سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
أضحى العالم العربي على موجةٍ عاتيةٍ للإرهاب في أعقاب ما يعرف بـ”الربيع العربي” بفضل انفتاح المجال لكافة التيارات الناتجة عن حالة الوهن التي اعترت الكثير من الدول العربية، بالإضافة إلى الدعم الواضح من بعض القوى الإقليمية والعالمية للتنظيمات المتطرفة. وقد بلغت حدة العنف والإرهاب إلى أن طالت الشجر والحجر. فما بين الإرهاب الفكري والإرهاب المسلح، وما بين إرهاب التنظيمات وإرهاب الدولة، يواجه العالم العربي أخطر التحديات التي تدفع صناع السياسات ودوائر الفكر بكافة مستوياتها إلى إعادة نظر في مواجهة تلك الموجة من الإرهاب.
في هذا السياق، يطل علينا الكاتب السعودي أمجد المنيف، بأحدث إصداراته تحت مسمى (رايات السواد)، يسرد فيه مجموعة من الجوانب غير التقليدية لتداعيات موجة العنف والإرهاب التي يكتوي بنيرانها – حاليًا – العالم العربي، وبخاصة من تنظيم “داعش” الإرهابي باعتباره إرهابًا غير تقليدي تجاوز حدوده وأساليبه الأجيال المبكرة من الإرهاب حول العالم.
وبنظرة غير تقليدية، يتناول الكاتب واحدة من أخطر عوامل قوة تنظيم “داعش”، التي سعى لتوظيفها في تواصله مع المجتمعات الأوروبية، وهي اعتماده على استراتيجيات اتصالية متطورة، يواجه بها المنظومة الإعلامية التقليدية التي تعاني من عدم وعيٍ كافٍ لدى الكثير من المؤسسات الإعلامية، التي ساهمت – يا للأسف – في تقديم صورة بطولية عن الإرهابيين، وإن كان ذلك بشكل غير مباشر، حتى إن حاولت التحذير منهم لكنها باءت بالفشل نتيجة لما ينقصها من احترافية في الأداء، فضلاً عن اعتمادها على استراتيجيات تقليدية تجاوزها الزمن.
تتنوع الأدوات التي يعتمد عليها التنظيم في استراتيجياته الاتصالية بحسب الفئات المستهدفة، ولغاتها والتوقيت والطرق المتبعة. ومن المؤشرات التي يوردها المؤلف حول مساعي تنظيم “داعش” للخروج من دائرة التفكير التقليدي بأساليبه واستراتيجياته ومناهج تفكيره ما يلي:
1- فاز “داعش” في طرقه الاتصالية، وكان أكثر احترافية من “القاعدة ” بخطاب اتصالي متقدم يعتمد على الثورة، بكل أنواعها، ويتخذ من التقنية ركيزة للترويج، وساعده في ذلك ثورة التكنولوجيا. وهو ما يتسق مع ما قام به تنظيم “داعش” في تفجيرات باريس الشهيرة، حيث شجع أتباعه على استخدام تطبيق مراسلات متقدم يسمح لأعضائه بتحميل واستخدام تطبيق “تليجرام”، الذي يتيح لهم ضبط الرسائل على الحذف التلقائي بعد مرور وقت معين.
2- خاطب “داعش” المتلقي الأجنبي، وبخاصة المواطن الأوروبي، ولم يرتكز على خطاب الشعب العربي كما فعل “القاعدة”، وهو ما مكَّنه من استقطاب عدد كبير من المتعاطفين.
3- تجنيد مبكر من خلال استقطاب المراهقين، المداومين على الألعاب بشكل كبير، عبر محاولة مخاطبة “اللاوعي” لديهم.
4- العمل على رسم صورة “دولوية” – من دولة – عنهم ليقولوا للمتلقي بأنهم دولة كاملة الأفرع.
5- التركيز على الهوية بشكل مكثف بحيث يصبح علمهم “المزعوم” مألوفًا للمستخدمين، وكذلك بعض مفرداتهم كمصطلح “الدولة الإسلامية”، وتصدير النماذج الإرهابية في التنظيم كـ”رموز”، وحتى طريقتهم في اللباس والعيش، والتعامل مع المرأة، والنظرة للحياة، وغير ذلك.
يرى المؤلف أنه في مقدمة عوامل قوة التنظيم الإرهابي الأخطر في القرن العشرين “داعش”، تأتي استراتيجياتها الاتصالية عبر خطاب إعلامي ديناميكي يسعى طول الوقت للفت الأنظار وتوظيف كافة السبل لذلك الهدف. وفي مقدمة هذه الرموز التي ترتبط بالمشاعر القوية، تحفيز العمل الجماعي مع عدم التقيد بإطار زمني محدد؛ إذ تحمل الرسالة الإعلامية التي يتبناها التنظيم إيحاءات متحركة باستخدام أحدث التقنيات التي تحاكي تطورات السينما العالمية، وهو ما يخلص المؤلف من خلاله إلى عدم احتمالية هزيمة “داعش” من خلال الاستراتيجيات العسكرية وحدها، ولا سيَّما في ظل اتساع الفضاءات الإلكترونية عبر الشبكة العنبكوتية (الإنترنت)، وسوق الأفكار، حيث تلعب التقنيات دورًا مهمًا في إيصال دلالات هذه الصورة، حتى وإن صاحب ذلك بعض الخدع والمؤثرات البصرية في الصورة.
ظهر ذلك بوضوح خلال عملية إحراق الطيار الأردني، معاذ الكساسبة، التي تجلت فيها تأثيرات الاستخدام المحترف للمؤثرات البصرية، ولا سيَّما حينما بدا اللهب أثناء عملية الحرب على درجة عالية جدًا من التميز التقني. لكن المؤلف يعود ويصرُّ على أنه رغم تميز مهارة التنظيم الإرهابي في توظيف قدراته التقنية واستراتيجياته الاتصالية، فإن نقاط القوة في السياسة الإعلامية، وهو ما يبينه المؤلف، بل ويحذر من خطورة تقاعس المسؤولين عن دراسة الرأي العام، وقياس نسب التعاطف مع الخطاب الداعشي، بل والتعاطي مع هذه الدراسات ونقلها إلى الواقع.
هنا يُسدي المؤلف النُصح إلى المسؤولين بأهمية التعويل على الفن ودوره في مواجهة التطرف والإرهاب، ولا سيَّما بالدراما التي تنقل الأفكار المعتدلة، وتحارب التطرف عبر الأعمال الإبداعية والدراما الهادفة.
إيران و”داعش” متوازيان لا يتقاطعان
لا يتوقف خطر تنظيم “داعش” الإرهابي على عمليات تفجيرية هنا، أو استهداف هناك، لكن الأمر يتسع ليشمل خطرًا استراتيجيًا يهدف إلى إعادة صياغة الوضع الاستراتيجي بمنطقة الشرق الأوسط، لمصلحة قوة تهدف إلى تجزئة أو تقسيم المنطقة لتسهيل السيطرة؛ فما بين إسرائيل وإيران وتركيا، الأعداء التقليديين للأمن القومي العربي، يتحرك تنظيم “داعش” لخدمة تلك القوى التخريبية بالمنطقة. وفي مقدمة شبكة علاقات “داعش”، تبرز الجبهة الداعشية الإيرانية كرأس حربة لزعزعة الاستقرار وتهديد أمن الوطن العربي، ولا سيَّما الشق الخليجي.
يرصد المؤلف أبعاد تلك العلاقة المريبة بين “داعش” وطهران من خلال موقف الأخيرة من أعمال التنظيم الإرهابي. وعلى سبيل المثال: تفجير مسجد الإمام علي، في بلدة “القديح” التابعة لمحافظة “القطيف” شرقي المملكة العربية السعودية في 22 مايو 2015 في أثناء صلاة الجمعة، والذي تبناه تنظيم “داعش” الإرهابي.
تزامن هذا التفجير مع تكهنات حملتها تقارير غربية بشأن رغبة روسية إيرانية في نقل صراعات المنطقة إلى الداخل السعودي؛ إذ سعى مخططوه إلى اللعب على وتر ثنائية “السني – الشيعي” في المملكة، وذلك من خلال الإيحاء بأن الهجوم يستهدف الشيعة في المقام الأول بخلاف الواقع الذي يستهدف أمن واستقرار المملكة، بل والمنطقة بشكل عام. ويتزامن ذلك – أيضًا – مع مساعي طهران لخلق الفوضى في الدول العربية. كما يرصد المؤلف إحجام “داعش” دومًا عن مهاجمة المصالح الإيرانية في العراق أو الشام، رغم مزاعم “داعش” بأنها تمثل الإسلام السني في مقابل أباطيل الشيعة في إيران. فضلاً عن ذلك، وبجانب العديد من الأدلة، يكشف المؤلف من خلال “فتش عن المستفيد”، عن عمق العلاقة بين “داعش” وإيران، وهو ما أكدته الكثير من الأحداث والتطورات اللاحقة.
ومع مزاعم الغرب وإيحاءاته، بتقدم آلة الدعاية الغربية، فإن المؤلف يذهب إلى أن معظم حيل الدعاية انهارت لعدد من الأسباب يرصدها – المؤلف – في تنوع مصادر المعلومات وتعددها والوعي الصحفي والمهني الذي يأبى أن يتقبل ذلك النمط التقليدي من الدعاية التي يتبناها السياسيون وأوساط الفكر والرأي العام. في هذا السياق يحاول تنظيم “داعش” الإرهابي، خلق نموذج يحتكره، وهو “الدولة الإسلامية” ليتلقفه الإعلام العربي، ويدعمه من خلال ترويجه، وهذا ما يخدم “داعش” وإن كان بشكل غير مباشر. غير أن المحصلة هي تكريس الصورة الذهنية Image التي يسعى التنظيم لإعادة إنتاجها فيما يسمى بـ”الدعاية الدلالية” بما يعني التلاعب بالألفاظ والمصطلحات وتوظيفها لتوجيه الوعي بين الجماهير بالإيحاء وبأنها “دولة الإسلام”.
تفرض ضرورة مواجهة التطرف بمنطق التجديد والخروج على السبل التقليدية، نفسها على المؤلف، بين حين وآخر، وذلك في إطار من الجرأة في مواجهة التحديات الكامنة في تطورات الأحداث، فيما يفرض أن تُسمَّى الأشياء بمسمياتها الحقيقية، كالتفرقة بين مفهوم “المجاهد” و”المقاتل” و”المنتحر”، بالإضافة إلى ضرورة البحث عن آلية للتعامل مع هذه المفاهيم في إطار متمايز؛ وهو ما يفرض على أنظمة الحكم في العالم العربي أن تتبنى ما يتمخض عنه البحث العلمي ومحاولة تجاوز الأسباب التي تمهد الطريق لبيئة حاضنة للتطرف.
التعايش والانصهار تحت مظلة واحدة وهوية شاملة، هو الوطن الذي يستوعب كل المذاهب والثقافات، يفرض ضرورة سن أنظمة واضحة ومباشرة تجرِّم الكراهية وتعمل على تقويض كل أسباب التطرف والتشدد، الأمر الذي لا يرى فيه المؤلف غير الوعي سبيلاً.
وبالرغم من تنوع الموضوعات التي يزخر بها الكتاب، فإنها اتصلت فيما بينها بفكرة محورية، وهي أنه رغم محاولات التفرد التي يبديها تنظيم “داعش” الإرهابي ما بين شكل ومضمون عملياته الإرهابية وأهدافها، فإن رائحة التجاوز إلى قوى إقليمية طامعة في زعزعة استقرار الوطن العربي، باتت تزكم الأنوف، ولا سيَّما بعد أن باتت علاقة التنظيم الإرهابي بقوى تخريبية في الشرق الأوسط، مثل “داعش” في حكم المعلوم بالضرورة. ورغم محاولات التفرد، ومزاعم التميز التي يسعى التنظيم لأن يبدو عليها، فإن العديد من المؤشرات تثبت فشل تلك المساعي من قبل التنظيم الإرهابي الأخطر في العالم، وقد تمكَّن المؤلف من أن يرصد هذه المؤشرات بمهارة أطلت برأسها بين سطور الكتاب وكلماته.
أخيرًا، يفتح الكتاب الباب على مصراعيه لضرورة البحث في الجوانب غير التقليدية للإرهاب، مع ضرورة مواجهتها بأساليب واستراتيجيات ومناهج تفكير غير تقليدية من قبل المجتمع بكافة مستوياته. لذا، فقد وجبت مهمة قراءة هذا الكتاب على الجميع؛ إذ إن مهمة مواجهة الإرهاب والتطرف باتت مسؤولية الجميع.
معلومات الكتاب
سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
تابعوا أحدث أخبارنا وخدماتنا عبر حسابنا بتويتر