سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
قدري ليك
يعتبر يوم الاثنين 9 أغسطس 1999 تاريخًا أتذكره جيدًا؛ فقد كان الطقس غائمًا لكنه دافئ. وأصبح الهواء في موسكو قابلاً للتنفس مرة أخرى بعد بضعة أشهر صيفية غير مسبوقة من المباني الصامدة، والعشب الجاف، وتصاعد أبخرة البنزين، وذوبان الثلوج في مدرج المطار. لكن الآن، شعرت بأن تلك السحابة البيضاء وكأنها خلاص لمدينة مغبرة تعبت من شدة الحرارة.
ربَّما كان منتصف النهار عندما انتشرت الأخبار التي تقول بإقالة الرئيس “بوريس يلتسين” وتعيين شخص جديد بدلاً منه وهو فلاديمير بوتين، مدير جهاز الأمن الفيدرالي الذي لم يكن معروفًا في ذلك الوقت. وأهم من ذلك، أن “يلتسين” قال في خطاب للأمة إنه ينظر إلى بوتين كخليفة له، وهو أمر لم يقله عن رؤساء وزرائه السابقين. وبنفس المنطق المفاجئ، قرر بوتين أخيرًا إجراء انتخابات برلمانية في 19 ديسمبر، وأكد أن الانتخابات الرئاسية المقبلة ستجرى في غضون عام.
وفي هذه المرحلة، يجب أن يكون عدد من المطلعين على الكرملين على دراية بأن هذه هي الخطة بالفعل. لكن الطبقة السياسية الأوسع في موسكو تفاعلت بمزيج من الشك والسخرية تجاه هذا الأمر. فقد أصبح رؤساء الوزراء الروس أكثر قابلية للاستمرار في الآونة الأخيرة، حيث تبع بوتين “سيرجي كيريينكو”، و”يفغيني بريماكوف”، و”سيرجي ستيفاشين” ليصبح الشخص الرابع الذي يشغل هذا المنصب في غضون عام واحد فقط. فكثيرٌ من الناس يتشككون في أن “يلتسين” رشح بوتين ليس كخليفة مرغوب فيه، ولكن كرجل موثوق به من أجهزة الأمن التي ستحتاج دعمه عند إلغاء الانتخابات الرئاسية. فإذا أراد “يلتسين” التحضير لخليفة منتخب، فقد زالت الحجة، حيث لن يقدم للجمهور مرشحًا غير معروف تقريبًا. وعلى أي حال، بدا أن رئيسًا لا يحظى بشعبية كبيرة على وشك التراجع عن ترشيح أي شخص لمنصب الرئاسة.
“تلك هي معاناة النظام”، كما قال الزعيم الشيوعي “جينادي زيوجانوف” والسياسي الليبرالي “بوريس نمتسوف”، خلال رؤية أجمع عليها الكثيرون. وقد علق رئيس الوزراء السابق “إيجور جيدار” بأنه “نتيجة لذلك، تمَّ الحد من سلطة الحكومة الروسية في العالم إلى الصفر”. فعندما أكد الزعيم القومي “فلاديمير جيرينوفسكي” أن مجلس الدوما كان على وشك تأكيد رئيس وزراء جديد للمرة الأخيرة في القرن العشرين، لم يكن الجميع مقتنعين بأن هذا سيكون هو الحال. فبالنظر إلى الطريقة التي كانت تسير بها الأمور، نجد أنه من المؤكد أن “يلتسين” يمكن أن يأتي بعدد قليل.
من بين الأشخاص الذين تحدثت إليهم في ذلك اليوم، كان المحلل “أندريه بيونتكوفسكي”، وكان هو الشخص الوحيد الذي كان مقتنعًا بأن الرئيس كان جادًا، حيث قال “لقد اتخذ يلتسين قرارين مهمين، هما الانطلاق نحو الانتخابات، والذهاب مع بوتين”، إذ كان الأخير ينتقد الحكومة في كثير من الأحيان، ولم يكن “بيونتكوفسكي” Piontkovsky يرى إمكانية نجاحها بأي حال من الأحوال. ومع ذلك، ففي بعض الأحيان، أثبت أن بوتين كان مثيرًا للإعجاب بشكل كبير.
استغرق الأمر معي نحو عام حتى أتمكن من تكوين رأي واضحٍ بشأن بوتين، لكن منذ ذلك الحين، لم أضطر أبدًا إلى تغيير وجهة نظري نحوه. فبخلاف العديد من المراقبين الآخرين، أرى أن بوتين هو الشخص الذي يريد أن يفعل الخير لروسيا (وليس فقط من أجل نفسه)، ولكن مفهومه حول ما يشكل الخير، وكيفية تحقيق ذلك، يبدو أمرًا مضللاً. فهو يثق في القواعد الهرمية (من أعلى إلى أسفل) ويجد صعوبة في الاعتقاد بأن النقد الداخلي أو المعارضة البناءة يمكن أن تأتي من أصدقاء روسيا. فبدلاً من ذلك، يعتبر أن النقاد يمثلون أعداء. كما أنه يعتقد أن بعض القوى الكبرى تدير العالم، مسترشدةً فقط بالمصالح الذاتية. وبالتالي، فإن كل حديثهم عن المبادئ إنما مجرد نفاق. (وفي بعض الأحيان، أتساءل عما سيكون عليه الحال في روسيا إذا كان بوتين قد وضع كل طاقاته وتصميمه الكبير من أجل رؤية مختلفة).
كان نظامه دائمًا وسيظل هشًا، كما هو الحال مع أي نظام قائم على الحكم الشخصي. إنه بإمكانه أن يظل لفترةٍ طويلةٍ ولكن، في نهاية المطاف، لا يمكن أن يستمر.
وبعد عشرين عامًا من ذلك الصيف المحرق في موسكو، مات “غايدار ويلتسين”، وقُتل “نمتسوف”، ووجد “بيونتكوفسكي” نفسه في المنفى. ومع ذلك، لا يزال “زيوجانوف”، و”زيرينوفسكي”، وبوتين إلى حد بعيد على ما كانوا عليه بحلول نهاية عام 1999. لقد اكتشف العالم الكثير عن سلوك النظام، ولكن كيف ومتى سينتهي حكم بوتين يظل السؤال الذي لا يزال مفتوحًا، رغم أنه تجاوز منصب رئيس الوزراء بشكل بعيد.
بوتين والغرب
“بالنسبة لي، فإن بوتين هو أولاً وقبل كل شيء شخصية مأساوية”، هذا ما قاله لي محلل فنلندي أخيرًا. نعم، من الممكن اعتبار بوتين شخصية متفردة بشكل مأساوي، تعاني من سوء الفهم المزمن.
فعلى سبيل المثال، كانت علاقة بوتين مع الغرب مليئة بسوء الفهم الكبير والخطير. ومع ذلك، فبطريقة أو بأخرى، فإن سوء الفهم هذا يبدو مهمًا جدًا؛ فكافة الأمور كانت ستتعثر بدونه، لأن نظرة بوتين الأساسية إلى العالم لا تتفق مع وجهة النظر السائدة لدى الليبراليين الغربيين.
من السهل أن ننسى أن بوتين في سنواته الأولى في السلطة، حاول أن يكون ودودًا مع الغرب. وكان يدرك أن ماضيه في جهاز المخابرات الروسي KGBكان عائقًا نحو ذلك. أتذكر أنه كان يشكر “يلتسين” على ترؤسه الوفد الروسي لحضور قمة منظمة الأمن والتعاون في أوروبا المنعقدة في إسطنبول في نوفمبر 1999. وقد اعترف بوتين بذلك قائلاً: “بالنسبة لي، كان موقف شركائنا الغربيين أقل جودة”.
ويمكن الاطلاع على منطقٍ مشابهٍ، يتمثل في الاعتراف الهادئ بأن خلفيته الشخصية والتاريخية قد تُعَقِّد علاقة روسيا مع الغرب، في تنصيب بوتين لـ”دميتري ميدفيديف” كرئيس في الفترة 2008-2012. ووفقًا للمحلل الروسي “ديمتري ترينين”، كانت رئاسة “ميدفيديف” بأكملها “محاولة بوتين لمعرفة ما يمكن للمرء تحقيقه من حيث المبدأ، مع الغرب”.
وفي العديد من المناسبات الأخرى، حاول بوتين أن يُظهر للغرب نواياه الطيبة. فيقول المحلل الروسي “أليكسي أرباتوف”: “في أوائل العقد الأول من القرن العشرين، طلب بوتين من مجلس الدوما التصديق بسرعة على العديد من معاهدات الحد من الأسلحة التي رفضها الدوما في السابق والتي يهيمن عليها الحزب الشيوعي”. “وكانت تلك هي طريقته للإشارة إلى أنه ينبغي للغرب أن يقدر توجهه نحو استقلال مجلس الدوما”.
لكن للأسف، كل هذه المحاولات كانت محكومًا عليها أن تصطدم برؤية الغرب المختلف تمامًا عن روسيا الودودة، وهي الرؤية التي يبدو فيها الدوما مستقلاً، والرؤساء مهما كانت نواياهم جيدة، يتم انتخابهم بشفافية. لقد كان هناك تعارض بين المفهوم الغربي للتقارب ونظرة بوتين الأكثر واقعية، والمتمحورة حول الدولة، والقائمة على المنطق الهرمي من أعلى إلى أسفل للشؤون العالمية، والتي يمكن للمرء فيها أن يتاجر بالمصالح دون تقاسم القواعد.
بجانب ذلك، فإن ثمة مفارقة أخرى هي أنه على الرغم من أن بوتين يبدو واضحًا ومباشرًا إلى حد بعيد في تصريحاته، فإن عادات التواصل لديه غالبًا ما تجعله يصعب فهمه. فقد تساءل مفكر بريطاني ذات مرة: “لماذا لا يقول شيئًا، لسنوات عديدة، ثم يأتي فجأة بانفجار مثل خطاب ميونيخ؟” “ثم، مرة أخرى يكون الصمت، ومرة أخرى الانفجار … لماذا هذا الخطاب غير المتسق؟”.
من المحتمل أن بوتين لا يعتبر هذا تباينًا. وإذا كان يعتقد حقًا أن سلوك جميع البلدان يعتبر مدفوعًا بسياسات القوة وأن المبادئ هي مجرد نفاق، فمن المنطقي أن يلعب بها لاستخدام لغة النفاق، حتى تكشف العاطفة عن آرائه الحقيقية في فورة أخرى.
ثم إن هناك، بالطبع، عمليات خاصة. إذ يقول أحد المحللين الروس الكبار: “لقد تساءلت لفترة طويلة كيف يمكن لبوتين أن يكذب”. “كيف يمكن أن يخبر أنجيلا ميركل أنه لا توجد قوات روسية في شبه جزيرة القرم، وبعد ذلك بعامٍ يتباهى بعملية سطو واستيلاء ناجحة؟”؛ حتى أدركت أن السياسة كلها “عمليات خاصة” بالنسبة له. “ربَّما تبدو هذه مبالغة بسيطة، حيث من المرجح أن بوتين يعتقد أن السياسة ليست كلها عمليات خاصة”، لكن عندما يكون الأمر كذلك، فإن الكذب الفعال هو جزء من السلوك المهني.
هذه الجوانب المختلفة لطريقة عمل بوتين (النفاق والعمليات الخاصة والاستخدام المباشر للحقيقة) قد سمحت للمحللين بالعمل طيلة العشرين عامًا الماضية. فمن المحتمل أن نستمر في تقديم خدماتنا طالما استمر هذا النظام قائمًا. لكن، رغم ذلك، تعتبر هذه لفك التشفير، أساسًا ضعيفًا للحوار العام بين القادة الوطنيين. وهكذا، فإن سوء الفهم سيستمر حتى نهاية وقت بوتين أيضًا، وهو ما يتنامى في الوقت الحاضر بسبب مخاوف الغرب المرتبطة بظروف بوتين الداخلية.
الوحدة السياسية
قبل عام، وخلال الفترة التي سبقت القمة الأميركية الروسية في هلسنكي، بدأتُ بحثًا غير موفق في نهاية المطاف عن شخصية ما يمكنني مقارنتها ببوتين. (فقد كان نظيره الأميركي، دونالد ترمب، الذي بدا أشبه بشخصية دودلي دورسلي في رواية هاري بوتر!)، لكن في وقتٍ لاحقٍ، أدركت أن بوتين يذكّرني بقوة ناشر صحيفة كتبتُ عنها ذات يوم. لقد كان محبطًا حقًا من رئيس تحريره لأنه، كما يرى، يفتقر إلى المبادرة والأفكار والخيال. ومع ذلك، فقد تجاهل تمامًا حقيقة أنه أقال كل المحررين الذين يمتلكون هذه الصفات، وأنه فعل ذلك لأن هؤلاء الأشخاص غير المريحين سيختلفون معه عاجلًا أم آجلًا.
الآن وبعد عقدين من صعوده إلى السلطة، فإن بوتين يبدو كشخصيةٍ وحيدةٍ في الساحة السياسية. فبين الحين والآخر، يمكن للمرء أن يشكك في هذه الحقيقة. إذ يأمل المرء في ظهور طبقةٍ سياسيةٍ مواليةٍ مفعمةٍ بالحيويةِ، ولديها قدرة على المبادرة وتحمل المسؤولية. لكن، للأسف، يبدو أن العديد من الأشخاص الذين قد يختارون من بينهم يفتقرون إلى المبادرة والأفكار والخيال.
إعداد: وحدة الترجمات بمركز سمت للدراسات
سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
تابعوا أحدث أخبارنا وخدماتنا عبر حسابنا بتويتر