سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
علي فرجاني
شهدت الصحافة تطورا سريعا فى السنوات الأخيرة؛ حيث أصبح الذكاء الاصطناعى أداة رئيسية فى إنتاج الأخبار ونشرها، وتعرف هذه الظاهرة باسم “صحافة الذكاء الاصطناعى” التى تمتلك العديد من الفوائد مثل تحسين جودة الأخبار، وتعزيز كفاءة النشر، وتوسيع نطاق الوصول إلى الأخبار، ومع ذلك فإنها تطرح أيضا بعض المخاطر، مثل انتشار المعلومات المضللة واختراق الخصوصية وتضليل الرأى العام.
ألقت تقنيات الذكاء الاصطناعى بظلالها على واقع الممارسة الصحفية، وأحدثت تحولات كبيرة فى قدرتها على التأثير فى الرأى العام، وبات جزء من المؤسسات العالمية يتجه نحو استخدام الذكاء الاصطناعى والاستفادة منه فى مجالات عدة، أهمها استخراج البيانات، وتحسين طرق البحث، والتنبؤ بالموضوعات، والتفاعل مع تعليقات الجمهور، ومكافحة الأخبار المزيفة، وكتابة النصوص الإخبارية بشكل كامل، وذلك بهدف توفير أدوات أكثر ذكاء وسرعة فى نقل الخبر إلى المتلقى، وتفاعل الجمهور بسهولة ويسر، وقد أدى ذلك إلى ظهور بعض المفاهيم المستحدثة، مثل صحافة الروبوت، وتوليد اللغة الطبيعية، والخوارزميات، وغيرها.
إن اقتحام التكنولوجيا الرقمية للمشهد الإعلامى كقوة دافعة، أصبح يغير المفاهيم الاقتصادية والسياسية، وقواعد التجارة والقدرات التنافسية ما عكست آثارا عميقة وهائلة على مستقبل الإعلام الرقمى، وبروز المجتمعات الرقمية المعتمدة على توظيف التكنولوجيا فى كل مناحى الحياة والعمل.
الذكاء الاصطناعى وإدراك القوة:
فى تصريح للرئيس الروسى فلاديمير بوتين قال: إن من يسيطر على الذكاء الاصطناعى سوف يسيطر على العالم، وفى تقرير للجمعية البرلمانية لحلف الناتو الصادر فى أكتوبر 2022 أشار إلى أن “للذكاء الاصطناعى آثارا مدمرة على القدرات العسكرية، ومن المتوقع أن يزداد هذا الأثر بشكل كبير خلال السنوات الخمس إلى العشر القادمة”. ومن جانبه حذر عالم الفيزياء الشهير ستيفن هوكينج من أن الذكاء الاصطناعى “أسوء شىء يحصل للبشرية”، وتنبأ بأنه “ربما تطور الروبوتات أسلحة قوية ذاتية التحكم أو أساليب جديدة لاضهاد الكثيرين”، وقال أعتقد أنه لا توجد فروقات عميقة بين ما يمكن للعقل البيولوجى أن يحققه وما يمكن للحاسوب أن يحققه، نتيجة لهذا فإنه يمكن للحواسيب – نظريا- مضاهاة الذكاء البشرى والتفوق عليه. كل ذلك ما هو إلا دليل على التأثير الكبير الذى يمكن أن يتسبب به الذكاء الاصطناعى فى تغير موازين القوى.
صحافة الذكاء الاصطناعى فى مواجهة الأخبار الزائفة:
تساعد صحافة الذكاء الاصطناعى على كشف المعلومات المضللة والأخبار الكاذبة من خلال إخضاعها للتحليل والمقارنة لإثبات صحتها، ومراقبة مصداقية المحتوى فى وسائل الإعلام المختلفة، وإعداد تقارير أكثر دقة وشفافية، وتستخدم هذه الأدوات بشكل واضح فى شبكات التواصل الاجتماعى مثل فيسبوك وتويتر لمواجهة الأخبار الزائفة التى أثرت بشكل سلبى فى مصداقية صانعى المحتوى، وكان لها تبعات اجتماعية وسياسية وعالمية واسعة.
التلاعب والتضليل الإعلامى:
فى عصر تحظى فيه منصات تقنية عالمية معدودة وذات تأثير هائل بالقدرة على زعزعة الوسائل التقليدية التى كانت تعتمد عليها المجتمعات فى الحصول على المعلومات، فإن عمليات التلاعب بالإعلام وحملات المعلومات المضللة تمثل تحديا صارخا لجميع المؤسسات السياسية والاجتماعية، فالمحتوى المضلل والفبركات التى تنتشر عبر أطراف متعددة تتبع جهات معادية، أو علامات تجارية، أو حركات اجتماعية، أو حتى أطراف مجهولة الانتماءات، طورت تقنيات جديدة بهدف التأثير فى الحوارات العامة وإثارة القلاقل على نطاق محلى أو وطنى أو عالمى.
وقد وفرت انتخابات الرئاسة الفرنسية لعام 2017 أمثلة توضح أساليب التضليل المعلوماتى، فقد كان من بين محاولات التضليل فى الحملة الانتخابية الفرنسية، الذى تم إنشاء نسخة متقنة طبق الأصل من الصحيفة البلجيكية “لاسوار” ونشر مقال كاذب يزعم أن المرشح الرئاسى إيمانويل ماكرون تموله المملكة العربية السعودية، ومن الأمثلة الأخرى على ذلك تداول وثائق عبر الإنترنت تدعى كذبا أنه فتح حسابا مصرفيا خارجيا فى جزر البهاما، وأخيرا تم نشر معلومات مضللة عبر “غارات تويترية”، فقد قامت شبكات من الأفراد مرتبطة بشكل واسع بنقلها إلى تويتر بشكل متزامن مع استخدام علامات الوسم المتماثلة لنشر شائعات عن حياة المرشح الخاصة.
وثمة اتفاق عريض بأن التلاعب والتضليل فى الإعلام من المعضلات الحقيقية التى تواجه المجتمعات اليوم، لكن تعريف المعلومات المضللة والتلاعب الإعلامى وكشف توثيقه ودحضه لا يزال صعبا، ولا سيما أن الهجمات باتت تستهدف قطاعات مهنية مختلفة مثل الصحافة والقانون والتكنولوجيا.
لذا، فإن فهم التلاعب الإعلامى بوصفه نشاطا ذا نمط ما سيكون خطوة أولى لا غنى عنها فى العمل على التحقق بشأن الظاهرة وفضحها والحد من ضررها .
التضليل والمعلومات الضارة:
إن صناعة الكذب والتضليل الإعلامى له صور عدة منها: قلب الحقائق، أو التضليل بالمعلومات التى ليست لها علاقة بالحدث، أو استخدام مفردات تؤدى إلى إصدار أحكام بالإدانة، أو بالانتقائية المتحيزة التى تنتقى بعض الكلمات والحقائق والمصادر وتهمل الأخرى، ويؤدى الإعلام دورا خطيرا فى حياة الأمم، ليس فى نقل الأخبار والأحداث فقط، وإنما فى صياغة وتحديد وجهات الرأى العام، وتترك أكبر قدر من التأثير السلبى فيهم.
والتضليل الإعلامى هو صياغة رسالة مفتعلة وتركيبها ونشرها عبر ممارسات التوجيه والتنافر والبدائية والتشويه والخداع والافتعال؛ بهدف خداع المتلقى وتحقيق المكاسب والمصالح التى تتحكم فى عملية التضليل وممارسة استخدامهم.
ومن أمثلة استخدام المعلومات الضارة؛ عندما تم تسريب رسائل البريد الإلكترونى الخاصة بإيمانويل ماكرون قبل انتخابات الإعادة مباشرة، وكانت رسائل البريد الإلكترونى حقيقية. ومع ذلك تم تسريب المعلومات الخاصة فى المجال العام قبل دقائق من بداية الحظر القانونى على أى تغطية انتخابية قبل الاقتراع مباشرة، كان الهدف إحداث أقصى قدر من الضرر لحملة ماكرون.
والدعاية ليست مرادفا للتضليل، رغم أن التضليل يمكن أن يخدم الدعاية، لكن الدعاية عادة ما تكون أوضح تلاعبا من المعلومات المضللة؛ لأنها عادة ما تستخدم الرسائل العاطفية، بدلا من المعلومات.
صحافة الذكاء الاصطناعى والتزييف العميق:
أحد تحديات استخدام الذكاء الاصطناعى لمكافحة الأخبار المزيفة هو الذكاء الاصطناعى نفسه؛ حيث يستخدم الذكاء الاصطناعى بالفعل فى إنشاء التزييف العميق (Deep fake) بطريقة مذهلة من خلال صور وفيديوهات ومقاطع صوتية يتم فيها استبدال وجه شخص ما أو التلاعب بلقطات وطبقة الصوت الخاصة به، ما يجعل الأمر يبدو كما لو أن الشخص قال شيئا لم يقله فى الواقع، وفى الوقت الحالى أصبحت تطبيقات الهواتف الذكية قادرة على هذا النوع من التلاعب، وإن كانت هذه التطبيقات تنتج ما يعرف بالتزييف الرخيص (cheap fakes)، وعلى الرغم من ذلك فإن هذه التقنيات أصبحت فى متناول أى شخص تقريبا، ويصعب اكتشافها خاصة لدى غالبية المستخدمين غير المتخصصين.
ويعرف بعض الباحثين الأخبار الزائفة بأنها أخبار خاطئة غير حقيقية، وتم اختلاقها بصورة كلية أو جزئية؛ بغية تضليل الرأى العام، وتحقيق مجموعة من الأهداف السياسية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها.
وتتميز تلك التقنية عن غيرها من شبكات الذكاء الاصطناعى الأخرى بأنها لا تكفى فقد بمقارنة البيانات وتصنيفها وعرض النتائج بناء على مدخلات ثابتة، بل لها القدرة على التعلم وإنتاج بيانات مشابهة للبيانات الأصلية، وتدريب الذكاء الاصطناعى على اكتشاف أنماط الكلام المحددة فى الشخص واستنخدام البيانات لجعل هذا الشخص يقول الكلمات التى لم يقلها بالفعل فى الحياة الحقيقية.
وعرفت صحيفة New York Timesالــ Face newsبأنها نوع من الصحافة الصفراء أو الدعاية التى تتكون من التضليل المتعمد، أو الخدع المنتشرة عبر وسائل الإعلام المطبوعة والإذاعية التقليدية، أو مواقع الشبكات الاجتماعية.
ويقصد بها أيضا تلك المعلومات التى تم تصنيعها ونشرها عن عمد لخداع وتضليل الآخرين فى الاعتقاد والكذب، أو التشكيك فى حقائق يمكن التحقق منها، إنه التضليل الذى يتم تقديمه على أنه خبار.
والأخبار الزائفة هى بالتأكيد جزء من فئة أكثر عمومية من الخداع الصحفى، وقد أشار “إليوت وكولفر” إلى أن تلك الأخبار ليست رسائل اتصالية فقد تقدم عن طريق الكذب، لكن تقدم أيضا عن طريق حجب المعلومات وإخفائها؛ ما يؤدى إلى خلق أشخاص لديهم اعتقاد زائف، ومن ثم يمكن عدُّ تلك الأخبار شكلا من أشكال التضليل الإعلامى.
التزيف العميق وتقنيات التضليل:
فى عام 2018، نشر البروفيسور سوى لاى (Siwei Lyi)، وهو باحث رائد فى مجال التزبيف العميق فى جامعة ألبانى (Albany)، ورقة بحثية تثبت أن الوجوه التى تظهر فى مقاطع الفيديو عميقة التزييف لا ترمش بنفس المعدل الذى يرمش به البشر الحقيقيون. وسرعان ما تلقفت هذه الملاحظة العديد من المجلات والمواقع، ما ولَّد اقتناعا لدى كثيرين بأنه قد باتت لدينا الآن طريقة موثوق بها للتعرف إلى مقاطع الفيديو عميقة التزييف. ولم تمض عدة أسابيع على نشر هذا البحث حتى وصل إلى هذا الباحث عدد من مقاطع الفيديو عميقة التزييف تستخدم وجوها ترمش بشكل مماثل للطريقة التى يرمش بها البشر الحقيقيون، وهكذا فإن هذه الملاحظة لم تعد مفيدة ولا دقيقة، رغم أنها كانت خللا أساسيا فى خوارزميات التزييف العميق فى تلك الآونة، وبيانات التغذية التى كانت تستخدم فى إنشائها، ولكن فى غضون بضعة أشهر اختفت هذه المشكلة بعد التوصل إلى حل لها.
يوضح هذا المثال حقيقة أساسية بخصوص التحرى عن التزييف العميق وكشفه، وهى أن المقاربات التقنية تحقق الفائدة المتوقعة منها إلى أن تتمكن التقنيات الخاصة بتطوير عمليات التزييف العميقة من التكيف وتجاوز الخلل الذى يمكن من الكشف عنها، وهكذا فإنه لا يمكن تخيل وجود مثالى أوحد للكشف عن عمليات التزييف العميقة
استراتيجيات مواجهة نشر المعلومات والأخبار الكاذبة:
عمدت العديد من الدول إلى تطوير استراتيجيات لمواجهة انتشار الأخبار الكاذبة، وتتمثل أبرز هذه الاستراتيجيات فى العناصر التالية:
1– إصدار تشريعات لحذف الأخبار الكاذبة
عمدت الدول الأوروبية إلى إصدار تشريعات لمواجهة الأخبار الكاذبة والمحتوى المتطرف، فعلى سبيل المثال أصدرت ألمانيا قانونا حمل اسم “قانون إنقاذ الشبكات” (Network Enforcement Act)، الذى بموجبه يطالب مواقع التواصل الاجتماعى بإزالة الأخبار الزائفة التى تحرض على الكراهية، وذلك خلال فترة زمنية لا تتجاوز 24 ساعة، وإلا تعرضت هذه المواقع لغرامات تصل إلى 50 مليون يورو.
2– التعامل النقدى مع المواد الإعلامية
تبنى الاتحاد الأوروبى استراتيجية جديدة لمكافحة انتشار الأخبار الزائفة، وكانت أحد أهم أعمدة هذه الاستراتيجية هى مطالبة الدول الأعضاء فى الاتحاد الأوروبى بتطوير نظمهم التعليمية، بحيث تتضمن مواد تعليمية حول المواطنة الرقمية والثقافة الإعلامية (Media Literacy)، بالإضافة إلى تعليمهم مهارات التفكير النقدى، لزيادة درجة وعيهم حول مخاطر نشر المعلومات والأخبار الكاذبة والأدوات التكنولوجية المستخدمة لنشرها بصورة مكثفة على مواقع التواصل الاجتماعى.
3- توظيف الذكاء الاصطناعى
يرى البعض أن أنظمة الذكاء الاصطناعى من الممكن توظيفها كأجهزة رادار أو نظم إنذار مبكر، تستطيع رصد التهديدات المعلوماتية النابعة من العدو فى صورة أخبار كاذبة، أو إشاعات أو غيرها، وتحديد منشأها، والمواقع التى انتشرت عبرها، بل توجيه مستخدمى الإنترنت إلى المواقع التى تفند هذه الأخبار الكاذبة.
يمكن أن يؤدى التزييف العميق والمعلومات الخاطئة الناتجة عن الذكاء االصطناعى إلى تقويض الانتخابات والديمقراطية، لذا يجب أن يكون القانون واضحا بشأن استخدامات التزييف العميق والأخبار المضللة.
ختاما:
من المتوقع أن يصبح التزييف العميق والأخبار الزائفة أو المضللة أكثر انتشارا فى المستقبل؛ حيث سيستمر الذكاء الاصطناعى فى التطور بما يؤدى إلى زيادة انتشار الأخبار الزائفة، ما يشكل تهديدا كبيرا على المجتمع، ففى السنوات المقبلة، ستصبح صحافة الذكاء الاصطناعى أكثر انتشارا وتأثيرا. ولهذا، يجب أن يكون هناك تعاون بين وسائل الإعلام والأكاديميين والباحثين فى مجال الذكاء الاصطناعى لتطوير تقنيات وأدوات قوية وفعالة لكشف الأخبار الزائفة.
لذا، تحتاج الحكومات إلى بناء الخبرة فى مجال الذكاء الاصطناعى وما ينطوى عليه من تقنيات جميع الأخبار الزائفة والتضليل الإعلامى، فضلا عن سن قوانين ولوائح تواكب المتغيرات الحالية للحد من استخدامات التزييف العميق وترويج الأخبار المضللة لما تمثله من تهديدات أمنية بالغة.
المصدر: السياسة الدولية
سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
تابعوا أحدث أخبارنا وخدماتنا عبر حسابنا بتويتر