سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
برانكو ميلانوفيتش
ي سنة 2010 غرقت اليونان في أزمة ديون أساسية، فقد تعرضت لضربة قاسية جراءالانهيار العالمي للأسواق المالية، وشهدت هبوط أسهم حكومتها لتبلغ أدنى المستويات.
وأمام احتمال التخلف عن سداد الدين اضطرت البلاد لتلقي مساعدة المنظمات الدولية: صندوق النقد الدولي (IMF)، والمفوضية الأوروبية، والبنك المركزي الأوروبي. وقامت هذه المنظمات في الأعوام 2010 و2012 و2015 بمنح اليونان ثلاثة قروض ضخمة، ولكن التدخلات الإنقاذية تلك فرضت شروطاً متشددة، وألزمت البلاد بإصلاحات اقتصادية وسياسية داخلية، كما فرضت تدابير تقشف دفعت باليونان، التي كانت مترنحة إلى مزيد من الاضطراب. وأذعنت الحكومات اليونانية المتعاقبة لشروط التدخلات الإنقاذية المذكورة، بيد أنها راحت فيما بعد تحاول استعادة السيطرة على السياسات الاقتصادية للبلاد بضغط من قوى اليمين واليسار على حد سواء.
وتشير محنة اليونان مع صندوق النقد الدولي، وغيره من الهيئات الدولية المانحة، إلى أن السيادة الوطنية في العالم الحديث مشروطة وغير مطلقة. فالدول – الأمم، المستقلة وذات السيادة، يفترض أن تمثل وحدات مكونة للنظام الدولي. ووجود المنظمات والهيئات الدولية المترتبة على اتفاقات “بريتون وودز” (Bretton Woods) – صندوق النقد الدولي والبنك الدولي – والأمم المتحدة، يحافظ على العلاقات السياسية والاقتصادية المستقرة بين الدول المستقلة، ويتلافى قيام بعضها بتجاوز المعايير في علاقته مع الآخرين، بيد أن الانتساب لهذه المنظمات يؤدي باستمرار إلى تقييد حرية الدول الأعضاء، خصوصاً الدول الأكثر ضعفاً. فالنظام الدولي الذي يزعم استناده إلى سيادة الدول غالباً ما يجبر بعض الدول على النظر في جزئية سيادتها الفعلية.
في كتابه “المتدخلون” (The Meddlers) يتتبع المؤرخ جايمي مارتن تطور النظام الاقتصادي العالمي الحديث خلال العقود التي سبقت قيام صندوق النقد الدولي والبنك الدولي. ففي سنة 1920، في أعقاب الحرب العالمية الأولى، تولت حكومات الدول المنتصرة إنشاء عصبة الأمم، الهيئة الدولية الهادفة لحل النزاعات السياسية سلمياً وتلافي الحروب في المستقبل. وسعت العصبة أيضاً لمساعدة الدول المأزومة بإسداء المشورة الاقتصادية لها، وتزويد المانحين ضمانات صريحة وضمنية تتعلق باستردادهم الديون التي منحوها للدول المدينة. وجاء دور عصبة الأمم ليضع أساس النظام الاقتصادي (الدولي) الراهن. ويرصد مارتن، في مقاربته النقدية، تاريخ العلاقة بين المنظمات الدولية وبين ما ينضوي تحت جناحها من دول مستقلة اسمياً. ويتوصل المؤرخ إلى أن النظام الاقتصادي الدولي يستقر على تفاوت عميق، فتفرض الدول القوية شروطها على الدول الأقل قوة، ويؤدي ذلك إلى انتهاك سيادة الدول الأضعف. وقد تكون عصبة الأمم، والهيئات المنبثقة منها لاحقاً، وعلى الأخص صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، قبلت رسمياً بمبدأ المساواة في السيادة بين الدول الأعضاء فيها، إلا أنها اعتادت عملياً على انتهاك تلك السيادة، ولكن هذه الحقيقة تبقى غير مفاجئة، إذ إنه، بحسب مارتن، من غير الواقعي أبداً أن نتوقع تمسك النظام الاقتصادي العالمي باحترام سيادة الدول. فهذا المطلب غير المعقول يعترض فهمنا لكيفية قيام الدول في العصر الحديث بالحفاظ على سيادتها وفقدانها لها، وللطريقة التي تعتمدها بعض الفئات في كثير من الدول، طوعاً في أغلب الأوقات على الرغم من عدم إعلان ذلك أحياناً، في مقايضة سيادة أوطانها بمكاسب اقتصادية. كذلك قد تقوم قوى خارجية كبيرة بابتلاع استقلال دول أخرى كلياً، على أن هذا الأمر أيضاً قد يحصل على يد قوى في داخل تلك الدول نفسها (الدول التي ابتلع استقلالها).
نمط تدخل أكثر دهاءً
وقبل القرن الـ19 لم تكن الدول مضطرة حقاً إلى التعامل مع مسائل تتعلق بموضوع السيادة. وكانت الدول تحارب بعضها بعضاً، وتنهب الثروات، وتقتني العبيد، وتفرض الاحتكارات، ولا تهتم كثيراً بالقواعد والقوانين – لأن الأخيرة كانت قليلة جداً. على أن المسائل المتعلقة بالسيادة غدت أكثر أهمية مع بزوغ الدولة – الأمة في القرن الـ19، وظل محصوراً في البداية بأوروبا وبمجتمعات المستوطنين الأوروبيين (مثل أستراليا والولايات المتحدة). أما المحميات الأوروبية بحكم القانون والواقع، مثل الصين ومصر وتونس والإمبراطورية العثمانية، فانتمت إلى الصنف الرمادي من الدول، الصنف الذي كان مستقلاً بالاسم وفي الحقيقة كان واقعاً تحت نفوذ وسطوة القوى الأوروبية. وحين كانت تلك المحميات تعجز عن سداد ديونها كان بوسع الدول الأوروبية إجبارها على السداد عن طريق وضع اليد على ثرواتها الوطنية، وحين تظهر المحميات المذكورة تمنعاً في مضمار التجارة كانت الدول الأوروبية قادرة على إجبارها على فتح مرافئها. وعلى هذا النحو قامت المملكة المتحدة بمهاجمة الصين خلال حربي الأفيون في القرن الـ19. وفي سنة 1861 نزل الجنود البريطانيون والفرنسيون والإسبان معاً في المكسيك لانتزاع مستحقات الديون من الجمهورية المكسيكية الناشئة آنذاك. وكذلك قامت ألمانيا وإيطاليا والمملكة المتحدة بفرض حصار بحري على فنزويلا، بين عامي 1902 و1903، بعد أن رفض رئيس البلاد في ذلك الوقت تسديد مستحقات ديونها الخارجية. فتلاقت سياسة البوارج الحربية مع نهج تحصيل الديون بقوة السلاح.
إلا إن العلاقات بين الدول تغيرت مع الحرب العالمية الأولى. ويفتتح كتاب “المتدخلون” (The Meddlers) باستعادة لقصة ذلك النزاع، حين عمل الحلفاء معاً ونسقوا مواقفهم بغية تأمين المواد الأولية الضرورية لمجهود الحرب، مثل القمح من الأرجنتين، والنيترات من تشيلي، والصفيح من ماليزيا. وتعاونوا أيضاً في عمليات شحن الأطعمة، كي يضمنوا عدم تعرض المدنيين في فرنسا وإيطاليا والمملكة المتحدة للمجاعة. وتطلبت تلك الخطط من كل طرف مشارك فيها أن يتنازل قليلاً عن سيادته الاقتصادية لصالح الجماعة. فنظمت عمليات جماعية لتقديم العطاءات من المواد الأولية والأطعمة المنتجة في بلدان أجنبية، وذلك للجم ارتفاع الأسعار. وأدى الأمر إلى تعقيد العلاقة بين الحكومات وبين القطاعات الخاصة في البلدان، وقاد إلى المحاولات الأولى لاعتماد اقتصاد تديره الدولة في ألمانيا، وفي أوساط دول الحلفاء.
وتوسع ذاك النمط من التعاون على نحو لافت مع تأسيس عصبة الأمم. وعند إنشائها تألفت العصبة من 42 دولة عضواً، بينها بلدان في أميركا اللاتينية وآسيا (أبرزها الصين واليابان)، وبعض البلدان الأفريقية. وخاضت عصبة الأمم في عدد من القضايا الشائكة التي واجهتها بلدان كثيرة في أعقاب الحرب. وانتدبت العصبة مستشارين اقتصاديين للعمل على ضبط الإنفاق الحكومي، وتثبيت التضخم المفرط الذي شهدته أجزاء من الإمبراطورية النمسوية – المجرية السابقة. وأمنت عصبة الأمم منبراً للتفاوض على المسائل المستعصية المتعلقة بتعويضات الحرب المترتبة على ألمانيا. وحاولت العصبة إنعاش النمو الاقتصادي في جنوب أوروبا عبر منح قروض صغيرة للاجئين المتحدرين من أصول يونانية، والنازحين من تركيا إلى اليونان، في إحدى وقائع تبادل السكان الشائعة إثر الحرب العالمية الأولى، وجاءت السلطة المتعددة الأطراف لعصبة الأمم لتتجاوز كثيراً نطاق المعاهدات الاقتصادية السابقة التي ضمت، في العادة، بلدين أو عدداً قليلاً من البلدان. وانخرطت الدول الأعضاء في عصبة الأمم في منظمة دولية طوعية يمكنها، في وقت معين، تحجيم السيادة الاقتصادية لدولة أو لعدد أكبر من الدول، إن لم تقم هذه الأخيرة بخدمة ديونها، أو حين تفشل في إدارة اقتصاداتها.
ويرى مارتن في هذا الإطار أن عصبة الأمم انتهت إلى سن تلك القواعد والتدابير التي باتت اليوم تعتمد تلقائياً، وتكرس بسياسات صندوق النقد الدولي (MIF) والبنك الدولي (كلاهما تأسسا سنة 1944). وقبلت دول كثيرة من الأعضاء في عصبة الأمم بالرقابة السنوية الدورية التي يجريها صندوق النقد، وذلك عبر ما يسمى “الفقرة الرابعة” من أصول الاستشارات (التي يقدمها الـMIF)، وفي حال استدانت الدول من صندوق النقد الدولي تقوم الهيئة الدولية بوضع عدد من الشروط على الدول الدائنة، فتطبق على اقتصاداتها المحلية وعلى سياساتها الاجتماعية، وتحد من سيادتها، كما بدأت العصبة باعتماد نمط مختلف للتدخل الخارجي في الشؤون الداخلية للدول، وهو نمط أكثر دهاءً مما كان سائداً في الماضي، ويصفه مارتن بأنه “التدخل غير المرغوب الذي طالما باشرته الإمبراطوريات على البلدان ذات السيادة المنقوصة”.
عصبة لدول معينة
ومقابل الدعم الذي قد تلقاه دولة ما من عصبة الأمم حين حصولها على قروض، توجب عليها القبول بالرقابة التي تفرضها العصبة على شؤونها الاقتصادية. ويروي مارتن كيف طبقت هذه المقايضات في حالتي ألبانيا والنمسا بين العامين 1922 و1924، واليونان في سنة 1925، والصين في الثلاثينيات، والتدخلات الأخيرة عابرة وغير مجدية. وفي حالي ألبانيا والنمسا، قامت عصبة الأمم بتزويدهما بمستشارين أجانب ضبطوا السياسات المالية في كلا البلدين ضماناً للدائنين الأجانب وتطميناً لهم بأن الأموال التي يقدمونها لا تذهب سدى ولا تبدد. وفي حال اليونان، قدمت عصبة الأمم للاجئين (إثر الحرب العالمية الأولى) قروضاً للإسكان والأعمال، كما أرسلت العصبة جان مونيه، الدبلوماسي الفرنسي (الذي سيسهم فيما بعد في تأسيس “الجمعية الاقتصادية الأوروبية للفحم والفولاذ) إلى الصين ليقدم المشورة لـ”المجلس الاقتصادي الوطني”، الهيئة التي أسست سنة 1931 للمساعدة في تسريع الإصلاح الاقتصادي الوطني. إلا أن مهمة مونيه تلك لم تحقق شيئاً يذكر في خضم المشكلات الأخرى التي كانت تعانيها الصين، ومن بينها النزاع الأهلي، وتنافس أسياد الحرب، والتدخل الياباني.
أما التجربة الأولى التي دعت عصبة الأمم إلى فرض سياسات التقشف (بالتالي إلى تحجيم سيادة دول أعضاء فيها)، فقد حصلت تجاه دول أوروبية، وذاك يشير إلى أن الأخيرة في هذا المجال لم تكن أفضل من دول آسيا وأفريقيا، إذ إن الشعوب في الدول المسيحية الأوروبية تصورت نفسها في قمة الهرم الدولي، وجاز لها وفق هذا التصور، المغامرة وتحجيم سيادة الشعوب في مناطق أخرى من العالم. إلا أن هذه الشعوب الأوروبية، في الحقيقة، عانت الأمرين قبل القبول بتحجيم سيادتها حين تطلب الأمر ذلك. ولم يسع عمل عصبة الأمم إلا أن يأتي تثقله إيحاءات استعمارية، إذ إن ي. خ. موين، المسؤول الاستعماري الهولندي الذي تولى مهام استعمارية على مدى حقبة طويلة، ارتأى في هذا الإطار أن خبرته في قمع الانتفاضات، في جنوب سومطرة، تؤهله دون غيره، لمنصب الإشراف على أنشطة عصبة الأمم في ألبانيا. وفي الطلب الذي رفعه لتولي ذلك المنصب أجرى موين، وفق ما يروي مارتن في كتابه، مقارنة بين تجربته السابقة (في سومطرة) وبين العمل في ألبانيا، ذاكراً في السياق أن الشعب في جنوب سومطرة كان “مستقلاً ومولعاً بالحرية”، تماماً مثل “سكان ألبانيا الجبليين”. وموين لم يحصل على تلك الوظيفة التي طمح إليها – فهي ذهبت لشخص آخر من مسؤولي شركة الهند الشرقية الهولندية – لكن أحد البيروقراطيين العاملين في عصبة الأمم وافق على طرحه تجاه الوضع القائم، فأشار إلى أن ألبانيا كانت بلداً يمكن أن “يغرس فيه مقدار معين من الحكمة المالية عبر اللجوء إلى قوة السلاح (حرفياً: إلى سطوة المسدس)”.
إلا أن أكثر سمات هذا النظام (الدولي) جوهرية لم تتضح ربما إلا بعد فوات الأوان. فكانت عصبة الأمم مكونة رسمياً من دول أعضاء متكافئة، والحق أن القوى العظمى المنتصرة في الحرب – فرنسا وإيطاليا والمملكة المتحدة، والدولة الكبرى المتبخترة خلفها، الولايات المتحدة – لم تحسب أنها خاضعة لذات القواعد التي تخضع لها الدول الأعضاء الأضعف. وتضررت القوى الأوروبية المهزومة (في الحرب العالمية الأولى)، النمسا وألمانيا، بفعل هذا الأمر، فلم تمنح مقاعد إلى الطاولة الرئيسة لنادي الكبار. وكذلك حظيت اليابان بنفوذ أقل لأنها دولة آسيوية، هذا ووجدت الدول الأفريقية والمستعمرات نفسها في أسفل تلك الهرمية. ونظام التسلسل الهرمي هذا مستمر إلى يومنا. وتناول عدد لا يحصى من الكتاب قصة تخفيض قيمة الجنيه الاسترليني البريطاني الذي فرضه صندوق النقد الدولي (IMF) في عامي 1967 و1976. وحظيت تلك الواقعة باهتمام دارسين كثر، ومرد هذا أولاً إلى أن تدخل صندوق النقد الدولي في السياسات الاقتصادية لقوة غربية أساسية بقي أمراً يصعب تخيله حتى يومنا هذا. وعندما يفرض صندوق النقد الدولي تدابير وقيوداً مشابهة، أو أكثر تشدداً، على صناعة القرارات الاقتصادية في الأرجنتين أو نيجيريا اليوم، مثلاً، فقلما يثير الإجراء اهتماماً يتخطى التعليقات والتصريحات المتوقعة حول تبذير دول “جنوب العالم” للأموال، إلى مخاوف معتادة يعبر عنها في العواصم الغربية وتتعلق بتسديد المدينين دينهم.
ويكشف مارتن في كتابه أن البلد الذي كان منذ ذلك الوقت، كما اليوم، الأكثر تمنعاً من التنازل عن تفصيل واحد من تفاصيل سيادته الاقتصادية، هو الولايات المتحدة الأميركية. وعلى الرغم من الجهود الدولية التي بذلها الرئيس وودرو ويلسن لم تنضم الولايات المتحدة إلى عصبة الأمم. ولم تكن مستعدة لتحمل كلف العمل الدولي المتعدد الأطراف، كما لم تكن مستعدة لكبح سلطة شركاتها الخاصة، والمخاطرة باستدراجها لحروب مستقبلية. والأهم انها لم تكن مستعدة لمشاركة سيادتها. وشعر البريطانيون والفرنسيون، على نحو أكثر إلحاحاً، بضرورة التعاون الدولي، ربما لأن بريطانيا وفرنسا كانتا أقل قوة من الولايات المتحدة الناهضة آنذاك.
ينهض النظام الاقتصادي العالمي على ظاهرة تفاوت ولا مساواة عميقة وعلى انتهاك سيادة الضعفاء
الموقع الأميركي هذا تبدل طبعاً بعد الحرب العالمية الثانية. والسبب يعود، جزئياً، إلى أنه صار بوسع الولايات المتحدة السيطرة تماماً على قواعد اللعبة. وهي لم تكن قوية بما فيه الكفاية لتمارس تلك السيطرة بعد الحرب العالمية الأولى. ويناقش القسم الأخير من “المتدخلون” المفاوضات الجنائية التي عقدت في “بريتون وودز” و”دومبارتون أوكس”، في عامي 1944 و1945، بين من سيغدون قريباً الحلفاء المنتصرين. وقادت المفاوضات المذكورة إلى تأسيس صندوق النقد الدولي (IMF) والبنك الدولي، ومجمل النظام الاقتصادي العالمي في مرحلة ما بعد الحرب (العالمية الثانية). ويرصد مارتن في هذا القسم من الكتاب الفوارق بين اللاعبين الأساسيين في النظام العالمي: الولايات المتحدة، على النحو الذي جسده مسؤول وزارة الخزانة (المالية) هاري ديكستر وايت، من جهة، والمملكة المتحدة، ممثلة بالاقتصادي جون ماينارد كينز، من الجهة المقابلة. وكانت نقطة الخلاف الأساسية بين الطرفين الطريقة التي تحصل الدول من خلالها على تمويل صندوق النقد الدولي، ذاك التمويل الذي تؤمنه، أولاً، الولايات المتحدة الأميركية. وأصرت واشنطن على أن القروض التي تتخطى مقداراً محدداً ينبغي أن تقيد بشروط متشددة جداً تفرض على السياسات الداخلية للبلد الذي يتلقاها. ومن جهتها رأت بريطانيا، التي كانت تعرف أنها ستستدين قريباً، أن على الدول الأعضاء في صندوق النقد الدولي التعامل مع دين الصندوق كحق من حقوقها، وليس كامتياز، ولكن في النهاية، وعلى نحو غير مفاجئ نظراً إلى اختلال ميزان القوى، فازت الرؤية الأميركية في تلك المفاوضات.
والمسألة بالطبع أشبعت درساً، بيد أن مارتن، وببضع جمل محيرة في كتابه، يسائل رؤية الاقتصادي البارز والمؤثر داني رودريك، من دون أن يسميه، عن “العصر الذهبي” للتعاون الاقتصادي الدولي، والعولمة المحدودة بين عامي 1945 و1971، وهو العصر الذي طبق خلاله نظام “بريتون وودز” من غير احتكاكات كثيرة بين الدول التي تمتعت باستقلال كبير. ورؤية مارتن الأساسية تقرر أن النظام الدولي لم يعامل مختلف الدول معاملة متساوية. وهي تقوض أطروحة رودريك الآنفة الذكر. ويكتب مارتن: “تحديات الحوكمة العالمية. أكثر جدية مما تشير إليه التواريخ المنمقة التي جاءت بها الليبرالية المتأصلة وصيغتها الكارثية، النيوليبرالية. ولم يكن هناك مدة مستقرة يتحدث فيها عن استقلالية منتصف القرن العشرين” (أي الاستقلالية السياسية والاقتصادية السائدة بين الدول آنذاك). كذلك “لم يكن هناك عصر ذهبي للمساواة في الاستقلالية والسيادة الوطنية بعد سنة 1945”. ومن غير أن يمضي قدماً في تطوير رؤيته، وبلورتها بلورة تامة، يبدو مارتن معارضاً للرأي القائل إن الحقبة النيوليبرالية، التي آذنت ببدئها شخصيات مثل رئيسة الوزراء البريطانية مارغريت تاتشر والرئيس الأميركي رونالد ريغان، افترقت افتراقاً حقيقياً عما يسمى العصر الذهبي الذي سبقها. فالهرمية، في نظر مارتن، كانت موجودة على الدوام في العلاقات الاقتصادية الدولية. والفكرة التي ترى أن العلاقات بين الاقتصادات القوية والاقتصادات الأقل قوة، خلال العقود التالية للحرب العالمية الثانية لم تتشكل عبر التفاوت واللامساواة والتباينات في القوة، مجرد وهم، وواجهة أيديولوجية فرضت ضرورتها الحرب الباردة، هذه الحرب التي احتاج المعسكر الغربي إلى تقديم نفسه خلالها فريقاً واحداً من متساوين والأنداد.
وهم السيادة
يؤكد مارتن أن التكافؤ المفترض (في السيادة بين الدول) كان دائماً خيالياً. فما من محطة في تاريخ النظام الدولي سمح فيها للدول والبلدان الأعضاء بالحفاظ على سيادتها تامة وناجزة، إذ إن البلدان، كما هي، نادراً ما تكون محكمة الإغلاق. وحتى لو فكر المرء من النواحي الاقتصادية الصرف فإن الحدود بين القضايا الداخلية وبين الخارجية تبقى حدوداً قابلة تماماً للنفاذ من عالم متداخل والعلاقات وسياسات مكافحة التضخم التي اقترحها بول فولكير، رئيس الاحتياطي الفيدرالي الأميركي في الثمانينيات، مثلاً، لا يمكن فهمها باعتبارها مسألة داخلية فقط، إذ كان لارتفاع أسعار الفائدة في الولايات المتحدة ارتدادات هائلة على دول مدينة (مقترضة) عديدة، مثل البرازيل والمكسيك وبولندا ورومانيا (وتدابير مكافحة التضخم التي يفرضها الاحتياطي الفيدرالي الأميركي اليوم سيكون لها على الأرجح عواقب وخيمة مماثلة على اقتصادات صاعدة كثيرة). واليوم تعتمد الصين مختلف أنواع الشروط، كشرط نقل التكنولوجيا، عند الدخول إلى أسواقها، وهذا يصعب تفسيره على أنه سياسة داخلية (محلية). ومظاهر العجز التجاري أو الفوائض التجارية المستمرة ليست مخاوف بلدان تعاني مباشرة منها فقط. فلو حققت الصين وألمانيا فوائض تجارية عالية، مثلاً، فإن دولاً أخرى ستعاني عجزاً تجارياً، ولن يكون بوسعها تقليل عجزها فعلياً إلا عبر خفض قيمة عملاتها الوطنية.
وفي أغلب الأحيان يستحيل التفريق أو التمييز على نحو مقنع بين المجالين الداخلي والدولي. وكما يرى مارتن، عبر نقد كيفية قيام الدول الأقوى باستخدام سلطتها (على الدول الأضعف)، يمكن وضع سجل تاريخي لما هو حتمي وواضح. وليس المطلوب من مؤسسة دولية كصندوق النقد الدولي، أن تحاول تحقيق المساواة بين أعضائها، فعلى هذه المؤسسة السعي إلى هدف أكثر واقعية يتمثل في تخفيف مظاهر اللامساواة إلى أقصى درجة ممكنة. وهي قادرة على فعل ذلك من خلال إيلائها اهتماماً أكبر بالمخاوف الاجتماعية في البلدان المقترضة، ومنحها مدداً أطول للتكيف. فمثلاً، يمكن للصندوق أن يطلب من المقترضين التخلص التدريجي من الإعانات على مدى عشر سنوات بدلاً من ثلاث، ويمكنه مقاومة الحافز على إضفاء الطابع المالي المفرط على الاقتصادات، وتشجيع توفير اعتمادات خاصة للمعاشات التقاعدية والتعليم. وهو الحافز الذي لا يساعد في الغالب إلا الأغنياء، ومردوده قليل على الفقراء والطبقة الوسطى. وعلى صندوق النقد الدولي أن لا يفرض عقوبات على الاستثمارات الحكومية في قطاعي الصحة والبنى التحتية.
البنية الأيديولوجية التي تفترض المساواة تامة ومتساوية، لا تؤدي إلا إلى صوغ الأقوياء سرديات أكثر حذاقة تبرر هيمنتهم. وإضافة إلى عدم المساواة، سيكون على الدول التعامل مع مظاهر النفاق السائدة، على نحو ما يحدث اليوم عندما تتبجح الدول الغنية، وتدعي الانتباه إلى التحول المناخي، وتبقى بين أكبر مصدري انبعاثات ثاني أكسيد الكربون من حيث نصيب الفرد: فانبعاثات الولايات المتحدة، من حيث نصيب الفرد، هي أكبر تسع مرات من انبعاثات الهند، وانبعاثات فنلندا هي أكبر عشر مرات من انبعاثات زيمبابوي.
وأشارت فصول الكتاب التي تناقش سياسات التقشف بعد الحرب العالمية الأولى في النمسا وقروض التنمية في اليونان إلى مشكلة أخرى لم يسلط الضوء عليها للأسف بإضاءة أكبر ولم يجر التوسع بها. فالرغبة بسيادة تعادل سيادة باقي الدول تؤطر كل دولة ضمنياً ككيان متجانس بمصالح مضمرة. ووفق هذا المنطق يجري تخيل عصبة الأمم وغيرها من المنظمات الدولية ككيانات خارجية قوية تضيق الخناق على استقلال وسيادة الدول الأضعف، بيد أن البلدان في الواقع ليست كيانات منسجمة. كل بلد من البلدان يضم الكثير من الفئات الطبقية والاجتماعية والسياسية، وبعضها يستخدم منظمات ومؤسسات دولية لفرض سياسات تمكنه من تحقيق مكاسب في العملية السياسية الداخلية (المحلية). الحكومة النمسوية في أعوام العشرينيات، وفق ما يلاحظ مارتن، قامت تماماً بهذا الأمر عندما سعت إلى المضي بالإصلاحات المالية والالتفاف والتحايل على المعارضة في البرلمان. عدد كبير من الحكومات الأخرى سلك هذا النهج أيضاً، فنحا باللوم على الأجانب (مسلماً سيادته الداخلية بطيب خاطر) كسبيل لتحقيق مزيد من المصالح الداخلية المحددة. وقد بررت تلك الحكومات الأمر بزعمها أن “الأجانب أجبرونا!”، مع أن الذيل الذي يهتز يفضح الكلب.
وعلى هذا النحو تقوم الجماعات ذات النفوذ والأجندات المحددة بالتعاون فيما بينها في الحقبة النيوليبرالية. فالدول لا تحقق سيادتها المحلية تحت الضغوط الشديدة التي تمارسها المؤسسات الدولية، بل عبر الاتفاقات الدولية التي تستخدمها الفئات الاجتماعية النافذة بدورها لفرض السياسات التي تناسبها. في كتاب “المتعولمون” The Globalists (وهو أحد الكتب التي يستشهد بها مارتن)، يبين المؤرخ كوين سلوبوديان بأن هكذا مقاربة ابتكرها الليبراليون عبر جمعية “مونت بيليرين سوسايتي” (Mont Pelerin Society) التي أسسوها في سويسرا سنة 1947، فقد أدرك هؤلاء تعذر وجود إمكانية حقيقية لحكومة عالمية واحدة يمكنها تطوير المصالح التجارية والاقتصادية. فطرحوا، بدل هذا فكرة، “الحكومة المزدوجة”: “الإمبيريوم” (the imperium أو السلطة العليا) التي ستتعامل مع المسائل السياسية والثقافية والرمزية وتكون مستقلة تماماً و”مرجعية” تدار دولياً وتتعامل مع قضايا الاقتصاد. وسيجري عبر هذه السلطة آنفة الذكر التعامل مع المسائل التجارية والاقتصادية العابرة للدول وضمانة حقوق الملكية وانخفاض الرسوم الضرائبية واستقلالية المصارف المركزية (وغيرها من التدابير المسهلة للتبادلات التجارية والاقتصادية) عبر الحدود. وفي حال أصيبت إحدى الدول بالقصور وحاولت، مثلاً، اتباع سياسة مستقلة لأسعار الصرف أو التخلي عن المعاملات المصرفية المركزية، ستقوم الأسواق على الفور بمعاقبة هذه الدولة المخالفة. ورؤية “السلطة العليا” التي جاءت بها جمعية “مونت بيليرين سوسايتي” تطبق اليوم بالفعل، إذ هناك فئات اجتماعية وطبقية ذات نفوذ ضمن الدول تقوم من دون تردد بالتخلي عن نواح من السيادة الوطنية بغية تقوية نفوذها وتدعيم مصالحها الخاصة.
يتميز أسلوب مارتن الكتابي بالكثافة والإسهاب، فتأتي استعداداته المتلاحقة وسرده للوقائع التي حدثت على مدى نصف قرن تقريباً، مضجرة أحياناً على الرغم من أهميتها من ناحية التفاصيل. سيستفيد المؤرخون الاقتصاديون في المستقبل من الكتاب بالتأكيد نظراً إلى لائحة المصادر الغنية التي يضمها، إذ إن قسم حواشيه يتألف من 66 صفحة تضم نصاً بأحرف صغيرة من المراجع، التي للوهلة الأولى قد تحوي أكثر من ألف كتاب ومقالة، لكن مشكلة التفاصيل التي يوردها مارتن تتمثل في أنها في أغلب الأحيان قادرة على طمس المشهد الأكبر. فالمسائل الأساسية تظهر بصورة دورية، بيد أن المرء يتمنى لو أن الكتاب بني أكثر حول المسائل الرئيسة للأيديولوجيات – مثل الاعتقاد بالسوق الحرة الخالية من الضوابط أو بنقيضها التي تشدد على دور فعال للدولة – والقانون الدولي الذي يفرض ويشكل التفاعلات بين الدول.
الفكرة القائلة إن جميع الدول والبلدان ليست سوى بلدان ذات سيادة، هي فكرة تعزز النظام الدولي، بيد أن القاعدة الأساسية في هذا تبدو أسطورية إلى حد كبير نظراً إلى السبل العديدة التي تتخلى الدول عبرها عن عناصر من سيادتها، إذ من ناحية، لا تتمتع البلدان الأضعف بالسيادة عينها التي للبلدان الأقوى، واللامساواة في العلاقات الدولية تحد من استقلالية الدول الأضعف، كما أن البلدان، من ناحية ثانية، تتخلى عن سيادتها طوعياً ولو خلسة وعلى نحو مضمر، لأن ذلك قد يعود بالفائدة على فئات سياسية أو طبقية معينة في مجتمعاتها. وبكلام آخر يمكن القول إنه لا ينبغي الحكم على المنظمات الدولية بناءً على معيار غير واقعي مفاده الحفاظ على السيادة الوطنية لجميع الدول الأعضاء فيها، وذلك لسببين، الأول يتمثل في أن السلطة غير موزعة على نحو متساو في العالم، والثاني لأن السيادة الوطنية ذاتها منقسمة محلياً بين فئات مختلفة لها مصالح متفاوتة. وكل نظام اقتصادي دولي ينبغي أن يقوم على أسس غير مستقرة لعالم تتسم السيادة فيه بالتفاوت والانقسام.
المصدر: اندبندنت لمقال فورين أفيرز
سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
تابعوا أحدث أخبارنا وخدماتنا عبر حسابنا بتويتر