في أعقاب عمليتي “درع الفرات” و”غصن الزيتون” العسكريتين، دفعت تركيا بقوات إلى شمال شرق سورية في عملية أخرى أُطلق عليها اسم “نبع السلام”. هذا كان يُفترض أن يكون الرد على القلق التركي العميق حيال الإرهاب الكردي، وأن يُسفر كذلك، وإن شكلاً، عن تكثيف القتال ضد الدولة الإسلامية. بيد أن هذه العملية الجديدة كانت أيضاً بمثابة مناورة كبرى على الصعيد السياسي المحلي حيث يُواجه الرئيس رجب طيب أردوغان صعوبات جمّة. والحال أن المخاطر تطال كل الأطراف المعنية، وتتطلّب رداً منسّقاً من الاتحاد الأوروبي.

بدا قرار أنقرة بإرسال قوات مجدداً إلى سورية، في الظاهر، استمراراً لاحتلالها منطقة جرابلس شمالي حلب (عملية درع الفرات) ومنطقة عفرين الكردية (عملية غصن السلام)، وهي تستند إلى عقود أربعة من القتال ضد تمرد حزب العمال الكردستاني الذي تعتبره تركيا الرأس السياسي لوحدات حماية الشعب الكردية.

معروف أن الساسة الأتراك يتخوّفون تاريخياً من بروز “كردستان” على حدودهم الجنوبية، ومن عدوى ذلك على الأكراد في جنوب شرق تركيا. ومؤخراً، أثار احتلال حزب الشعوب الديمقراطي، وهو حزب ذي أصول كردية، المرتبة الثالثة في الانتخابات التشريعية في حزيران/يونيو 2015، مخاوف القيادة التركية فجرى إلغاء هذه الانتخابات لاحقا.

ثم جاءت النجاحات العسكرية لوحدات حماية الشعب الكردية في إعادة توحيد المقاطعة الوسطى، أو كانتون كوباني، مع المقاطعة الشرقية من الجزيرة لمفاقمة هذه المخاوف. ولذا، كانت العمليات العسكرية في جرابلس وعفرين تستهدف منع هذه الوحدات من الزحف غرباً، وهذا حتى قبل شن عملية “نبع السلام” .

العملية العسكرية الراهنة لها أيضاً استهدافات محلية. فأردوغان يتخبط خبط عشواء في الداخل على إثر خسائره الكاسحة في انتخابات البلديات لصالح المعارضة. علاوة على ذلك، تنشط شخصيتان بارزتان في حزب العدالة والتنمية الذي يرأسه أردوغان، هما علي بابكان وأحمد داوود اوغلو، لتأسيس أحزاب جديدة، فيما يعاني الاقتصاد التركي من صعوبات بفعل أخطاء الرئيس. وبالتالي، يمكن للتوغّل العسكري الجديد في سورية، المستند إلى المخاوف الأمنية وإلى سردية قومية حادة، أن يكون وسيلة مثالية لحشد غالبية الشعب وراء الرئيس، وكم أفواه معظم قوى المعارضة، وحرف الانتباه عن المحاكمات السياسية، كتلك التي تجري الآن مع رجل الاعمال عثمان كافالا المُتهم بالوقوف وراء احتجاجات حديقة غيزي في العام 2013.

سردية أردوغان تتضمّن أيضاً اتخاذ موقف الهجوم مع الدول الأوروبية التي انتقدت الخطوات التركية في سورية. وهذا تجسّد في تهديده بـ”فتح البوابات” أمام اللاجئين للهجرة إلى البلدان الأوروبية.

حتى كتابة هذه السطور، كانت القوات التركية وأتباعها من وحدات الجيش الحر السوري تتقدم بحرص شديد في وسط قطاع يمتد إلى 300 كيلومتر بين نهر الفرات ومدينة القامشلي التي تسيطر عليها الحكومة السورية. لكن، في 13 تشرين الأول/ اوكتوبر، أعلنت دمشق أن قواتها ستنتشر على طول الحدود التركية في القامشلي وكوباني، وكذلك في منجب جنوب جرابلس. والأرجح أن هذه الخطوة تمت بموافقة روسية، وهي تتطابق كلياً مع الهدف الذي أعلنته موسكو مراراً وتكراراً وهو مساعدة الدولة السورية على استعادة وحدة أراضيها. وهذا أسفر عن تراجع القوات الأميركية والفرنسية، لكن الأهم أنه عقّد إلى حد كبير التوغّل العسكري التركي. ومما زاد الأمر تعقيداً أيضاً دعوة الولايات المتحدة في 14 تشرين الأول/ اوكتوبر إلى وقف إطلاق النار في سورية وقرارها بفرض عقوبات على تركيا.

في بروكسل، سيكون على قادة الاتحاد الأوروبي في 17 تشرين الأول/ أوكتوبر بلورة موقف من التدخّل التركي في سورية. وهذا لن يكون عملاً سهلاً، إذ سيتعيّن على هؤلاء القادة الإبحار في بحر متلاطم من الأولويات، منها التخفيف من وطأة الكارثة الإنسانية، وتجنّب إشعال غضب أردوغان أكثر من ذلك، وإيجاد وسائل للحد من الأزمة وحماية المصالح الأوروبية.

أمام الاتحاد الأوروبي مروحة من الخيارات: أولاً، سيكون عليه الانخراط في حوار عاجل مع روسيا وتركيا والولايات المتحدة والأمم المتحدة حول ترتيبات الأمن المضمونة دولياً على طول الحدود، ما يسمح للأتراك بالانسحاب وتجنّب المزيد من التصعيد العسكري. بيد أن هذا سيعتمد على مدى استعداد روسيا لتسهيل الحوار بين دمشق وبين كل الأطراف المعنية بالصراع، وهذا ليس أمراً واضحاً حتى اللحظة.

ثانيا، سيكون على الاتحاد الأوروبي إحكام القبضة على الجهاديين المُعتقلين في مثلث لايزال تحت سيطرة قوات سورية الديمقراطية التي تهيمن عليها وحدات حماية الشعب الكردية. كما سيتعيّن عليه تأمين المعسكرات التي يُحتجز فيها الجهاديون والمدنيون، لتفادي إمكانية قيام قوات سورية الديمقراطية ووحدات الحماية بإطلاق سراح السجناء كردٍ على الوضع الجديد الذي تجد نفسها فيه، وهو أمر يثير قلقاً عميقاً لدى الاتحاد الأوروبي. لكن العثور على الوسائل الكفيلة بتحقيق هذا الهدف سيكون أمراً عسيرا.

ثالثا، يجب على الاتحاد الأوروبي مواصلة الحوار حول المساعدات الأوروبية للاجئين السوريين في تركيا إلى حين التوصل إلى تسوية سياسية حول مستقبل الحكم في سورية، وحينها ستتوافر الفرص للحديث عن إعادة توطين حقيقية لهؤلاء اللاجئين. وفي الوقت نفسه، يتعيّن أن يجد الاتحاد الأوروبي وسائل لتقديم المساعدة الإنسانية للنازحين في الجنوب بفعل التوغّل التركي.

رابعا، لن يكون للعقوبات، كتجميد أصول القيادة التركية أو تقليص تمويل الاتحاد الأوروبي لدعم عملية التحديث في تركيا، سوى تأثير ضئيل. فالقرار الأوروبي بوقف صادرات الأسلحة دخل حيّز التنفيذ وهي خطوة مشروعة، لكن لن يكون لها أيضاً إلا مضاعفات محدودة. الأفضل والأجدى هو تعليق أو تأجيل الاستثمارات المباشرة من شركات الاتحاد الأوروبي في تركيا.

أخيرا، أي إجراء سياسي يجب أن يكون جهداً جماعياً في الاتحاد الأوروبي، وليس فقط فرنسياً أو ألمانيا، لأن هذا الاحتمال الأخير سيترك حتماً لتركيا حيزاً أوسع لمجابهة أي قرار يُتخذ. وبالتالي، الوسيلة الفضلى لإشعار تركيا بأن توغّلها العسكري ينطوي على مخاطر لا على حلول، هي الحفاظ على موقف أوروبي حازم ومتماسك، وإعادة الاتحاد الأوروبي ثانية إلى طاولة المفاوضات التي لا تُهيمن عليها تركيا.

 

المصدر: مركز كارنيغي للشرق الأوسط