٤] ناتاليا إيڤانوفا سيدوفا ١٨٨٢-١٩٦٢م، تزوجها تروتسكي عام ١٩٠٣ وبقيا معًا حتى وفاته.
[١٥] في عام ١٩٤٠م، وبعد أكثر من عقد من نشر هذا المقال لأول مرة وبعد ثلاث سنوات من ظهوره في كتاب “معاصرون عظماء” كانت نهاية تروتسكي. في ٢٠ أغسطس اعتدى شيوعي إسباني – بصفته وكيلاً سوفييتيًا- عليه بفأس في منزله الموجود في مكسيكو سيتي، وتوفي تروتسكي في اليوم التالي. وتم القبض على الجاني وأمضى عشرين عامًا في السجن، وعندما أُطلق سراحه فرّ إلى موسكو و حصل على وسام لينين.
إعداد وحدة الترجمات*
سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
تابعوا أحدث أخبارنا وخدماتنا عبر حسابنا بتويتر