سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
ثمة جدليات دولية حول الموقف التصارعي للدول والتكتلات الكبرى للهيمنة في إفريقيا، فبعد حصول الدول الإفريقية على استقلالها، وتحقيق “المملكة السياسية” – على حد تعبير (كوامينكروما) – اتخذ التكالب الدولي على موارد القارة الطبيعية، شكلاً آخر يتفق مع طبيعة النظام الدولي السائد. ففي إطار سياسات الحرب الباردة، والمواجهة الإيديولوجية بين المعسكرين الرأسمالي والاشتراكي، كانت القارة الإفريقية هي الضحية.
وبعد أن وضعت الحرب الباردة أوزارها، أخذت السياسات الدولية منحنى جديدًا تمثل في العولمة الجديدة، وسياسات “الأمركة”، وتكالبت القوى الكبرى مرة أخرى على مناطق الثروة والنفوذ في القارة الإفريقية، خاصة بعدما وقعت أحداث 11 سبتمبر في الولايات المتحدة، ومن ثَمَّ فقد شكلت إفريقيا أهمية محورية في التفكير الاستراتيجي الأميركي الجديد، وهو ما نحاول استيضاحه بإبراز سياسات التنافس الأميركي الأوروبي ومآلاتها على الداخل الإفريقي.
أسباب التنافس الدولي على إفريقيا
انطلاقًا من النمط الاستعماري الكلاسيكي والتطويع بنظم الإمبريالية الحديثة للقوى الدولية بعد إفراغها من الشرق الأوسط، وإعادة بوصلتها باتجاه القارة الإفريقية، لعل ذلك يكمن فيما تحتويه من ثروات هائلة تستقطب الدول الكبرى الباحثة عن خزانات طاقية وطبيعية جديدة، بالإضافة إلى أسواق تسويق منتجاتها وخدماتها، حيث تكمن مجالات التنافس الدولي بالقارة في:
1. التنافس في المجال الطاقي والمعدني:
تتميّز إفريقيا بضخامة الطاقة الكهرومائية الكامنة فيها، حيث تبلغ 1750 تيرا واط/ساعة، ورغم إمكانية ضمان أمنها الطاقي من خلال توليد الطاقة الكهرومائية، فإنها لا تستغل من هذه القدرة الهائلة الكامنة سوى نسبة 5%، رغم أنها تمثل 12% من إمكانات الطاقة الكهرومائية العالمية.
أمَّا بالنسبة للطّاقة الشمسية؛ فتتوفر الظروف الملائمة لإنتاج الكهرباء من هذه الطّاقة في العديد من البلدان الإفريقية، نظرًا لسطوع الشمس هناك بقوة، بل إن منظمة غرينبيس (Greenpeace) لحماية البيئة، أفادت بأن إنشاء محطات لتوليد الكهرباء من الطاقة الشمسية في2% من مساحة الصحراء، يكفي لتغطية الحاجة العالمية من الكهرباء.
وفيما يتعلّق بالطاقات الكلاسيكية من نفطٍ وغاز، تُعد القارة السمراء آخر مناطق العالم التي يوجد بها احتياطي هائل من كلتا المادتين، ويقدر الخبراء حجم النفط الإفريقي بين 7 و9% من إجمالي الاحتياطي العالمي، ما يوازي ما بين 80 و100 مليار برميل خام.
وفي السياق ذاته، تتميز القارة الإفريقية بتوفّرها على كميات كبيرة من مادة اليورانيوم الأساسية في الصناعات النووية، حيث تنتج القارة أكثر من 18% من إجمالي الإنتاج العالمي لليورانيوم، وتشير الدّراسات إلى امتلاكها ثلث الاحتياطي العالمي من هذه المادّة المهمة.
2. التنافس في المجال الزراعي والمائي:
يُعدّ الاستثمار في المجال الزراعي، أحد أفضل الخيارات التي تقدمها إفريقيا للمستثمرين من القوى الدولية؛ للإسهام في تحقيق النمو الاقتصادي والأمن الغذائي في إفريقيا والعالم. وتتميّز إفريقيا بمواردها المائية الهائلة، حيث تحتوي على 13 نهرًا، بالإضافة إلى ارتفاع معدلات هطول الأمطار، خاصة في المناطق الاستوائية وضخامة مخزونها من المياه الجوفية، وتُقدر الطّاقة الكامنة للرّي فيها بأكثر من 42.5 مليون هكتار.
3. التنافس في مجال رأس المال البشري:
إذ يبلغ عدد سكان القارة قرابة 934 مليون نسمة، مما يجعلها سوقًا استهلاكية ضخمة خاصة في ظل تأخر أغلب دولها عن تحقيق معدلات الرّفاه البشري في حدوده الدنيا. كما أن ضعف دخل الفرد، في أغلب هذه الدّول، قد يكون دافعًا لتركيز بعض صناعات وأنشطة الشركات العابرة للقارات فيها بهدف التقليص في كلفة الإنتاج. وللاستفادة من رأس المال البشري، سيكون لزامًا على هذه الشركات، ومن ورائها دولها، أو الدّول العظمى التي تتحكم فيها هذه الشركات، أن تستثمر في مجال التنمية البشرية الذي لا يزال محدودًا برغم اهتمام بعض الجهات المستثمرة بالتنمية الحضارية للمجتمع، والبيئة والصحة، وزيادة معرفة الفرد، والارتقاء بدرجة وعيه وقدراته عن طريق التعليم والتدريب.
4. التنافس في مجالات البنية التحتية:
لقد ساهمت الحروب الأهلية في تأخر بناء دول أغلب الدول الإفريقية لتجد نفسها، حتى أيامنا هذه، مفتقرة لأبسط مقومات الحضارة، وخاصة في مجال البنية التحتية بتجلياتها المختلفة.
وهذا التأخر جعل من إفريقيا ساحة كبيرة لبناء السدود والمطارات والسكك الحديدية والمستشفيات والجامعات والمناجم، أي مئات المشاريع العملاقة التي لا تقدر عليها إلا الشركات الكبرى مقابل شراكات استغلال قد تصل إلى عقود من الزمن. الشركات الأجنبية تنفذ هذه المشاريع وتتحمل كلفتها كليًا – أحيانًا – مقابل الاستفادة من هذه المشاريع بطريقة يتم التفاوض حولها قبل الانطلاق فيها.
دلالات الصراع للقوى الكبرى في إفريقيا
مع انتهاء الحرب الباردة، ساد منطق التنافس الدولي على القارة الإفريقية مرة أخرى بين الأقطاب الرئيسة للنظام الدولي: “الولايات المتحدة، وأوروبا، واليابان، والصين”، وكذلك الإقليمية والمتمثلة في: “تركيا وإيران وإسرائيل”؛ بهدف استغلال ثروات القارة ومواردها الطبيعية. وإذا كانت الدراسات النظرية تشير إلى حقيقة التنافس بين الولايات المتحدة وبعض القوى الأوروبية، لا سيما فرنسا، على اكتساب مناطق النفوذ، والسيطرة في إفريقيا، فإن واقع الأمر يشير إلى حدوث نوع من التفاهم بين هذه القوى، كما يتضح من التعاون الفرنسي الأميركي في مجال محاربة الإرهاب في إفريقيا على سبيل المثال، ويمكن توضيح دلالات ذلك الصراع من خلال:
1- التنافس الأميركي الفرنسي: فعلى الرغم من التعاون الحالي في مجال مواجهة الإرهاب، فإنه في حقيقة الأمر هناك تنافس أميركي– فرنسي في إفريقيا، يمكن ترجمته إلى صراع “الفرانكفونية والأنجلوفونية”، بالإضافة إلى المصالح الاقتصادية والنفطية.
في عام 1992، توجه الرئيس الكونغولي، باسكال ليسويا، لشركة النفط الفرنسية “ألف”، وطلب مساعدتها في سدّ العجز الذي شهدته موازنة بلاده في تلك السّنة، وعندما قوبل طلبه بالرّفض، توجّه لشركة “أوكسيدنتال بتروليوم”، التي عرضت عليه 150 مليون دولار مقابل التنازل عن بعض الحقول النفطية الواعدة؛ وهو ما تسبب في “حرب باردة” بين فرنسا وأميركا انتهت بإزاحة الشركة الأميركية، ومحافظة الفرنسيين على الامتيازات النفطية في الكونغو.
وبالمقابل، تكرر ذات السيناريو في أكثر من مناسبة وفي أكثر من دولة إفريقية، في الجابون سنة 1990، والتشاد عام 1992، وأنجولا عام 1993، إذ كاد الفرنسيون يُضيعون امتيازاتهم النّفطية، واحتاج الموضوع نزولاً ثقيلاً للدّولة الفرنسية لتثبيت أوضاع شركاتها فيها.
وتطور النزاع الأميركي الفرنسي ليصبح صراع “الوكلاء”، وذلك على خلفية النزاع ما بين الكاميرون ونيجيريا سنة 1994، وصراعهما حول جزيرة باكاشي، فقد وقفت فرنسا إلى جانب ياوندي في مُواجهة أبوجا الأنجلوسكسونية في صراع واقع ضمن دائرة النّفوذ الفرنسي في إفريقيا. وقياسًا على ذلك، فإن العديد من الصراعات الداخلية بإفريقيا، حدودية أو سياسية.
2- التنافس الصيني: توجهت الصين إلى إفريقيا بسياسة خارجية مغايرة للنمط الأميركي – الفرنسي، قائمة على عدم التدخل في الشؤون الداخلية وعدم ربط الاستثمارات بالشروط المسبقة، وعدم بث أي نسق أيديولوجي أو فكري أو ثقافي يعمل على صهر الهوية الإفريقية مثلما هو الحال مع الأمركة والفرنسة، لتُصبح الصين أحد أهم الحُلفاء المُفضّلين للأنظمة الإفريقية، واستخدمت الورقة الاقتصادية والتجارية لدعم تلك السياسات.
3- التنافس الإسرائيلي: تجد إسرائيل في الدّول الإفريقية فرصة للتأييد والدّعم لها في المحافل الدّولية، مثل الأمم المتحدة ومجلس الأمن، خاصة فيما يتعلق بصراعها مع الفلسطينيين، وانتهجت سياسات دبلوماسية واقتصادية لضمان الانخراط مع الداخل الإفريقي. ولعل زيادة عدد الملحقيات التجارية الإسرائيلية في إفريقيا، تؤسس إلى ترسيخ التحركات الإسرائيلية للتنافس والهيمنة في إفريقيا.
4- التنافس التركي: تعد تركيا أحد اللاعبين الرئيسيين في السعي نحو الهيمنة في إفريقيا، ويقود هذا الجهد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، حيث زار الصومال التي مزقتها الحرب ثلاث مرات، وأدت تلك الزيارات إلى حصول الشركات التركية على عقود كبرى، وتوطدت العلاقات بين المسؤولين والسياسيين في تركيا والصومال. كذلك التحركات التركية الأخيرة في السودان بهدف تعزيز مكانة أنقرة في البحر الأحمر ببسط الهيمنة على جزيرة سواكن وإضفاء الشرعية على الوجود التركي في الشرق الإفريقي.
5- التنافس الإيراني: انتهجت إيران مجموعة من السياسات الرخوة، التي ساعدت على التوغل في إفريقيا، من بينها تقديم مساعدات تنموية في مجالات التكنولوجيا، ومجالات الطاقة والتنقيب عن البترول والاستكشافات البترولية، وصيانة معامل تكرير النفط، والصناعات البتروكيماوية والغاز، وتنمية القطاعات الزراعية والصحية وإنشاء السدود، بالإضافة إلى تصدير النفط لبلدان القارة الإفريقية بأسعار رخيصة مقارنة بالسوق العالمي.
وأسهمت تلك السياسات في نمو التبادل التجاري بين إيران والدول الإفريقية، حيث أعلن مدير عام الشؤون العربية والإفريقية في غرفة التجارة والصناعة والمناجم والزراعة الإيرانية، شهرام خاصي بور، خلال اجتماع تجاري مشترك بين إفريقيا وإيران تمَّ تنظيمه في طهران، أن إيران وجنوب إفريقيا ترسمان آفاق التبادل التجاري لبلوغه نحو ملياري دولار في عام 2021.
تداعيات التنافس الدولي على العلاقات العربية الإفريقية
تنعكس سياسات التنافس وتحركات الهيمنة للدول الكبرى بالداخل الإفريقي على تراجع تطوير العلاقات العربية الإفريقية؛ وذلك وفقًا لعدد من المؤشرات، منها:
1- تتركز هذه الدول في مناطق إقليمية معينة، وتدعم قادة موالين لها، فالسلوك الأنجلو – أميركي يدعم الأقليات الحاكمة في كل من رواندا وبوروندي وأوغندا، ويحرص على خلق مناطق نفوذ في منطقة القرن الإفريقي الكبير يعرض المصالح العربية للخطر، وهو ما قد يستخدم كورقة ضغط في ملف المياه في مواجهة كل من مصر والسودان.
2- الوجود الأميركي يرتبط دومًا بالوجود الإسرائيلي، حيث تسعى بخططها المتعلقة بالبحيرات العظمى، ومنابع النيل عمومًا، إلى فتح ثغرة في خطوط الأمن القومي والمائي العربيين، فضلاً عن حماية المصالح الأميركية بإفريقيا.
3- تعمل هذه القوى الدولية على اختلاف أجنداتها على إثارة قضايا الفرقة والنزاع بين العرب والأفارقة، ويتضح ذلك جليًا في الموقف الأميركي والأوروبي من قضية الإسلام السياسي التي يتم وصفها بالإرهاب، وهو ما شرعن التحرك الأميركي لقصف “مصنع الشفاء للأدوية” بالخرطوم في إطار “مكافحة الإرهاب”، وعزل الدولة الراعية له.
تأسيسًا على ما سبق، في ظل تنامي ظاهرة “تكالب القوى الكبرى” للهيمنة على الداخل الإفريقي وفقًا لورقتي “الأمن والاقتصاد”، فإنه – بالمقابل – يجب على صُناع القرار الأفارقة الحذر من هذا التوجه الدولي الجديد، خاصة لما له من تداعيات مستقبلية جراءَ فتح الدول الإفريقية لقطاعها المالي للاستثمارات الأجنبية بدون دراسة، وهو ما من شأنه أن يسبب إشكالات اقتصادية كبيرة، مثل انهيار الاقتصاد أو انكماشه في حال الانسحاب المفاجئ لرؤوس الأموال، أو التركيز على الاستثمارات قصيرة المدى، والتضخم النقدي، والتهديدات الأمنية فيما يُتوقع من صدامات بين الدول المتنافسة.
لذا، فعلى الدول الإفريقية تعظيم استفادتها من سياسات “التنافس الدولي”، وربط الاستثمارات الدولية بخطط تنموية محلية، وفقًا لمخطط التنمية المستدامة وأجندة الاتحاد الإفريقي 2063، بالإضافة إلى أنه يتعين عليها فرض جزء من هذه الاستثمارات في مجال تنمية رأس المال البشري؛ ليصبح قادرًا على المُساهمة في عمليّة التنمية المُستدامة مستقبلاً دون الحاجة للشريك الأجنبي.
وحدة الدراسات السياسية*
المراجع
1 – د. نيفين حليم: التنافس الدولي لكسب النفوذ في إفريقيا، صلاح سالم زرنوقة (مشرف): العرب وإفريقيا فيما بعد الحرب الباردة، جامعة القاهرة، مركز دراسات وبحوث الدول النامية، قضايا التنمية، عدد 18، 2000م.
2 – إفريقيا قادرة على توفير الطاقة الكهربائية للعالم، علوم ، مارس 2017.
3 – حمدي عبدالرحمن حسن، سياسات التنافس الدولي فى إفريقيا، قراءات إفريقية، فبراير 2013.
4 – الاستعمار الفرنسي في إفريقيا .. اضمحلال الدور وأفول الفرانكوفونية، سبتمبر .2010
سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
تابعوا أحدث أخبارنا وخدماتنا عبر حسابنا بتويتر