سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
يوسف بن علي الشاعل
صارت “هيئة التحقيق والادعاء العام” في صبيحة الثاني والعشرين من رمضان الماضي “النيابة العامة”. هذا المسمى المتفق عليه دوليًا كخلاصة تجارب الشعوب والدول في التحقيق الجنائي، كان بالإمكان اختصار الزمن لأجله وتوفير تسع وعشرين سنة، هي المدة الفاصلة بين تاريخ نشأة هيئة التحقيق والادعاء العام عام 1409ه وتحويلها للنيابة العامة في هذا العام 1438ه.
وهيئة التحقيق والادعاء العام، ليست استثناء من أدبيات الخصوصية التي تحضر في كل شأن مستحدث في المملكة العربية السعودية، ولو كان ذا طبيعة إجرائية كالتحقيق الجنائي. وتبين خلال تلك السنوات من عمر هيئة التحقيق والادعاء العام، أنها نيابة عامة “بحق وحقيقة”، بل إنها مارست اختصاصات وحازت صلاحيات فاقت اختصاصات وصلاحيات بعض النيابات العربية، وبالتالي فلم تكن المسألة أكثر من كلمات تكتب في الأوراق الرسمية ولوحات تعلّق خارج المقرات.
وقد تجاوز الأمر الملكي رقم 240/أ الصادر بتاريخ 22 رمضان 1438ه، “عقدة” الخصوصية، وأشار صراحة إلى مسألة الانسجام مع النهج الدولي في مجال التحقيق، إضافة إلى تأكيده الصفة القضائية للمحققين وترسيخ الاستقلالية أكثر بفصل النيابة العامة عن وزارة الداخلية وارتباطها بالملك.
ومؤسسة النيابة العامة، ليست من المؤسسات العامة التقليدية كمؤسسة الشرطة، والجيش، والقضاء، والتعليم، التي ظهرت بصورة طبيعية عبر التاريخ من خلال الممارسة اليومية لشؤون الحياة، وتشكلت بصورتها الحالية ببروز الدول؛ فهي – أي النيابة العامة – بحق مؤسسة غير تقليدية ولدت ولادة عسيرة، كما وصفها بعض المؤرخين الفرنسيين، ولم تظهر بطريقة تلقائية إلى النور بعيدًا عن العذاب، فكانت بداياتها مؤلمة ومضطربة، وقد عثر على أول نص تشريعي يشير إلى النيابة العامة في عهد فيلِب لوبل بتاريخ 23 مارس 1303م، الذي كلّف فيه نواب الملك بمباشرة العمل القضائي وفرض عليهم اليمين كرجال القضاء، وحظر عليهـم مزاولة العمــل لغير حسابــه.
وتبلورت النيابة العامة أكثر في ظل النظام الملكي الفرنسي ما بين القرنين الرابع عشر والسادس عشر، ونص أمر ملكي صادر عام 1539م على أن نائب الملك يجب أن يكون طرفًا في جميع الدعاوى، فكان يتلقى البلاغات ويفحصها ويعرض على القاضي ما يراه مستحقًا للاتهام، إلا أن القاضي قد يباشر التحقيق ذاتيًا دون انتظار تحريكها من نائب الملك، فكان للنيابة العامة شريك في تحريك الدعوى العامة، هم القضاة. وتمكنت النيابة العامة لاحقًا من الحيلولة دون تدخل القضاة في اختصاصاتها، خاصة مع زيادة التذمر الشعبي من سطوة القضاء الزائدة في الشؤون العامة، وكان ذلك التذمر من دوافع تفجر الثورة الفرنسية، بل إن الثوار الفرنسيين ألغوا جهاز النيابة العامة ذاته، ضمن ما رأوه إصلاحًا يتوافق مع النظام الجمهوري الجديد، لكن النيابة العامة كانت قد غرست جذور الحاجة لها وسط المجتمع، فعادت أكثر قوة كحارسة لحقوق الأفراد وحقوق الدولة.
وفي الجانب الموضوعي للنيابة العامة، هناك خصائص لها، من المفيد معرفتها لفهم طبيعة أعمالها وآلية اتخاذ القرار فيها، هي: التبعية التدريجية، وعدم التجزئة، وعدم المسؤولية، وعدم جواز رد أعضائها، والاستقلالية.
• خاصية التبعية التدريجية: ويقصد بها أن عضو النيابة العامة خاضع لإشراف رئيسه في أعماله التي يقوم بها ما دامت متفقة مع القانون، ويعتبر النائب العام هو الأصيل في مباشرة الدعوى العامة، وبقية أعضاء النيابة العامة وكلاء له، يستعملون الدعوى باسمه ويستمدون سلطتهم منه، وبالتالي على عضو النيابة العامة الالتزام بالتعليمات التي يصدرها النائب العام. ويتحدث بعض أعضاء النيابة العامــة ــــ خاصة المعيّنين الجدد منهم ــــ عن استقلال عضو النيابة أسوة بالقاضي، ويأتي هذا الحديث نتيجة الخلط بين استقلال القاضي واستقلال النيابة العامة كجهاز ومؤسسة. وهناك فرق بين الاستقلالين: فالاستقلال في القضاء هو استقلال شخص القاضي، الذي يصدر حكمه دون تبعية لرئيس المحكمة أو سلطة أعلى، فهو يتولى إنجاز المرحلة الأخيرة من الدعوى المنظورة أمامه وفقًا لأدلتها وحسبانًا لظروفها وملابساتها، مطبقًا القانون عليها، ومتحملاً وحدَه أمام الله، ثم الناس حكمه فيها. أمَّا الاستقلال في النيابة العامة، فهو استقلالها كجهاز عن أي مؤثر خارج هذا الجهاز، ولا تخضع إلا لأحكام الشريعة الإسلامية والقوانين المرعية (المادة “5” من نظام النيابة العامة)، وعضوها خاضع لرئيسه، وهكذا يتدرج الخضوع الرئاسي حتى يصل إلى قمة الهرم حيث النائب العام الذي تجتمع فيه كافة صلاحيات أعضاء النيابة العامة. ويتكامل مبدأ التبعية مع مبدأ آخر يمثل خاصية للنيابة العامة أيضًا، وهو مبدأ عدم التجزئة.
• خاصية عدم التجزئة: أي وحدة النيابة العامة واتحاد أعضائها في كيان واحد لا يتجزأ، إذ يعتبرون قانونًا كما لو كانوا شخصًا واحدًا، فذلك الذي يتصرف أو يتكلم لا يفعل ذلك باسمه الشخصي، إنما باسم النيابة العمومية كلها، فينظر إلى عمل عضو النيابة العامة كما لو أنه صدر عن أي عضو آخر طالما اعتبرت جسمًا واحدًا، فيمكن لأعضاء النيابة العامة أن يحل بعضهم محل بعض، فيحرك الدعوى أحد الأعضاء ويستكمل التحقيق عضو آخر، ثم يرفع الدعوى ثالث، ويحضر الجلسة رابع، ويطعن في الحكم عضو خامس، ويعلل ذلك بوحدة المجتمع الذي يَنوبون عنه من جهة، ومن جهة أخرى هناك مصلحة في رسم سياسة موحدة لمكافحة الجريمة؛ مما يتطلب أن يسود الهيئة المكلّفة بتنفيذ تلك السياسة، الوحدة والانسجام. ويرد على هذا المبدأ قيد واحد، هو التزام العضو بقواعد الاختصاص المكاني.
• خاصية عدم جواز الرد: لا يجوز رد أعضاء النيابة العامة؛ لأنهم خصوم أصلاء في الدعوى العامة، وليس للخصم أن يرد خصمه. كما أن أعمالهم الإجرائية ومطالبهم تخضع لمحض تقدير القضاء، على عكس القضاة الذين للخصوم الحق في طلب ردهم وتنحيهم. وهناك من ينتقد هذا المبدأ ويرى أن المتهم لا يرد النيابة كسلطة اتهام، بل يرد ممثلها الذي يراه غير محايد وغير نزيه، وبالتالي ينبغي السماح بطلب استبدال عضو النيابة الذي لا يطمئن إلى حيدته. وتكاملاً مع خاصية عدم تجزئة عمل المحقق، فإن مسألة طلب الرد لا تثير مشكلة داخل جهاز النيابة العامة؛ حيث يمكن للرئيس المباشر، متى ما لاحظ مصلحة في تنحية المحقق عن استكمال التحقيق لصلة قرابة أو مودة أو خصومة مع أحد أطراف الدعوى، أن يكلّف محققًا آخر في أداء المهمة، وقد نص مشروع اللائحة التنظيمية لنظام النيابة العامة (هيئة التحقيق والادعاء العام سابقًا) على جواز التنحية إن كان لها موجب.
• خاصية عدم المسؤولية: لا يسأل أعضاء النيابة العامة عمَّا يقع منهم من أخطاء؛ لأن استعمالهم للسلطة المخولة لهم في الاتهام والتحقيق يتوفر بشأنها سبب إباحة. كما أن خصومة النيابة العامة، هي شكلية لا تهدف إلى تحقيق مصلحة خاصة، إنما تسعى لتحقيق الصالح العام. والحكمة من عدم تقرير مسؤولية على أعضاء النيابة العامة، أن التهديد بذلك عن كل خطأ يقع منهم في مباشرة سلطة الاتهام ويرتب ضررًا بالأفراد، من شأنه دعوتهم للتردد في إنجاز أعمالهم بالطريق الذي يحقق المصلحة العامة؛ مما يلحق بتلك المصلحة ضررًا بليغًا. ويقيد هذا المبدأ بتوفر شروط الإباحة، فيباشر العضو عمله بحسن نية، وفي الحدود التي رسمها القانون، وبالتالي لا يلحق الضرر اليسير المقترن بحسن نية، مسؤولية جنائية أو مدنية بالعضو، أمَّا لو شاب عمـله غش أو تدليـــس أو غـــدر أو خطأ مهني جسيم، فيجوز مساءلته جنائيًا ومدنيًا.
• خاصية الاستقلالية: تلتزم النيابة العامة عند مباشرة اختصاصها بالحياد والموضوعية، وحتى يمكنها تحقيق ذلك يجب أن يُسلّم لها بالاستقلالية عن كل من له اتصال بالدعوى العامة، سواء كانت السلطة التنفيذية أو القضائية، أو الخصوم. فتستقل النيابة العامة عن السلطة التنفيذية فيما يتعلق بوظيفتها الأساسية، وهي تحريك الدعوى العامة والتحقيق والسير بها، ومن ثم التصرف فيها: إحالة للقضاء أو حفظًا وفقًا للقانون والمصلحة العامة. وتبعية النيابة العامة إداريًا لوزير العدل (أو الداخلية حسب كل دولة) لا تنتقص من تلك الاستقلالية ما دامت في دائــرة الشــؤون الإدارية وبعيدًا عن العمل الفني للنيابة العامة. كما أن إشراف النيابة العامة على رجال الضبط الجنائي واتصال الأخيرِين بها في نشاطهم اليومي وتلقيهم للأوامر والتعليمات من أعضاء النيابة العامة لا يخل بمبدأ الاستقلالية، بل هو داعم لسلطة النيابة العامة باعتبارها موجِهة لا موَجهة. وللنيابة العامة هيئتها القانونية المستقلة عن القضاء، ولو اعتبرت جهازًا من أجهزة السلطة القضائية؛ لأن العدالة الجنائية، وبعد تجربة طويلة عبر التاريخ، اقتضت الفصل التام بين وظائف الاتهام والتحقيق من جهة، والحكم من جهة أخرى. وتحتكر النيابة العامة، باعتبارها ممثلة المجتمع في الدعوى العامة، صفة المدعي فيها، واشتراط الشكوى من قبل المجني عليه في بعض القضايا لتحريك الدعوى العامة، هو استثناء تقتضيه طبيعة تلك القضايا التي قد تفوق المصلحة الخاصة فيها المصلحة العامة. وتأكيدًا لاستقلال النيابة العامة عن الأفراد والخصوم، أن لها عدم توجيه الاتهام بشأن كل ما يقدم لها من شكاوى ويـــردها من بلاغـــات، رغم أن للمجني عليه رغبة معاكسة في ذلك، ومن جهة أخرى فقد يبدي المجني عليه رغبة في عدم السير في الدعوى فيتصالح أو يتنازل عن حقه في الدعوى، ورغم ذلك ترى النيابة أن من المصلحة إقامة الدعوى العامة. والأمر الملكي رقم 240/أ نقل النيابة العامة السعودية بعيدًا عن نتائج وتفسيرات ارتباط النيابة العامة بالسلطة التنفيذية، بفصلها تمامًا عنها، وإلحاقها بالملك مباشرة.
ظل خروج النيابة العامة من رحم السلطة التنفيذية، له أكبر الأثر في تشكّل خصائصها، ورغم تقاسمها مع القضاء إجراءات السير في الدعوى العامـــة وقربـــها منه، فإن أصــل النشأة طبع النيابة العامة بطابعها الخاص المتميز عن القضاء. فرغم اعتبارها جزءًا من السلطة القضائية – كما يرى كثيرون – فإن أعضاءها يخضعون لنوع من التبعية الرئاسية لا يخضع له القاضي، وقاعدة عدم التجزئة للنيابة العامة واعتبار أعضائها كما لو كانوا شخصًا واحدًا، تتناقض مع ما هو مقرر للقاضي الذي عليه مباشرة كافة الإجراءات المتعلقة بالمحاكمة بنفسه.
ويثير تبدّل مسمّى هيئة التحقيق والادعاء العام إلى النيابة العامة، مسألة أخرى مشابهة، هي استخدام مصطلح “نظام” بدل “قانون”، انطلاقًا من حرج “ديني” يرى أن “القانون بديل للشريعة الإسلامية”، وأن مجرد القول بالقانون يفتح الباب لمحاكاة مدارس القانون الوضعي؛ هذه التخوفات ينبغي النظر لها كماضٍ بعد أن أصبحت الأنظمة (القوانين) الجنائية في السعودية تصدر تباعًا على شكل مواد متضمنة تجريمًا وعقوبات، وخاضعة للنظام الأساسي للحكم الذي نص في عديد المواد (مثلاً: 7/8/48) على أن الشريعة الإسلامية، هي مصدر التشريع، وهي الحاكمة على جميع الأنظمة (القوانين)؛ وبالتالي فتلك الأنظمة، هي في حقيقتها قوانين من حيث شكلها وآلية صدورها. كما أن التطبيق أثبت صلابة الالتزام بأحكام الشريعة الإسلامية، ولا حاجة لانتظار تسع وعشرين سنة هجرية أخرى لتبديل النظام بالقانون.
باحث سعودي*
@yoseef333
سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
تابعوا أحدث أخبارنا وخدماتنا عبر حسابنا بتويتر