سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
من الأمور البديهية في علوم السياسة، أن الحكومات لا تتعامل فقط مع الشعوب التي تحكمها، فهي تتعامل أيضاً مع الحكومات الأخرى لعدد من الأسباب مثل، التجارة، وتبادل الأفكار، والعمل معاً لحل المشاكل العالمية، ولحل النزاعات.
ومنذ بزوغ نجم صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان، ولي العهد السعودي، شهدت المملكة انفتاحاً سياسياً واقتصادياً غير مسبوق على العالم الخارجي، عبر سلسلة من الزيارات الناجحة التي قام بها الأمير محمد بن سلمان، والتي أثمرت عن توقيع العديد من الاتفاقيات الاقتصادية والسياسية والعسكرية.
قاد الأمير الشاب قفزة في المفهوم السعودي لكيفية التعامل مع العالم الخارجي، وفتح الباب أمام صياغة علاقة مبنية على حماية مصالح المملكة الاقتصادية، مستغلاً حقيقة أن العالم لا يمكنه الاستغناء عن الدور السعودي على كافة الأصعدة، وبفضل هذه القفزة، احتلت المملكة القيادة في العديد من القضايا والمبادرات في المنطقة والعالم.
راعى ولي العهد السعودي في كل زياراته الخارجية أن تقوم السياسة السعودية الخارجية على عدة ثوابت من أهمها عدم الدخول في تكتلات مناوئة لبعضها البعض، ومن هنا، كانت التحركات الذكية التي قام بها ولي العهد لدول مختلفة في الشرق والغرب، من الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا إلى الصين وروسيا وباكستان واليابان وغيرهم، تضع نصب أعينها توثيق العلاقات السعودية بالأقطاب العالمية، وهو ما يطلق عليه في العلوم السياسية “القوة الناعمة”.
القوة الناعمة للزيارات الخارجية
وإذا كانت القوة الناعمة هي وسيلة النجاح في السياسة الدولية، فيمكننا القول بإن ولي العهد السعودي أدرك كيف يستخدم كل الأوراق كقوى ناعمة تدفع باتجاه تحقيق مصالح المملكة والمحافظة عليها، حيث فطن ولي العهد إلى ما لدى المملكة من مخزون القوة الناعمة التي لم تستغل بعد، فكان لزياراته الخارجية أهمية خاصة في مد الذراع الناعمة السعودية، لاسيما مع الدول التي ترتبط معها المملكة بمصالح وعلاقات استراتيجية، أو تلك الدول المرشحة لهذا الدور مستقبلا، سواء لأسباب سياسية أو اقتصادية أو دينية.
وفي أقل من ثلاث سنوات فقط؛ نجح ولي العهد في تغيير موقف المملكة من سياسات ردود الأفعال، إلى سياسات المبادرات وصناعة الأفعال على المسرحين الإقليمي والدولي، وهو ما بدا واضحا في الدعم العالمي مشروعي البحر الأحمر ونيوم العالميين، وسعي الدول والشركات الكبرى إلى المساهمة فيهما، بالإضافة إلى مبادرات (مسك)، وغيرها من المشروعات والمبادرات والمهرجانات المجتمعية والثقافية والسياحية والصناعية التي أضحت حديثًا عالميًا تتناقل أخبارها الصحافة العربية والدولية.
وتبقى النتيجة الأهم التي أثبتت نجاح ونجاعة زيارات الأمير محمد بن سلمان وحسن استغلاله لها كمصادر قوى ناعمة وكروت رابحة، المشاركة السعودية العسكرية الفاعلة والحاسمة في الحلف الذي تقوده الولايات المتحدة الأميركية للحرب على الإرهاب في سوريا والعراق، والتدخل العسكري القوي والحازم في اليمن لنجدة الشعب اليمني ودعم قيادته الشرعية ومساعدتها على بسط سلطتها على كافة التراب اليمني، والقضاء على الميليشيات والمجاميع الإرهابية والخارجة عن القانون، وتشكيل وقيادة تحالف دولي لتحقيق ذلك؛ إنفاذًا واستنادًا إلى قرار مجلس الأمن 2216، ومخرجات الحوار الوطني اليمني، والمبادرة الخليجية، وإنشاء تحالف إسلامي عسكري تاريخي لمحاربة الإرهاب مشكلاً من 41 دولة مسلمة، وتصنيف وملاحقة تنظيمات وجماعات وأحزاب إرهابية، وملاحقة داعميها والتضييق عليهم، من الدول الداعمة للإرهاب وعلى رأسها نظام ملالي إيران. والعمل العازم والحاسم لبتر أذرعها وأدواتها الإرهابية كالقاعدة وداعش وحزب الله والحوثيين وغيرهم؛ وهو ما كان له بالغ الأثر في إعادة بلورة موازين القوى في المنطقة وفي العالمين العربي والإسلامي، وبما يعيد الأمور إلى نصابها الصحيح.
زيارات ولي العهد الخارجية ورؤية 2030
وفي ظل السعي الحثيث من ولي العهد الشاب لتطبيق رؤية المملكـة 2030، استخدم الأمير محمد بن سلمان القوة الناعمة كإحدى الأدوات السياسية والدبلوماسية المهمة في هذا الجهد، لاسيما البعد الدولي، وذلك لما للمملكة من موقع روحي وسياسي واقتصادي مؤثر في هذا العالم المضطرب، ولعل هذا ما ركزت عليه رؤية المملكة 2030، حيث كانت كل زيارات ولي العهد تضع نصب أعينها مصالح بلاده الاقتصادية من خلال فتح أسواق جديدة للسلع والمنتجات السعودية، أو جذب استثمارات من مناطق أخرى من العالم للعمل بالسوق السعودية.
إن رؤية المملكة 2030 تمثل لولي العهد أكثر من كونها خطة هادفة إلى تنمية المملكة، إذ أنها تمثل إيمانا راسخا ويقينا صادقا تتمحور كل خطوات الأمير محمد بن سلمان حول تحقيقها على أكمل وجه، ومن هنا كانت الرؤية دوما في بؤرة زياراته الخارجية، الأمر الذي حدا بدول عظيمة كبرى كالصين للحديث مرارًا ومن خلال خبرائها الاقتصاديين، حول المواءمة والتكامل بين رؤية المملكة 2030 ومبادرة الرئيس الصيني التاريخية «الحزام والطريق» والشهيرة بمبادرة «طريق الحرير الجديد».
وفي يونيو 2016، زار الأمير محمد بن سلمان الولايات المتحدة، وتخللت الزيارة لقاءات عددية مع عمالقة صناعة التكنولوجيا في العالم، وكانت رؤية 2030 واحدًا من أهم المحاور التي طرحت على طاولة رؤساء الشركات الأميركية، بهدف تعريفهم بحجم الفرص الاستثمارية المتوفرة في السعودية، لتضح معالم تنفيذ “رؤية 2030” والتي ترتكز على عدة مبادئ من أبرزها محاولة التقليل من الاعتماد على النفط إلى أدنى الحدود، وبما أن أحد أبرز البدائل المطروحة هي تعزيز الصناعات المتقدمة سواء التكنولوجية أو العسكرية، كانت لقاءات الأمير محمد بن سلمان مع عمالقة صناعة التكنولوجيا.
وخصص الأمير محمد جزء كبير من تواجده وقتها في الولايات المتحدة لزيارة “وادي السيلكون” في سان فرانسيسكو، حيث توجد أغلب شركات التكنولوجيا العالمية العملاقة، وعقد سلسلة من الاجتماعات المكثفة مع المديرين التنفيذيين لهذه الشركات، كما ناقش ولي العهد في “وادي السيليكون” مع كبرى شركات التكنولوجيا كيف يمكن للسعودية أن تستفيد من الابتكارات التي ولدت في ولاية كاليفورنيا.
وقد أتاحت الزيارة الفرصة للشركات العملاقة التي تتخذ من وادي السيليكون في كاليفورنيا مقرا لها، للاطلاع والاستفادة من مشاريع رؤية السعودية 2030 وبرنامج التحول الوطني المتوقع له أن يخلق فرصا استثمارية تقدر بقيمة 447 مليار ريال، تعادل نحو 120 مليار دولار، وهي القيمة المقدرة للمشاريع المتضمنة في البرنامج، ويفترض أن تمويلا بنسبة 60% من مصادر حكومية.
كذلك، كانت رؤية 2030 محورا مهما من محاور زيارة ولي العهد إلى الصين واليابان، في سبتمبر 2016، خاصة أن التجربتين الصينية واليابانية من أنجح التجارب الاقتصادية في العالم، وإذا كانت رؤية 2030 تتضمن أهدافاً طموحة، تعتمد في كثير من جوانبها على الاستثمارات الأجنبية، وتوطين الصناعة والتقنية، ونقل التكنولوجيا، فإن الأمير محمد بن سلمان أدرك مبكرا أن الصين واليابان تشكلان الدول الأكثر أهمية للمملكة في الوقت الحالي، بل هما القادرتان على المساهمة الفاعلة في تحقيق الكثير من متطلبات رؤية المملكة الاقتصادية، من خلال شراكات استثمارية صناعية وتجارية، بالإضافة إلى كونهما قادرتين على نقل التكنولوجيا الحديثة إلى الشباب السعودي ونقل التقنية وتوطينها، واجتذاب استثمارات بمليارات الدولارات من شركات نوعية، تؤسس مشاريعها لجيل من رياديي الأعمال السعوديين في المملكة.
المملكة تتجه شرقا
أما عن الناحية الاستراتيجية، فقد كانت الزيارتان عنوانا لتوجه المملكة نحو دعم أكبر واهتمام أوضح بترسيخ علاقتها مع عمقها الآسيوي، خاصة أن الزيارتين كانتا ضمن جولة آسيوية قام بها الأمير محمد بن سلمان، شملت الصين واليابان وباكستان، واختتمت بترأسه وفد بلاده في قمة العشرين التي عقدت في الصين.
وكانت جولة الأمير محمد بن سلمان مقدمة لجولة أخرى قام بها خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز، ما أكد أن المملكة تسعى لتأصيل مكانتها كبوابة وجسر بين قارتي آسيا وأفريقيا، وتدشين عهد جديد مع دول شرق آسيا، وترسيخ علاقاتها مع دول الخليج العربي، خاصة بعد أصبحت دول شرقي آسيا من أكثر الدول المؤثرة على الخريطة الاقتصادية العالمية.
وحملت جولات ولي العهد الآسيوية أهمية استراتيجية كبرى، إذ أنها مثلت رسالة سعودية إلى العالم في أن لديها مصالح كبرى في الشرق، وأنها لا تهملها لحساب جهة معينة أو محور معين، طالما أن ذلك يحقق مصالحها، ويخدم سياستها وقضاياها التي تدافع عنها. وإن السعودية لا تضع بيضها في سلة واحدة، ولا ترهن سياستها لجهة واحدة. لتُدشن الجولات مرحلة لافتة في مفهوم الشراكات الاستراتيجية، وتفعيل للسياسة السعودية الجديدة، وتبنى على ما سبق من زيارات واتفاقيات، ولاسيما في الملف العسكري، وملفي الطاقة والاستثمار. فالسعودية من خلال هذه الزيارات تهدف لتعزيز علاقاتها، ودعم موقفها كدولة محورية في السياسة الدولية، واستثمار دورها في الاقتصاد العالمي كدولة نفطية مهمة، فضلاً عن تنويع مصادر شراء الأسلحة، وفتح شراكات اقتصادية تتسق مع مضامين رؤيتها الاقتصادية 2030.
إن المملكة العربية السعودية تنطلق في علاقاتها مع الآخرين من خلال معيار أساسي يحقق مصالحها، وقد يفسرها البعض بأنها رسالة سياسية للغرب، لكن الصحيح أن السعودية دولة لها سيادة وبيدها قرارها وخياراتها، والمتابع لخطواتها واتفاقياتها، يجد سياسة التوازن والتنوع والتوسع، مما يضمن لها مردوداً سياسياً واقتصادياً وعسكرياً بما يخدم مصالحها.
هذا الحراك السعودي اللافت، يكرس تموضعاً لافتاً للمملكة في الخريطة الدولية، بدليل مشاركتها في صياغة القرارات الاقتصادية العالمية، وهو ما يضع على عاتقها مسؤوليات للحفاظ على ما وصلت إليه من مكانة، بما يعزز بقاءها في ساحة اللاعبين الكبار، وجولات ولي العهد الآسيوية جاءت لتُدشن مرحلة إضافية في مفهوم الشراكات الاستراتيجية، وجاءت ترجمة لمحددات السياسة السعودية الخارجية؛ ولتبني على ما سبق من زيارات واتفاقيات ما يعني الانطلاق لآفاق رحبة، وتعاون جاد في ملفات عديدة، وهذا يتجلى في زيارة دول بحجم اليابان والصين ذات التجارب والخبرات الاقتصادية العتيدة، ما يعني تكريس المضي في تنفيذ رؤيتها 2030م.
ولي العهد والولايات المتحدة
تحمل زيارات الأمير محمد بن سلمان إلى الولايات المتحدة أهمية خاصة، وتحتاج إلى فهم خاص لإدراك كافة أبعادها، في ظل العلاقة الاستراتيجية الوطيدة التي تجمع بين الرياض وواشنطن.
ومنذ الزيارة الأولى للأمير، عندما كان وليا لولي العهد، اتضح أن الذهاب إلى الولايات المتحدة لم يكن من باب الرسميات الجامدة، أو نوعا من الرفاهية وتأكيد المؤكد، بل إن الأمير الشاب كانت له أهدافا محددة، وخطة معتمدة يسعى لتحقيقها في زياراته الخارجية جميعا، وعلى رأسها بالطبع زياراته إلى الدولة الأقوى في العالم.
لقد أدرك الأمير محمد بن سلمان أن زياراته إلى الولايات المتحدة ستفتح نقاشات ساخنة حول أولويات بعينها، طالما أنه جاء بأجندة وخطة محددة ولن يتوانى عن تنفيذها، وكان على رأس هذه الأولويات الملفين الاقتصادي والعسكري الأمني، ولعل هذا ما يفسر سر اهتمام ولي العهد بزيارة أقطاب الصناعة والتكنولوجيا في أميركا، بالإضافة إلى مقابلاته مع صناع القرار في الإدارتين الأميركيتين اللتين تزامنت زياراته معهما، والحديث بالطبع عن إدارة اوباما ثم إدارة ترمب.
إن الأمير محمد بن سلمان يعي تماماً أن الأميركيين يولون مصالحهم الاستراتيجية أهمية قصوى، وانه إذا أراد تحقيق خططه الهادفة إلى تحويل المملكة لأحد الأقطاب المؤثرة بقوة في شتى المجالات، فعليه أن يستغل الحرص الأميركي على مصالحه، وأن يعامله بالمثل أيضا.
وفي ظل ما أثبته ولي العهد طوال السنوات القليلة الماضية، فإن حالة من الترقب تسود الدوائر الرسمية والشعبية الأميريكية، وتنتظر باهتمام بالغ زيارة ولي العهد المعلن عنها مؤخراً.
الزيارات المنتظرة للأمير الشاب تعكس حجم التغيير والانفتاح الكبير الذي تشهده المملكة، فالجولة التي تستغرق أسبوعاً، والتي تبدأ مطلع مارس المقبل، مع توقف محتمل في واشنطن وبوسطن وسان فرانسيسكو ونيويورك وهيوستن، تهدف إلى إثبات أن الرياض ترحب بالاستثمارات الدولية بعد أن قاد ولي العهد عملية تطهير كبرى في المملكة، لاسيما أن الأمير محمد بن سلمان يقود عملية تحول كبرى تدفع نحو تنويع الاقتصاد السعودي، وعدم ركونه إلى النفط كمصدر وحيد للدخل، لافتة إلى أن رؤية المملكة 2030 تقود نحو تحقيق هذا الهدف.
كما أن الجولة تهدف إلى أن تكون “محطة سعودية” على طول الطريق لبناء روابط رفيعة المستوى مع الصناعات الرائدة في الولايات المتحدة لتوطينها في المملكة من التعليم العالي في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا المرموقة خارج بوسطن لإنتاج الطاقة في هيوستن.
زيارة بريطانيا
زيارة ولي العهد تحظى باهتمام كبير من الحكومة في بريطانيا، في ظل سعي لندن نحو الفوز بعلاقات أكثر دفئاً مع الرياض. ووفقا لمصادر رسمية بريطانية فإن الأمير محمد بن سلمان سيحظى باهتمام كبير في زيارته إلى بريطانيا الشهر المقبل، وسط اهتمام بالفوز بعلاقات أكثر دفئاً مع الرياض.
إن ولي العهد من خلال زيارته إلى بريطانيا، يؤكد أنه رغم العلاقات القوية التي تجمع بين الرياض وواشنطن كحليفين استراتيجيين، إلا أنه حريص على تقوية العلاقات بالدول الفاعلة في السياسة الدولية، عبر اتباع استراتيجية توسيع دائرة الحلفاء، ما يقوي من مواقف المملكة في القضايا الاقليمية والعالمية، ويدفع باتجاه مراعاة مصالحها، ويضمن لولي العهد أن تكون بلاده رقما صعبا في قضايا المنطقة بل والعالم أجمع.
لقد أعاد الأمير محمد بن سلمان بن عبد العزيز، تشكيل التحالفات الخارجية للمملكة، من خلال رؤية جديدة تتوازى مع حجم البلاد الإقليمي والعالمي، وتواكب الأهمية الدينية والاقتصادية والسياسية. وتمكنت جولات ولقاءات الأمير محمد بن سلمان بن عبد العزيز من تطوير العلاقات السعودية مع القوى العالمية والدول الناشئة، هذه الزيارات أعطت فكرة عن شكل السعودية الجديدة، وشرح طريقة عملها، ودور المملكة المؤثر في القضايا العالمية والإقليمية، الأمر الذي تُوِّج بدعم الدول العالمية لوجهة النظر السعودية في كثير من تلك القضايا والأحداث، وهو الأمر الذي يتواصل من جديد مع الجولة الجديدة في مارس الحالي لولي العهد الأمير محمد بن سلمان بداية من زيارة جمهورية مصر العربية ومرورا بالمملكة المتحدة وفرنسا وانتهاء عند الولايات المتحدة الأميركية.
وحدة الدراسات السياسية*
سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
تابعوا أحدث أخبارنا وخدماتنا عبر حسابنا بتويتر