سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
عبدالحميد توفيق
وجهت حزمةُ المواقف والتوجهات الأميركية الداعمة مباشرةً لليونان وقبرص صفعةً كبيرة لأردوغان ونظام حكمه بعد أن كان يتوهم أن إدارة ترمب لا تدير بالاً لمغامراته، ولا تكترث لمحاولاته الرامية لتهديد مصالح واشنطن وحلفائها في الإقليم . مواقفُ الولايات المتحدة الأميركية ظلت مبهمةً وغيرَ واضحةٍ تجاه سياسة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان على مدار السنين القليلة المنصرمة وتحديداً منذ بدء التحولات الكبيرة في المنطقة التي نجمت عن الصراعات الداخلية في بعض دول الإقليم، ووصل الأمر بكثير من السياسيين والمحللين الاستراتيجيين إلى اللجوء إلى التكهنات في محاولاتهم لفهم استراتيجية واشنطن التي تَعتبر هذه المنطقةَ المضطربةَ وما تنطوي عليها من تناقضات جزءاً أساسياً من مكونات مصالحها القومية .
في بعض الأحيان بدَتِ الولاياتُ المتحدة تدير بعض الأزمات بعقلية المشرف عن بعد دون التورط في دهاليز أي أزمة، وأحياناً تقفز واشنطن إلى مركب المنطقة المضطربة فتمسك بلجام مِقْوَدها وتُحركه وتحدد له الاتجاه الواجب سلوكه خدمة لمصالحها . مع مرور الوقت وتفاعل المواقف وتصاعد التهديد اتضح أن إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب كانت تعي أن التوسع التركي يترافق مع انزلاقاتٍ حادة لأردوغان في أكثر من ساحة مواجهة، إضافة إلى استمرار حالة الضعف داخلياً، وكلما توسعَ في تمدده عبر ساحات الصراع كلما كان أمرُ السيطرة عليه أكثرَ قابلية وقدرة على لجم جموحه .
أُولى الرسائل الأميركية عبر المتوسط باتجاه تركيا – أردوغان جاءت من الكونغرس الأميركي الذي صوت مؤخراً لصالح رفع الحظر المفروض على السلاح لقبرص، ليتبعها موقفٌ أميركي لافتٌ ارتأى وزيرُ الخارجية الأميركي مايك بومبيو أن يطلقه من العاصمة اليونانية أثينا بكل ما لذلك من معانٍ ودلالات سياسية وجغرافية وإستراتيجية لخّصه بقوله إن الطرفين الأميركي واليوناني واثقان تماماً من أنهما يستطيعان سوياً العمل على ضمان أن تكون “أثينا ركيزة الاستقرار في المنطقة”، رسالةٌ في أكثر المنعطفات السياسية حدةً وتوتراً بين اليونان وتركيا تفصح عن إستراتيجية أميركية واضحة المعالم والتوجهات والركائز في شرق المتوسط تحديداً، وتلقي بثقلها وراء اليونان في صراعه ونزاعه مع تركيا – أردوغان بعد أن أثار الجانبُ التركي مناخاً من التوتر والتصعيد ضد محيطه الإقليمي برمته .
تُطلُّ واشنطن على المشهد المتوسطي بعد أن بلغ درجةً متقدمة من التوتر والتصعيد؛ تَفرز أوراقَها، وتصنف أولوياتِها، ولكي تحققَ أهدافَها وتحمي مصالحها وتصونَ علاقاتها الإستراتيجية ؛ لابد لها من فرد أوراقها على الطاولة علناً كما فعلت عبر الكونغرس وبومبيو . يبدو أن الأمرَ لم يعد يحتمل التأجيل والإرجاء ؛ فالعلاقات التركية الأميركية مثقلةٌ بالتناقضات والتضاد منذ أن انخرط أردوغان في سياسته المناهضة لمصالح الأميركيين سواء في ملفات المنطقة وتهديد مصالح واشنطن فيها، أو في سلوك طريق معادٍ لمبادئ حلف شمال الأطلسي ومصالح دوله وهو عضو فيه، حيث نسج علاقات عميقة مع موسكو، عسكرية كصفقة صواريخ اس 400، واقتصادية كمشروع الغاز المشترك، وراح يلوّح بها كأوراق ابتزاز للأوروبيين والأمريكيين .
يعكس تراجعُ الضجيج وخفوتُ الصخب التركي الأردوغاني في الآونة الأخيرة فهماً دقيقاً وخشية لما تنطوي عليه المواقف الأميركية المعلنة من رسائل صريحة وأخرى مبطنة لجهة الوقوف إلى جانب اليونان ودلالاتها الإستراتيجية على أكثر من صعيد ؛ منها جديةُ التوجه الأميركي لإنهاء احتكار أنقرة لقاعدة انجرليك على أراضيها ونقلها إلى جزيرة كريت اليونانية بحيث تسلبُ من أردوغان أكثرَ أوراقه تأثيراً على دول حلف شمال الأطلسي وأوروبا عموما، ومنها تركُ أردوغان يصارع واقعاً داخلياً مأزوماً، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، في ظل تراجع اقتصادي غير مسبوق تشهده البلاد، وكذلك تركُه يخوض صراعات عسكرية في عدد من الساحات الخارجية دون السماح له بحسم أيّ منها بشكل نهائي لمصلحته ؛ أي تحويل بعض الساحات أو جميعها إلى مناطق استنزاف له عسكريا وسياسيا واقتصاديا .
المعادلة القديمة التي حكمت علاقات أنقرة بواشنطن لم تعد قابلةً للاستمرار بحكم الانزياحات الكبيرة جيو سياسيا التي تشهدها المنطقة تحديداً والعلاقات والمصالح الدولية بشكل عام، وهذا يتضح من الحساسية الكبرى التي برزت شرق المتوسط على خلفية التنافس والصراع على مخزونه من الطاقة الذي شرع الأبوابَ على خيارات واحتمالات متعددة دبلوماسية وسياسية وحتى عسكرية، وبمقتضى الضرورة التي تحكم الخطوات السياسية فلابد من حدوث أو إحداث تغييرات وتبدلات في طبيعة علاقات الدول بينها والانتقال أحيانا من خندق إلى آخر تبعا لما تفرضه المصالحُ الحيوية لهذه الدولة أو تلك، إنها لحظة تاريخية تلك التي تتبدل فيها التحالفات إلى نقيضها أو العكس، وهو مبدأ قائم على مر الدهور وتعاقب الأزمان والدول، فالمصالح الحيوية بالنتيجة هي التي تتحكم في إدارة العلاقات وليس الأيديولوجيات التي يحاول أردوغان تسويغَ جميع سياساته باسمها وبهَدْيها .
رسائلُ المتوسط الأميركية باتجاه أردوغان لم تعد سرية أو غامضة . لغةُ التهديد والتصعيد التركية لم تعد صالحة للملمة شظاياه التي أصابت حلفاءه قبل خصومه وأعدائه ؛ بات عليه الاستعدادُ لقبول معادلة توازن المصالح مع الجميع، ووأد نزعته التوسعية، واحترام سيادة الدول وحقوقها . واشنطن حددت خياراتها وأولويات مصالحها في المنطقة، وعلى أردوغان أن يعيد حساباته ويضبط خطواته بما يتناسب مع الواقع الجديد الذي يتشكل.
المصدر: صحيفة العين الإخبارية
سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
تابعوا أحدث أخبارنا وخدماتنا عبر حسابنا بتويتر