صناعة إعلام الطفل | مركز سمت للدراسات

صناعة إعلام الطفل

التاريخ والوقت : الأحد, 16 يناير 2022

بدر محمد الغامدي

الطفل محور اهتمام الدول، وبمعرفة مقدار الرعاية التي يحظى بها، يمكن التنبؤ بغد المجتمعات ونهضتها وتقدمها. فالأطفال من أهم الفئات العمرية في أي مجتمع، كيف لا وهم قادة المستقبل. إذ تسعى العديد من المؤسسات الإعلامية على وجه الخصوص إلى إنتاج محتوى مخصص للطفل.

فكما قيل “من ملك الإعلام ملك كل شيء”؛ لذا هناك إيجابيات عديدة من ذلك، منها: توسيع المدارك والخيال وإكساب المفردات اللغوية السليمة، وهناك جانب تربوي سلوكي، وأيضًا قيمي يتم تعزيزه، مع تنمية المشاعر الإيجابية، طبعًا عند صناعة إعلام مميز للطفل. أمَّا السلبيات فهي بعكس ما ذُكر وأكثر عند انتهاك أنظمة السياسات الإعلامية وتقديم محتوى وصناعة سلبية.

وللحفاظ على الهوية والقيم يرى البروفيسور “هان”، أستاذ قسم الرسوم المتحركة في جامعة “سيجونغ” بكوريا الجنوبية، خطورة الرسوم المتحركة المستوردة على عقول الأطفال، وبخاصة أفلام “والت ديزني” الأميركية التي تمجد قيم الحضارة الأميركية، وتقدّس سيطرة الرجل الأبيض وسيادته.

وكذلك الرسوم المتحركة اليابانية المعقدة، التي تضع نظرة تشاؤمية للمستقبل. كما قال البروفيسور “هان”: إن تقبّل كل ما أنتجته “ديزني” بحجة أنه “مجرد كرتون لا غير”؛ لتغير المحتوى بشكل كبير عن الرسوم التي ظهرت مبكرًا بقوله: لأن إنتاج “ديزني” هو من الرسوم المتحركة الموجهة للأطفال والعائلات، فإن الناس يميلون إلى تقبّل ما يأتي فيها والثقة بأن كل فيلم كرتون يحتوي على قصص جيدة وجميلة وبريئة بدون أي تحفظات أو فحص مسبق، وأكد أن النظرة العامة تعد الشخصيات الكرتونية فاقدة للهوية، وهذا ما يسهل انتشارها ونشرها لأيديولوجية رأسمالية.

لذا، نرى في نماذج كثيرة صناعة إعلام متخصص للطفل من أجل فكرة معينة في البلد أو تعزيز أمر ما، والأمثلة على ذلك كثيرة، وسنذكر هنا بعضًا منها على سبيل المثال لا الحصر، فكما قيل” يكفي من القلادة ما أحاط بالعنق”.

هناك نماذج من – أفلام الكرتون مثلاً – تم استثمارها، مثلاً: شخصية” الكابتن ماجد” الشهيرة، إذ تقول القصة إنه في السبعينيات الميلادية أرادت اليابان نشر لعبة كرة القدم في البلاد لأنها لم تكن اللعبة المشهورة هناك، ولا اللعبة الشعبية الأولى لدى اليابانيين حتى يومنا هذا. وبالتعاون مع جهات حكومية وتجارية عدة لنشر اللعبة، قامت شركة يابانية بطرح فكرة شخصية “سوباسا” المعروفة بالدبلجة العربية بـ”الكابتن ماجد” والتي نشرت في القنوات العربية في بداية التسعينيات الميلادية؛ لتكون قدوة للصغار في حب كرة القدم، والطموح بالفوز، وبناء جيل يحب كرة القدم؛ ليذهب للاحتراف الخارجي في الدول المتطورة كرويًّا والفوز بكأس العالم. فكانت أول نسخة من هذا الفيلم الكرتوني عام 1981م، ثم توالت الأجزاء الأخرى بعد ذلك في تطور لشخصيته الشابة المشاركة في كأس العالم، والمحترفة خارج اليابان، حتى وصل الأمر إلى خمسة أجزاء لهذا الفيلم الكرتوني إلى الآن، ثم تطور الأمر إلى أن أصبحت لعبة إلكترونية، ثم مجلة ورقية للأطفال.. وهكذا.

فكل هذا الحشد الإعلامي للمساهمة في دعم ونشر قضية واحدة، هي كرة القدم، وجعل اليابان المصنف رقم واحد في قارة آسيا، وله حضور جيد على مستوى العالم.

بعد وضع الخطط اللازمة، ومشاركة قطاعات عدة في نشر اللعبة في اليابان، واستثمار “إعلام الطفل” بداية، ماذا حصل من قفزات هائلة للفرق والمنتخبات اليابانية بعد ذلك؟!

بعد سبع سنوات من طرح الفيلم الكرتوني “الكابتن ماجد” كان التأهل للمرة الأولى لنهائيات كأس آسيا لكرة القدم “للمنتخب الياباني الأول” في عام 1988م.

لم يكتفوا بذلك، بل طالبوا باستضافة كأس آسيا؛ لتكون هناك مشاركة شعبية أكبر، وجلب المنتخبات الوطنية بالقرب منهم، وتطوير البنية التحتية للملاعب والمرافق الرياضية، مع المكاسب الاقتصادية التي تحققت بسبب الاستضافة.. فكان لهم ذلك عام 1992م، والفوز أيضًا باستضافة كأس العالم مناصفة مع الجارة “كوريا الجنوبية” عام 2002م؛ فكان التفوق والتطور للكرة اليابانية حتى تحقق الحلم بأن أصبحت اليابان الرقم الأول والصعب في عالم كرة القدم بالقارة الآسيوية؛ فقد حققت اليابان كأس آسيا 4 مرات، لتكون أكثر منتخب آسيوي يحققه، وذلك في الأعوام “1992، 2000، 2004، 2011″، وتأهلت أيضًا لكأس العالم 6 مرات من عام 1998م إلى آخر نسخة 2018م.

ليس هذا فقط، بل على مستوى جميع الفئات السنية “ناشئين، شباب، أولمبي”. أصبح المنتخب الياباني المنافس الأول والند القوي في هذه اللعبة، وكذلك الأندية اليابانية، بعدما كان ذلك قبل 40 سنة حلمًا يراود المسؤولين هناك.

نجحوا في خطتهم السابقة، والآن هم بدؤوا خطة استراتيجية أخرى. فبعد كأس العالم الأخيرة في روسيا 2018م وُضعت خطة للاتحاد الياباني لكرة القدم، التي بدأت من عام 2015، وتنتهي عام 2050م، وتهدف إلى الحصول على كأس العالم لجيل لم يولد بعدُ، لكنهم خططوا من الآن؛ لأنهم كوكب اليابان.

همستُ في نفسي، وبدأت أفكر.. هذا السرد للقصة الكرتونية، وربطها بالواقع الكروي لليابان، هو مجرد مثال، لا أقل ولا أكثر. فمع التخطيط السليم للانتقال من واقع غير إيجابي إلى وضع ممتاز يصل الأمر إلى أن تكون رقم واحد في المجال الذي قمت بالتخطيط فيه. هذا ميزة وفائدة نستفيد منها.

لكن نظرتي لزاوية أخرى، قد يغفل عنها البعض من خلال ما ذكرت، هي الدعم الإعلامي الكبير الذي صاحب حُلمهم من البداية إلى النهاية؛ وذلك للمساهمة في إنجاح قضيتهم.. فقد كانت البداية من “إعلام الطف” حتى وصلوا إلى “إعلام الفتيان”.. وهكذا؛ فساهموا أيَّما مساهمة في إنجاح الحلم الذي كان يراودهم، ونشر فكرة في جانب من جوانب حياتهم.

السؤال الحقيقي الآن: ماذا فعل إعلامنا لدعم قضايانا الرئيسية؟

انظر وحلل مثلاً في “إعلام الطفل” لدينا وغيره، وابحث عن القيم التي يبثها، والرسائل التي ينشرها من خلال البرامج والقنوات المخصصة.

هل يعيش الإعلام كوسيلة لنهضة البلاد أم ماذا؟ حلل البرامج والحشد الإعلامي في جميع أقسامه “المرئي، والمسموع، والإلكتروني، والمقروء…” بماذا خدم؟ وماذا قدم؟

ماذا قدمت الشركات الإعلامية بالتعاون مع الجهات الرسمية في خدمة أهداف وقضايا المجتمع في أي وسيلة إعلامية كانت؟ أم إنها النفعية البحتة بغض النظر عن أي مبادئ وقيم!

ما الأفكار والسلوكيات التي تقوم عليها البرامج بغرسها في أجيالنا؟ أسئلة كثيرة تجول في خاطري لهذه الوسيلة الأكثر تأثيرًا في عالمنا اليوم.

مثال آخر في دولة أخرى انطلقت حكايته عام 1906م، إذ كتبت الروائية السويدية “سيلمى لاغرلوف” كتابها الروائي الشهير، الذي فاز بعد ذلك بجائزة نوبل في الأدب عام 1909م، وكانت أول سويدية تفوز بالجائزة.

ما قصة هذا الكتاب؟ وما سر هذه القصة؟ وما الدافع والسبب لكتابته؟!

لنعُدْ للوراء قليلاً. كان هناك ضجر كبير من الأطفال في السويد من كتاب مادة الجغرافيا، وعدم رغبتهم في حضور دروسها. وبعد دراسات عدة، قامت بها وزارة التربية السويدية، اكتشفت أن السبب يعود لرتابة كتاب المقرر؛ إذ كان مملاً للأطفال، وغير مبسط لفهمه؛ لذلك طلبوا من الكاتبة “سيلمى” أن تكتب كتاب جغرافيا جديدًا، يناسب تلك الفئة العمرية، ويكون شيقًا وممتعًا في الوقت نفسه.

تحقق لها ذلك نتيجة العمل مدة 6 سنوات، سافرت فيها إلى كل أرجاء السويد؛ فأخرجت الكتاب الرائع “نيلز هولكر سونس ورحلته عبر السويد” في عام 1906م. الكتاب الذي جعل الكبار قبل الصغار يُقبلون على قراءته، وأيضًا كان السبب الذي جعل أطفال السويد يرغبون من جديد في فهم جغرافية بلدهم.

فيما بعدُ تُرجم الكتاب إلى 12 لغة عالمية، وكذلك أصبح مسلسلاً كرتونيًّا شهيرًا (نيلز)، أنتجته شركة يابانية في عام 1980م، مستوحى من كتاب “سيلمى”.

وتكريمًا للكاتبة، وهذه القصة الشهيرة، جُعلت من صورتها في ورقة “20 كورن” بالعملة السويدية، وصورة الطفل “نيلز” مع طيور الإوز في الوجه الآخر للعملة.
استطاعت الكاتبة أن تجعل من كتاب الجغرافيا المعقَّد كتابًا مبسطًا بطريقة إبداعية جديدة.

وقصة الطفل “نيلز” أن رجلاً قام بمسخه، وتحويله من حجمه الطبيعي إلى حجم صغير جدًّا؛ وذلك عقابًا له لإيذائه الحيوانات. وبسبب حجمه الجديد أصبح يركب على ظهر الإوزة “مورتن”؛ فكان يقوم بالسفر مع الإوز البري برفقة “مورتن” شمالاً في فصل الصيف، وجنوبًا في فصل الشتاء، مرورًا بمناطق مختلفة التضاريس؛ ليكون الهدف العميق هو التعرف على جغرافية دولة السويد من خلال هذه القصة وأحداثها.

همست في أذنه قائلاً: دائمًا تكرر يا صديقي أن صناعة المحتوى مهم. هي فعلاً كذلك، لكن هذه من زاوية. وأقول من أخرى إن تعاون جهات عدة في تطوير مشروعهم كان بلمسة إبداعية بسيطة، وكان ثمرتها غرس قيم وأفكار في أجيال متعاقبة، وبأقل التكاليف.

ومثال آخر ما قام به البلجيكي “بيبر كوليفورد” الذي كانت أمنيته في البداية أن يصبح مساعد طبيب أسنان؛ فقد كان هذا قراره واختياره، بل كان هذا طموحه وأمله منذ نعومة أظفاره. يأتي يوم المقابلة لهذه الوظيفة، ولكن قدر الله جعله يتأخر دقائق عدة عن الموعد؛ ليلتقي مسؤول التوظيف قائلاً: “لقد تأخرت عن الموعد، وهذا غير مقبول؛ فلم يتم قبولك بهذه الوظيفة”؛ فاضطر إلى قبول عرض وظيفي آخر براتب أقل، وضغط عمل أكبر، في استديو للرسم.

بعد مرور الوقت وجد “بيبر” نفسه في الاستديو، الذي جعله يرجع إلى هواية الرسم، التي كان قد ابتعد عنها كثيرًا، لكنه بدأ العمل مع رسامين مبدعين في مجلة لرسوم الأطفال، وحقق نجاحًا كبيرًا! وعُرف باسم “بيبو” في سلسلة “جونوبيوت” الكوميدية.

ابتكر شخصية كرتونية، أسماها “السنافر – Smurfs”. وحققت هذه الشخصية نجاحًا مدويًا؛ إذ انتقلت من عالم الورق إلى التلفزيون، ومن ثم إلى السينما. كان أول ظهور لشخصيات السنافر في 23 أكتوبر من عام 1958م، والفيلم الكرتوني لها كان عام 1981 بقرابة 256 حلقة. أمَّا عن الأفلام، فالجزء الأول فيها عام 2011م، والجزء الثاني عام 2014م.

منذ عام 1958 حتى اللحظة باتت السنافر في كل مكان، وبكل اللغات. قدَّر الله له ألَّا يُقبل في وظيفة مساعد طبيب أسنان بالرغم من حزنه كما يذكر.

وهناك أمثلة أخرى من واقعنا لاستديو براجون مثلاً، الذي أنتج فيلم “بلال”، المستوحى من قصة الصحابي الجليل بلال بن رباح. وما تقوم به الآن شركة “مانجا” في إنتاج بعض الأفلام الكرتونية والمجلات باللغة العربية مثل: فيلم “في قادم الزمان”، وفيلم “الرحلة”. وشركة أخرى تنتج أفلامًا في التسعينيات الميلادية مثل: “قرية الزيتون”، وفيلم” رحلة الخلود”. والآن مثلاً قناة “ماجد” التي هي امتداد لمجلة ماجد الشهيرة.

إعلام الطفل ليس ترفًا، بل صناعة وجب احترافها إذا أردنا صناعة جيل قيمي تربوي مهتم بوطنه وأمته، منجز وممتلك للمهارات.

 

مختص في التواصل المؤسسي*

@Badralghamdi

النشرة البريدية

سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!

تابعونا على

تابعوا أحدث أخبارنا وخدماتنا عبر حسابنا بتويتر