دور الصين المتزايد في الشرق الأوسط | مركز سمت للدراسات

دور الصين المتزايد في الشرق الأوسط

التاريخ والوقت : الأحد, 12 يناير 2020

ياسر النجار

 

في الوقت الذي ينخرط فيه العالم في نقاش مستمر حول تداعيات الحرب التجارية بين واشنطن وبكين، تتحول اقتصادات الشرق الأوسط من علاقاتها الطويلة مع الولايات المتحدة إلى جانب الصين القوية اقتصاديًا، وهي الخطوة التي قد يترتب عليها آثار طويلة الأجل من حيث الديناميات الاقتصادية والسياسية في المنطقة.

ولا شك في أن العلاقة بين دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا والصين، شهدت منعطفًا كبيرًا في القرن الحادي والعشرين؛ فقد تطلب النمو الاقتصادي المتسارع للصين اتِّباع نهج قوي في السعي لتحقيق الموارد الطبيعية التي هي في حاجة إليها. وقد استُبعدت منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا إلى حد بعيد من محور تحركات الصين نحو آسيا وإفريقيا، حيث لم تتبنَ الصين حتى مع ما يسمى بـ”الربيع العربي” في عام 2011، سياسة أكثر انخراطًا تجاه الدول الرئيسية في المنطقة. فخلال هذه الفترة، على سبيل المثال، شرعت الصين في إجلاء 40 ألف مواطن محاصرين في النزاع المدني في ليبيا. وقد كان هذا الإجراء رمزيًا للوجود الصيني الأكثر نشاطًا رصدناه بالمنطقة فيما بعد.

من جانبها، رحب العديد من بلدان الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، التي تواجه حاليًا تداعيات ما يسمى بـ”الربيع العربي”، كعدم الاستقرار السياسي والاقتصادي، وكذلك تباطؤ النمو نتيجة انخفاض أسعار النفط، وهو ما يتوازى مع سياسة “فك الارتباط” التي تمارسها الولايات المتحدة مع المنطقة، حيث تنطلق الصين ونماذج تمويلها بأذرع مفتوحة.

ويمكن أن يعزى التوجه الصيني الجديد تجاه الشرق الأوسط وشمال إفريقيا إلى العوامل التالية:

أولاً، أن تلك المنطقة التي تتضمن احتياجات الصين من الطاقة، إضافة إلى  ارتباطها بمقتضيات الأمن القومي، وكذلك أهداف النمو الاقتصادي، تتطلب التدفق المستمر للنفط والغاز من منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. إن هذا الأمر مهمٌ بشكل خاص، وذلك في ضوء العلاقة المتوترة بين الصين والولايات المتحدة، والتي من المقرر أن تتصاعد في السنوات المقبلة.

ثانيًا، إن الصين تتبنى فكرة أن التنمية الاقتصادية هي مصدر رئيسي للاستقرار في المنطقة، وأن الاستقرار يمثل أولوية قصوى بالنسبة للحكومة الصينية. لذا، فقد جذبت الاضطرابات التي صاحبت ما يسمى بـ”الربيع العربي”، ورد الفعل الإيجابي من جميع أنحاء العالم، انتباه القيادة الصينية.

ثالثًا، تتأثر رؤية الصين بعلاقة الولايات المتحدة معها في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وكذلك الكيفية التي تتفاعل معها كافة تلك الجوانب فيما يتعلق بعلاقات الطرف الثالث دائمًا في هذا العلاقة. وهو ما يتضمن التحول الكبير الذي حققته إدارة الرئيس السابق باراك أوباما، والذي استمر في عهد الرئيس دونالد ترمب، وصولاً لأولوية الانسحاب من المنطقة، حيث ترك ذلك مجالاً كبيرًا ليملأه لاعبون آخرون، بما في ذلك الصين. كما أدت الأزمة المالية في عام 2008 إلى تحويل تركيز اقتصادات منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا على الصين للبحث عن الاستثمار والتجارة حيث مرت الولايات المتحدة بحالة ركود تجنبتها بكين إلى حد بعيد.

بجانب ذلك، فقد أدت السياسات الأميركية التي كانت تعتبر تمييزية ضد بعض بلدان منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، إلى تحويل تركيز العديد من المستثمرين الإقليميين إلى وجهات أخرى غير الولايات المتحدة.

وقد أدت التوترات التجارية بين الصين والولايات المتحدة إلى إثارة الزخم حول زيادة المشاركات الاقتصادية الصينية في المنطقة من خلال القروض والاستثمارات والتجارة.

ويتواصل نشاط الرئيس “شي جين بينغ” لتوسيع بصمات الصين في المنطقة من خلال “مبادرة الحزام والطريق” (BRI) التي انطلقت عام 2013، والتي تمَّ اعتمادها لاحقًا بالدستور الصيني. فقد زار “شي” المنطقة مرتين، بين عامي 2016 و 2018، وكانت زيارته الخارجية الأولى في فترة ولايته الثانية، ورفعت الصين مستوى الشراكة مع مصر وإيران والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة إلى مستوى استراتيجي شامل. وقد قوبلت هذه المشاركة الأكبر من نوعها بزيارات مماثلة من الزعماء الصينيين للشرق الأوسط.

وقدم العديد من دول الشرق الأوسط إلى بكين أكثر من مرة خلال السنوات الخمس الماضية. فقد زار الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي ست مرات على الأقل منذ توليه منصبه في عام 2014؛ حيث شملت كل زيارة توقيع عدد من الاتفاقيات الاقتصادية، وكان كثير منها على نطاق واسع، حيث حاول القادة توطيد العلاقة السياسية من أجل توسيع علاقاتهم الاقتصادية.

بالإضافة إلى ذلك، قامت بلدان كثيرة في المنطقة بمواءمة استراتيجيات التنمية المستدامة مع “مبادرة الحزام والطريق” الصينية من أجل الحصول على تمويلٍ أفضل لمشاريع الطاقة النظيفة. ويتوقع أن تكون تلك الخطط المستدامة واحدة من المحركات الاقتصادية الكبرى، بالإضافة إلى وجود ضرورات سياسية، بالنظر إلى العواقب الصحية وغيرها من العواقب المترتبة على المنطقة، خاصة أن دول المنطقة تبحث عن مصادر طاقة بديلة عن النفط. هنا تبرز الصين، وليس الولايات المتحدة، كرائدة في هذا المجال، فتسعى بنشاط لتعزيز التنمية الخضراء في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.

ونتيجة لهذا الارتباط المتزايد، أصبحت الصين أكبر مستثمر في المنطقة، والأكثر طلبًا على التعامل معها. ففي عام 2018، تعهدت بكين بتقديم قروض بقيمة 20 مليار دولار لإعادة الإعمار في العالم العربي، بالإضافة إلى 3 مليارات دولار في شكل قروض للقطاعات المصرفية. إضافة إلى ذلك، ومن خلال تشكيلة كبيرة من أدوات التمويل، قدمت بكين مزيجًا من القروض الميسرة والمفضلة والتجارية، فضلاً عن مقايضات العملة، لدعم البنوك المركزية وتمويل المشروعات الضخمة للبنية التحتية التي توظف من خلالها الشركات الصينية، خاصة المملوكة للدولة، الكثير من العمالة الصينية. ولا تستلزم هذه الآليات أية متطلبات سياسية، لكنها غالبًا ما تتضمن شروطًا صارمة على استخدام المواد والعمالة الصينية.

بجانب ذلك، فقد كانت هناك أيضًا طفرة موازية في العلاقات التجارية الصينية مع دول المنطقة، تضاعفت لتصل إلى حوالي 245 مليار دولار. كما تشهد منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا حضورًا متزايدًا من شركات القطاع الخاص الصينية، وخاصة شركات التكنولوجيا. فعلى سبيل المثال، نجد أن خمسةً من أفضل 10 شركات للتجارة الإلكترونية في المنطقة هي شركات صينية. كما يلاحظ بأن أهم ما يجذبهم هو ذلك الحجم المتزايد لسوق التجارة الإلكترونية في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، والذي من المتوقع أن يصل إلى 49 مليار دولار بحلول عام 2021.

كما أن السياحة الصينية تبدو في نموٍ مطرد بالمنطقة. وفي حين زادت السياحة الخارجية الصينية من 98 مليون شخص في عام 2013 إلى 154 مليون في عام 2018، ارتفعت النسبة المئوية من إجمالي السياح الصينيين الوافدين إلى دول مجلس التعاون الخليجي من 1.3% في عام 2012 إلى 1.9% عام 2018. فعلى سبيل المثال، استقبلت مصر 450 ألف سائح صيني عام 2018، وهو الرقم الذي قفز من 135 ألف عام 2015. لكن لا يمكننا إلا أن نتوقع استمرار هذا الاتجاه المتمثل في تعزيز العلاقات بين الصين والشرق الأوسط وشمال إفريقيا، خاصة مع توسع نطاق “مبادرة الحزام والطريق” في المنطقة. فالصين تمتلك الكثير مما تحتاجه، سواء من خلال القطاع الخاص في المجالات المتعلقة بالتكنولوجيا، أو التكتلات المملوكة للدولة في البنية التحتية والتشييد، أو وسائل التمويل التي ترعاها الدولة، مثل: بنك التصدير والاستيراد الصيني، أو صندوق طريق الحرير، وغيرها من البنوك الصينية.

وتقدم هذه الصيغة للعلاقات حلاً سهلاً للعديد من التحديات التنموية في المنطقة، لكنها لا تأتي بدون أي معضلات محتملة بالنسبة للصين. على أية حال، يبقى أن نرى كيف ستتمكن الولايات المتحدة من الموازنة بين النفوذ المتزايد للصين في المنطقة، وكيف ستستفيد الصين من حضورها المتنامي لتعزيز مصالحها تجاه الولايات المتحدة والغرب. فمع الحضور المتزايد، سيصبح من الصعب على نحو واضح تجنب الانجرار إلى المعضلات السياسية في المنطقة.

 

إعداد: وحدة الترجمات بمركز سمت للدراسات

المصدر: معهد دراسات الشرق الأوسط

النشرة البريدية

سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!

تابعونا على

تابعوا أحدث أخبارنا وخدماتنا عبر حسابنا بتويتر