ملخّص: الإسلام السياسي

في العام 2016، قرر حزب حركة النهضة الإسلامي التخلّي عن النشاط الدَعَوي والتركيز عوض ذلك على العمل السياسي، ما أشعل أزمة هوية في صفوف الحزب. والآن، يُواجه هذا الأخير تحديات تتضمّن إعادة النظر في دور الإسلام، والتكيّف مع كونه قوة دافعة للتغيير الاجتماعي الاقتصادي، وكيفية توجيه صفوة أنصاره، والعمل في الوقت نفسه على اجتذاب قواعد انتخابية أوسع. هذا من دون أن ننسى أن تحوّل الحزب بالكامل نحو العمل السياسي، أجبره على إعادة النظر بكلٍّ من إطاره الإيديولوجي وشرعيته التي يُفترض الآن أن تستند إلى أسس أخرى غير الدين.

محاور أساسية

-قرار النهضة المحوري بالتحوّل كلياً إلى حزب سياسي، عوض كونه حركة مُنخرطة في الدعوة الدينية، دشّن حدوث تغيير جذري في استراتيجيته، ودفعه إلى إعادة تعريف هويته.

-نهاية المشروع الإسلامي للنهضة كان حصيلة ضغوطات داخلية وخارجية. كما أنها انبثقت من النزعة البراغماتية وسياسة المقايضات. إذ تعيّن على الحزب أن يقدّم تنازلات، خاصة خلال مرحلة الحوار الوطني في 2013-2014، لضمان مشاركته وتعزيزها في عملية الانتقال إلى الديموقراطية في تونس.

-منذ أن اتخذ قراره هذا العام 2016، كان النهضة يجهد للعثور على الموقع المناسب للإسلام في مشروعه السياسي.

-على رغم النتائج الانتخابية الطيّبة منذ 2011، ستكون محاولات النهضة لتطوير قاعدة دعمه على أسس غير العمل الدعوي، مشروطة في الغالب بقدرته على التموضع كقوة حاكمة فعّالة، وعلى اقتراح حلول ناجعة للتحديات الاجتماعية والاقتصادية التي تعصف بالبلاد.

خلاصات رئيسة

-الابتعاد عن إيديولوجيا الإسلام السياسي، يعني إعادة النظر بعلاقة الحزب مع المجال الديني التونسي، ومع كلٍ من قواعده الشعبية الراهنة والقواعد الانتخابية المحافظة الأوسع. وهنا، ستكون إدارة القاعدة التاريخية للحزب هي التحدي الأبرز، خاصة حين نتذكّر أن دستور 2014 لم يضع حداً للمعارك ذات الدافع السياسي حيال مسألة الهوية.

-أضعف اعتبار الحزب تحقيق التوافق مع ممثلي النظام القديم أولوية، سمعته كفاعل أساسي يطمح للتغيير الاجتماعي- الاقتصادي. فقد خسر الحزب، بسبب مشاركته السلطة مع أعضاء النظام القديم ورضوخه إلى السياسات النيو-ليبرالية، قدرته على تفعيل الإصلاحات الاجتماعية-والاقتصادية، ومعها طروحات مكافحة الفساد التي كانت تهدف إلى إعادة بناء شرعيته وقواعد دعمه.

-على رغم أن النهضة اختار في 2018 استراتيجية الانفتاح لتنويع التمثيل والعضوية فيه، إلا أن هذا الخيار أماط اللثام عن الانقسامات بين الأعضاء القدماء والأعضاء الجدد من محترفي السياسة. وبالتالي، نجاح الحزب في المضي قدماً يعتمد على قدرة القيادة على إدارة هذا الانقسام وبناء هوية جديدة تُرضي الحرس القديم وتجتذب الأعضاء والناخبين الجدد

حين اتخذت حركة النهضة الإسلامية قرارها المحوري في العام 2016 بالابتعاد عن جذورها الدعوية والتركيز حصرياً على السياسة، سجّل ذلك تحوّلاً ضخماً في استراتيجية الحركة.1 وقد تأكّد هذا التصميم على وقف النشاطات الدعوية و”التخصص الوظيفي” في العمل السياسي رسمياً خلال المؤتمر العام العاشر في أيار/مايو 2016، حيث أوضح راشد الغنوشي، رئيس النهضة وزعيمها التاريخي منذ كانت الحركة محظورة، إن هذا التحوّل ليس مجرد وسيلة لمغادرة الإسلام السياسي والدخول إلى مجال “الديمقراطية الإسلامية” وحسب،2 بل هو أيضاً الحصيلة الطبيعية للمشاركة الكاملة للحزب في مجتمع ديمقراطي. قال: “نتطلع إلى تطوير حزب نهضة جديداً، وتجديد حركتنا ووضعها في المجال السياسي خارج أي انخراط مع الدين. قبل الثورة كنا نختبئ في المساجد، ونقابات العمال، والجمعيات الخيرية، لأن النشاط السياسي الحقيقي كان محظورا. لكن الآن يمكننا أن نكون طرفاً سياسياً علنياً”.3

“التخصّص الوظيفي” يشير إلى فصل كامل للعمل السياسي عن النشاط الدَعَوي. والتركيز أساساً على الرهانات الانتخابية، يعني أنه يتعيّن على النهضة أن يطرح جانباً مهمته التاريخية كحركة إحياء تستلهم من جماعة الإخوان المسلمين التي سعت إلى أسلمة المجتمع من خلال الدعوة والنشاطات الثقافية والتربوية.4 وهكذا، يهدف النهضة الآن، الذي تأسّس أصلاً استناداً إلى أصول إسلامية، إلى طرح نفسه كقوة سياسية مُحافظة قادرة على إدارة الشأن العام، وتحقيق التسويات والحلول الوسط مع الأحزاب العلمانية التونسية. ومع هذا التغيّر، جرى تقليص التشديد على الأسس الدينية والابتعاد عن إيديولوجيا الإسلام السياسي، وتكريس الموارد البشرية والمالية للسياسات الانتخابية. بعبارة أخرى، “التخصص الوظيفي” هو محاولة لتحرير النشاط السياسي من الاعتبارات الدينية، من جهة، وتحرير المواقف والنشاطات الدينية من التلاعب السياسي، من جهة أخرى.

لقد أصرّت قيادة النهضة على أن عملية الانتقال إلى الديمقراطية في تونس، مضافاً إليها المناخات المحلية والإقليمية السياسية المعقّدة، تتطلّب من الحزب التأقلم. بيد أن قرار مؤتمر العام 2016 الخاص بتوجيه الدفة حصرياً نحو العمل السياسي مع مايقتضيه ذلك من تركيز على الرهانات الانتخابية لا يزال يطرح إشكاليات، على رغم أن معظم مندوبي الحزب أقروه. فقد أسفر تقليص التركيز على الإيديولوجيا عن أزمة هوية يُرجّح أن تُواصل فرض تحديات وازنة على الحزب، فيما هو يقوم بإعادة تقييم دور الإسلام كإطار مرجعي، وينبري لتكييف الحزب مع وظيفة المحفّز على التغيير الاجتماعي، والسعي إلى الحفاظ على قاعدة أنصاره الأساسية، في الوقت نفسه الذي ينشط فيه لاجتذاب قاعدة انتخابية أوسع.

على رغم أن قرار التخصّص ينطوي على إعادة هيكلة شاملة، (يتم بموجبها فصل كل النشاطات الدعوية عن الحزب وإحالتها إلى منظمات دينية والمجتمع المدني)، إلا أن هذا الفصل التام لمّا يحدث بعد. وهذا يَشي بمدى الغموض السائد على رغم مرور أكثر من ثلاث سنوات على إصدار القرار المفصلي للنهضة المتعلق بهويته. وبالتالي، الخروج من الإسلام السياسي، في كل مجالاته، ليس بأي حال حصيلة مؤكدة.

بعد عقود أمضتها حركة النهضة كجماعة سياسية محظورة معارضة لنظام الحكم السلطوي لكلٍ من الرئيسين الحبيب بورقيبة وخلفه زين الدين بن علي، تعيّن على الحزب اتخاذ خيارات ظرفية منذ الترخيص الرسمي له العام 2011. وهو تغيّر من حركة معارضة غير مُعترف بها إلى حزب شرعي له سطوة وينافس لاجتذاب الأصوات في مشهد تعددي.

طرح حزب حركة النهضة، بقراره الخاص بالتخصص الوظيفي في العمل السياسي، جانباً الإسلام السياسي كإطار مرجعي كلي، لكنه لايزال يتدارس كيفية المضي قدماً من هذه النقطة إلى الوضعية التي يجب ان يعطيها للإسلام في “مشروعه الجديد لـ”الديمقراطية الإسلامية”. والآن، الكيفية التي سيختار بموجبها النهضة معالجة أزمة الهوية، لن يكون لها تأثير على مستقبل شرعيته الوطنية والدولية الهشّة وحسب، بل هي تنطوي أيضاً على مضاعفات تطال التجربة الديمقراطية التونسية برمتها؛ وهي التجربة التي تسنّم فيها النهضة دوراً ريادياً منذ تبلورها العام 2011.

رحلة النهضة من الدّعوة إلى العمل السياسي

جاء قرار النهضة بالتخصّص الوظيفي تتويجاً لنقاشات داخلية في الحزب حول العلاقة بين العمل السياسي والدعوي، والتي كانت سمة الحزب منذ السبعينيات. كما أن البيئة السياسية العدائية التي انخرط فيها الحزب أثّرت على تحولاته التدريجية. كانت الحركة طيلة العهدين السلطويين والقمعيين في تونس، تضع الأولوية لصراع البقاء، وكانت غير مستعدة للمخاطرة بالتشرذم من خلال الاختيار بين نهج الدعوة وبين العمل السياسي. لكن، بعد ثورة 2011 أضحت الحركة لاعباً سياسياً شرعياً وشاركت في الحكم مع شركاء علمانيين كانوا يشكّون بمدى التزامها بالديمقراطية، الأمر الذي سرّع من ضرورة تسوية هذه المسألة.5

برزت الحركة، التي ستصبح حزب النهضة، أولاً في أوساط القطاعات المُحافظة من المجتمع في حقبة الستينيات، كرد فعل على مخاوف التغريب في تونس مابعد الاستقلال. وبعد أن نالت البلاد استقلالها من فرنسا العام 1956، أطلق أول رئيس لها، الحبيب بورقيبة، عملية تحديث فكّكت الهيئات الدينية التقليدية وهمّشت المؤسسة الدينية. وقد سعى برنامج التحديث هذا ليس فقط إلى مصادرة الأوقاف التي تُستخدم لتمويل المساجد، والمدارس القرآنية، والجمعيات الخيرية، بل أيضاً إلى إصلاح برامج التعليم الدينية في جامع الزيتونة، وهي المؤسسة التعليمية والإسلامية الأولى في تونس.6 كما تم حظر تعدد الزوجات وجرى تبنّي قانون للأحوال الشخصية بمرسوم رئاسي العام 1957 يُعزز حقوق المرأة.7

في أواخر الستينيات، أسّست مجموعة من الشبان، الذين تحدوهم رغبة الدفاع عن الهوية الإسلامية لتونس، “الجماعة الإسلامية” بقيادة راشد الغنوشي وعبد الفتاح مورو وأحميدة النيفر، وباستلهام جزئي من مبادئ مدرسة التبليغ وهي حركة دعوية غير سياسية تركّز على التعليم الديني. بدورها، كانت الجماعة الإسلامية حركة دعوية تعمل على نشر تعليم وممارسة صحيحة للإسلام. وهي سعت إلى إحياء الدين في الحياة العامة من خلال الدعوة في المساجد وعبر الإعلاء من شأن التقوى في السلوك الشخصي، والأخلاق والمعاملات الاجتماعية.8 إضافةً إلى ذلك، رفضت الجماعة كلاً من مشروعي التحديث البورقيبي والنخب الدينية التقليدية في البلاد التي اعتُبرت عتيقة ومُستلحقة من قبل الديكتاتورية. في البداية نشطت الجماعة سراً، ووجد نشطاؤها حليفاً غير متوقّع لمساعدتها على التوسّع هو الجناح الإسلامي في الحزب الحاكم، الحزب الاشتراكي الدستوري.9 هذا الجناح كان يسعى إلى مواجهة اليسار المتطرف ويحبذ أسلمة وتعريب المجتمع التونسي عبر دعم نشاطات الدُعاة الشبان في جمعية الحفاظ على القرآن، وهي هيئة رسمية مرخّص لها أُسّست العام 1967.

لم يكن توسّع الجماعة الإسلامية في أواخر الستينيات والسبعينيات نتيجة لوجود طلب ديني أو روحاني وحسب، بل لعبت أيضاً العوامل الاجتماعية- الاقتصادية دوراً حاسماً في توسيع مدى مقبوليتها. فالحركة الإسلامية كانت جذّابة على وجه الخصوص لأعضاء “الهوامش الاجتماعية الجديدة” الذين برزوا بُعيد الاستقلال.10 وهذا شمل خريجي المؤسسات الدينية والتعليم التقليدي الذين شعروا بالتهديد بسبب برامج التحديث في عهد بورقيبة، والشبان المتحدرين من أصول متواضعة الذين تسنى لهم الحصول على تعليم رسمي مجاني، لكن لم يكن في وسعهم حصد فوائد الترقي الاجتماعي. كلا هاتين المجموعتين تعرضتا إلى التهميش على يد البورجوازية الجديدة المتغرّبة.11علاوةً على ذلك، كان نشطاء الجماعات الإسلامية في المناطق الجنوبية والداخلية، يعارضون القيم الاجتماعية- الثقافية التي تبنّتها النخب العلمانية.12 وبالنسبة إلى هذه القطاعات المهمّشة في المجتمع، أصبح الإسلام أساس حركة دينية-اجتماعية، وفّرت سردية سياسية لتعبئة الجماهير.

في أواخر السبعينيات، ومع تمدّد النشاط الدَعَوي إلى الجامعات من خلال افتتاح مساجد داخلها، بدأ نشطاء الجماعة الإسلامية يحبذون على نحو متزايد تسييس الحركة. هذا التطور يعود في المقام الأول إلى احتكاك النشطاء مع كلٍ من طلاب اليسار والحزب الاشتراكي الدستوري، ولتعرضهم إلى مختلف الإيديولوجيات السياسية بعد أن أصبحت الجامعات أرضاً خصبة للمنافسة الفكرية.13 وقد لعبت الثورة الإيرانية العام 1979 دوراً حاسماً في إلهام قرار الجماعة الإسلامية الخاص بالانخراط في النشاط السياسي.14

ومع تحبيذ طلاب الجامعات في الجماعة الإسلامية تسييس الحركة لمعارضة سياسات بورقيبة العلمانية والسلطوية، تحرّكت القيادة لتبنّي توجّه الطلاب نحو التسييس ومنع الانقسام. وحينها، تبنّت الجماعة إيديولوجيا الإخوان المسلمين التي تطرح الإسلام كنظام سياسي واقتصادي واجتماعي يتجاوز إطار الدين والإيمان ليغطي مناحي حياة الناس كافة.

في العام 1979، غيّرت الجماعة الإسلامية اسمها ليصبح حركة الاتجاه الإسلامي. وهذا دشّن ولادة أول حركة إسلامية تونسية تشجّع كلاً من الدعوة والعمل السياسي في آن. هذه الفترة شهدت أيضاً بروز- ولاحقاً مغادرة- مجموعة من المثقفين داخل حركة الاتجاه الإسلامي تعرف بالإسلاميين التقدّميين. هذا الفصيل الانشقاقي طرح تفسيراً تقدمياً للعقيدة الإسلامية، وحبّذ الدفاع عن هوية تونسية واضحة متمايزة عن توجهات الإخوان المسلمين.15

شهدت حقبة الثمانينيات تطوران بارزان اثنان داخل حركة الاتجاه سيلعبان دوراً حاسماً في التأثير على المسار السياسي لحركة النهضة بعد الثورة التونسية العام 2011: الأول، أن الإسلاميين أبدوا استعداداً للانخراط في التعددية السياسية والتنسيق مع مجموعات المعارضة الأخرى. والثاني، أن النقاشات بدأت داخل الحركة حول العلاقة بين النشاط الاجتماعي الثقافي والدَعَوي وبين العمل السياسي.

وخلال العقد الأخير من عهد بورقيبة، دفع نشطاء حركة الاتجاه مواقفها السياسية والاجتماعية- الاقتصادية نحو التقارب على نحو مطّرد مع المجموعات الأخرى التي تعارض النظام. الدافع وراء هذه الخطوة كانت أساساً المواجهة بين الحكومة وبين الحركة العمالية التونسية، والتي أسفرت عن مئات القتلى خلال الإضرابات العامة في البلاد في الفترة بين 1978 و1984. وفي العام 1981، أعلنت حركة الاتجاه الإسلامي بوضوح أنها تقبل التعددية السياسية وطلبت الترخيص لها رسميا. بيد أن نظام بورقيبة رفض ذلك وشنّ حملة على الحركة أجبرتها على اللجوء إلى العمل السري. لكن، وعلى رغم افتقادها إلى الوضعية القانونية، نجح النشطاء الإسلاميون في التنسيق مع الأحزاب العلمانية المعارضة وانضم العديد منهم إلى هيئات المجتمع المدني مثل الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الانسان والحركات العمالية. وفي العام 1989، شكّل الإسلاميون نحو 20 في المئة من الاتحاد العام التونسي للشغل.16 وهكذا، عكست هذه المرحلة تقبّل الإسلاميين على نحو متزايد للتعددية السياسية وللحاجة إلى التعايش مع الأطراف غير الإسلاموية.

في التسعينيات، وفي خطوة كانت بمثابة استشراف لمستقبل النقاشات حول التخصص الوظيفي، بدأت حركة الاتجاه بتفحّص العلاقة بين النشاط الاجتماعي-الثقافي وبين العمل السياسي داخل الحركة. استهدف النشاط الاجتماعي الثقافي ترسيخ القيم الإسلامية وتأطير المجتمع التونسي من خلال الإرشاد، والتعليم، والنشاطات الثقافية. أما العمل السياسي فهدف إلى بناء صرح مقاومة سياسية قوية لنظام بورقيبة المتداعي. وهذا جسّد نوعاً من الأسلمة من تحت، فيما النشاط السياسي تضمّن الأسلمة من فوق. لكن، وبسبب ضيق أفق البيئة السياسية، بقي هذا النقاش مُعلّقاً في الهواء. ومع ذلك، واصل هذا الغموض حول كيفية دمج سمات كلٍ من الحركة الاجتماعية- الثقافية والحزب السياسي في التأثير على تمخضات التيار الإسلامي التونسي.17

حين أصبح زين العابدين بن علي رئيساً العام 1987، راود قادة حركة الاتجاه أمل بإقامة علاقات أفضل مع النظام الجديد، وقرروا في العام 1988 دفع المشروع السياسي خطوة أخرى إلى الأمام وتغيير اسم المنظمة ليصبح حركة النهضة، بما يتوافق مع قانون الأحزاب السياسية للعام 1988 الذي منع تأسيس أحزاب على أسس إثنية أو دينية. وعلى رغم أن الحركة لم تنل الترخيص الرسمي، إلا أنها شاركت في انتخابات 1989 البرلمانية عبر لوائح مستقلة. وقد اعتُبر النجاح الانتخابي للّوائح الإسلامية، والذي قُدِّر بنحو 15 في المئة من إجمالي الأصوات العامة ووصل إلى 30 في المئة في بعض المناطق، بمثابة تهديد لنظام بن علي، الذي بدأ يرى في الحركة الإسلامية خصمه الرئيس. ولذا، عمدت الحكومة إلى تزوير نتائج الانتخابات وأعلنت انتصار الحزب الحاكم الجديد، التجمع الدستوري الديمقراطي.18

أدّى الانفتاح السياسي قصير الأجل إلى حملة على شبكات حركة النهضة. ففي العام 1990، جرى اعتقال أو تعذيب أو ممارسة خروقات لحقوق الإنسان بحق الآلاف من نشطائها. ونتيجةً لذلك اضطر العديد من أعضاء الحركة إلى الفرار من البلاد، ولجأ معظمهم إلى أوروبا. وفي غياب أي مجال لممارسة الدعوة في ظل عهد بن علي، أصبح الاستثمار في العمل السياسي الخيار الوحيد تقريباُ أمام القادة في المنفى لضمان بقاء الحركة على قيد الحياة. كما سعت النهضة أيضاً إلى التصدي لمحاولات النظام عزلها عن بقية فصائل المعارضة في هذه الفترة، من خلال التفاوض على التقارب مع أحزاب المعارضة العلمانية، عبر تبنيها حقوق الإنسان والسياسات الديمقراطية.19

مع سقوط دكتاتورية بن علي في كانون الثاني/يناير 2011، كانت الأولوية القصوى للنهضة هي إعادة تفعيل شبكاتها القاعدية وهياكلها التنظيمية، تمهيداً لاندفاعة أخرى نحو معمعة السياسة. وهكذا، وبعد 30 سنة من طلبها للمرة الأولى الحصول على ترخيص رسمي، تلقت الحركة هذا الترخيص في آذار/مارس 2011 تحت مسمى “حزب حركة النهضة”،20 وتم افتتاح 2000 مكتب للحزب في طول البلاد وعرضها استعداداً لانتخابات المجلس التأسيسي في تشرين الأول/أكتوبر 2011.21 وقد التقى النشطاء العائدون- على رأسهم الغنوشي- بأعضاء وقواعد الحركة المُضطهدين الذين بقوا في تونس وعانوا ألوان القمع العنيف. ووصف بعض مسؤولي النهضة هذه اللقاءات بأنها كانت إعادة وصل ما انقطع بين “الرأس” المنفي والمسجون وبين “الجسد” المُضّطهد أو المُحاصر.22 بيد أن عملية إعادة بناء الحركة هذه لم تسِر من دون تحديات، خاصة في ضوء السياقات السياسية الحادة لعملية الانتقال إلى الديمقراطية في تونس.

نجح حزب النهضة في تبوؤ المركز الأول في انتخابات 2011 حاصداً 37 في المئة من الأصوات. و تحالف مع حزبين علمانيين إثنين هما التكتل والمؤتمر من أجل الجمهورية، لقيادة ما أصبح يعُرف بحكومة الترويكا بين 2011 و2013. وفي الوقت نفسه، أُعيد فتح النقاشات في 2011 حول العمل السياسي في مقابل النشاط الدَعَوي. وكانت مسألة التخصص في العمل السياسي قد أُثيرت للمرة الأولى في العقد الأول من القرن الحالي، لكن يد القمع الثقيلة لديكتاتورية بن علي والانقسامات التي اعترت الحركة بين المنفيين وبين من بقي في البلاد منع التعمّق في هذه المسألة الحسّاسة.

خلال مؤتمر النهضة التاسع في العام 2012- وهو الأول الذي نُظِّم في تونس منذ العام 1990- برزت بجلاء وعلناً الخلافات الإيديولوجية بين الأعضاء، وانقسمت الحركة إلى معسكرين: المتشددون الذين يريدون أن تكون الشريعة أساس التشريع في الدستور التونسي الذي سيلي، والبراغماتيون الذين طالبوا بمقاربة أكثر مرونة.23 لكن، وفي خضم هذا الانقسام، طغت التوقعات العالية للقواعد الشعبية حول تحقيق أهداف انتفاضة 2011 (خاصة منها مكافحة الفساد وتطهير المشهد السياسي) على اهتمامات كلٍ من المتشددين والبراغماتيين معا. ومع وجود قيادة حريصة على خروج المؤتمر بمظهر الوحدة، لم تُتخذ قرارات رئيسة سواء حول التخصص أو موقف الحزب من دور الشريعة في الدستور.24

لم تترك المشاركة في الاستحقاقات الانتخابية بصماتها على إيديولوجيا الحركة وحسب، بل كانت لها أيضاً تأثيراتها على التموضع السياسي للحزب. فحين أصبح النهضة حزباً حاكماً في تونس في العام 2011، أُجبر على إدارة الشؤون الوطنية كجزء من ائتلاف حاكم. وهذا عنى أنه يجب على الحزب التفاوض حول قضايا شائكة تتعلّق بطبيعة الديمقراطية الوليدة في البلاد مع شركائه العلمانيين في الائتلاف، وكذلك دعم التوافقات والتسويات والحلول الوسط.

وخلال العام 2013، تفاقم الاستقطاب داخل النهضة، وفي تونس عموماً، ما أشعل إوار أزمة في التجربة الديمقراطية الوليدة في البلاد. وفي تموز/يوليو، نزلت المعارضة اليسارية إلى الشارع وهدّدت بالانسحاب من المجلس الوطني التأسيسي وعرقلة صياغة الدستور. اندلعت هذه الاحتجاجات رداً على الاغتيال السياسي لاثنين من قادة اليسار، شكري بلعيد ومحمد براهمي، في شباط/فبراير وتموز/يوليو 2013 على التوالي، وعلى تصاعد هجمات السلفيين المُتشددين ضد قوات الأمن ومؤسسات الدولة. وفي هذه الأثناء، في 3 تموز/يوليو، أُطيح بالحكومة التي ترأستها جماعة الإخوان المسلمين في مصر في انقلاب عسكري أنهى عهد اللحظة الديمقراطية في البلاد.25 وحينها أدرك حزب النهضة أن عليه التخلي عن بعض المواقف الإيديولوجية للحفاظ على المسيرة الديمقراطية وحماية نفسه من مصير مماثل لزملائه الإسلاميين في مصر. وهكذا، بدأ الحزب بإبرام التسويات مع ممثلي النظام القديم في وقت لاحق من ذلك العام، خلال حوار وطني لم يسبق له مثيل في تونس.

الحوار الوطني: لحظة البراغماتية وسياسة المقايضات

بالنسبة إلى قادة النهضة، جاء قرار الابعاد النسبي للحركة عن مبادئها الإيديولوجية بحفزٍ من البراغماتية وحسابات المقايضات السياسية. والحال أنه تعيّن على كل من العلمانيين والإسلاميين تقديم التنازلات لضمان وتعزيز مشاركتهم في العملية الديمقراطية التونسية. وقد أتى الوفاق حول دستور 2014 كحصيلة للحوار الوطني بين الإسلاميين والعلمانيين، بما في ذلك ممثلي النظام السابق، ولعبت أربع منظمات مجتمع مدني أُطلق عليها اسم “الرباعية” (لجنة الحوار الوطني التونسي) دوراً مهماً في دفع الأطراف إلى التوافق عبر الوساطة بينها.

تضمّن الحوار الوطني ثلاث مسارات متكاملة، حصيلة كل منها كانت أساسية لنجاح عملية المصالحة الوطنية برمتها ومعها إدارة الأزمات: المسار الدستوري فيها سعى إلى بلورة تسويات حول قضايا مثل التكفير، ودور الشريعة كمصدر للتشريع، والمساواة بين الرجل والمرأة، وحرية المعتقد والضمير. كانت تنازلات الإسلاميين حيال هذه القضايا أساسية لإنجاز الدستور في 14 كانون الثاني/يناير 2014 وللانتقال إلى المسار الحكومي الذي جرى التفاوض فيه حول تركيبة الحكومة الجديدة المنوط بها حكم البلاد، إلى حين إجراء الانتخابات الرئاسية والبرلمانية في تشرين الأول/أكتوبر وتشرين الثاني/نوفمبر 2014 على التوالي. وقد تُوِّجَ هذا المسار باستقالة متُفّق عليها للحكومة التي يقودها النهضة برئاسة علي العريض، وحلّت مكانها حكومة تكنوقراط مستقلة. أما المسار الانتخابي فكان مسؤولاً عن تطوير الآليات الخاصة بانتخاب أعضاء الهينة العليا المستقلة للانتخابات التي ستنظّم الانتخابات المقبلة.

أسفر الدستور التونسي الجديد الذي أُقرّ في كانون الثاني/يناير 2014 عن تسوية النزاعات بين العلمانيين والإسلاميين حول طبيعة الدولة. وهو اعترف بالإسلام كمَعلمْ هوية أساسي للشعب التونسي، لكن النهضة تخلى عن اقتراحه جعل الشريعة مصدراً للتشريع في أعقاب الاحتجاجات الواسعة التي نظّمتها القوى العلمانية وممثلي المجتمع المدني. كما جرى إسقاط التجريم في الاتهامات الدينية مثل التكفير، ولم يُذكر واجب الدولة في “حماية المقدس” سوى على نحو خاطف.26 لم يكن من السهل على النهضة تقديم مثل هذه التنازلات، وتعيّن على القيادة تنظيم ورش عمل واجتماعات مع العناصر الأكثر تشدّداً في الحزب لإقناعهم بأن مطالبهم العقدية غير مُمكنة في السياقات الوطنية والإقليمية الراهنة.

لعبت الضغوط المحلية والدولية على حد سواء دوراً رئيساً في تعزيز نفوذ قادة النهضة الأكثر براغماتية، الذين حبّذوا التسويات والحلول الوسط. على سبيل المثال، فيما جادل المتشددون في الحركة بضرورة إقصاء ممثلي النظام السابق عن العمل السياسي، دعت حلقة القيادة الأضيق المحيطة بالغنوشي إلى شكل عملي من المصالحة الوطنية، خاصة مع نداء تونس، وهو حزب جديد تشكّل من ائتلاف ضمّ البورقيبيين والعلمانيين واليساريين.27 علاوةً على ذلك، أدّى التدهور السريع في البيئة الإقليمية في أعقاب الانقلاب المصري في تموز/يوليو 2013 إلى توطيد وجهة نظر البراغماتيين القائلة بأنه من الضروري إبرام السلام مع مسؤولي النظام السابق وتجنّب عدم الاستقرار في البلاد.28

كانت اليد العليا في خاتمة المطاف لدعوات الوفاق، وقدّم النهضة تنازلاً سياسياً كبيراً حين صوّت ضد استبعاد ممثلي ومسؤولي نظام بن علي.29 مثل هذه التسوية وغيرها ساعدت على تحديد الحوار الوطني بكونه لحظة أساسية للسياسات البراغماتية. وتعتقد قيادة النهضة أنه لا غنى عن تنازلاتها أمس واليوم للحفاظ على التجربة الديمقراطية التونسية، ففي نهاية المطاف ضَمَنَ الدستور وجود “دولة محايدة لاهي إسلامية ولا علمانية”، بل حامية لحرية الرأي والمعتقد والدين”.30

بالنسبة إلى قيادة الحزب، حقّق تأكيد الحرية الدينية والهوية الإسلامية في تونس المهمة التاريخية للنهضة في مجال إعادة بناء المجتمع وفقاً للمبادئ المستوحاة من الإسلام. وبعد أن غابت فكرة أسلمة المجتمع، استخدم النهضة مؤتمره العاشر العام 2016 لتكييف هويته مع حقائق الدستور الجديد. خلال هذا المؤتمر، حَسَمَ الأعضاء أخيراً النقاشات الداخلية المتواصلة حول الدعوة في مقابل السياسة، واتخذوا قراراً بالتخصص حصرياُ في المجال السياسي. ولتبرير هذا القرار الجلل، طرحت القيادة مسألة وضع العمل الدعوي جانباً بكون ذلك محصلة طبيعية لالتزامها بمبادئ الدستور الجديد والديمقراطية التونسية.31

بالطبع، التساؤل حول ما إذا كان هذا التحوّل الإيديولوجي في النهضة مجرد تكتيك أم استراتيجية، أمر مشروع. فالنهضة أظهر نزعة براغماتية وقدرة على المناورة بشكل انتهازي، كما حدث حين أُجبر على التأقلم مع القيود والضغوط التي مارسها نظراؤه العلمانيون والمجتمع الدولي خلال العام 2013. بيد أن قيادة الحزب تكيّفت مع القواعد الجديدة للّعبة التي ساهمت هي في وضعها. وبقيامها بذلك، حوّلت قيداً خارجياً إلى دافع لتغيير إيديولوجية الحزب وهويته. وهكذا، يُعتبر التخصّص الوظيفي قراراً استراتيجياً بفعل دوره في دفع إيديولوجية حزب النهضة قدماً نحو السعي لاستقطاب أعضاء جدد وحصد الاعتراف المحلي والدولي.

والواقع أن قرار التخصّص، بالمقارنة مع القيام ببساطة بفصل فرعي الدعوة والعمل السياسي كما فعلت الحركتان الإسلاميتان في المغرب والأردن، يعكس التزام النهضة بالمسار السياسي على حساب النشاط الديني.32 فالحركات الإسلامية التي تدمج بين الإرشاد وبين العمل السياسي في بوتقة تنظيمية واحدة غالباً ما تتعرّض إلى إغراء اتخاذ مواقف غامضة، خوفاً من تقويض مصداقيتها إما مع أنصارها الدينيين أو مع قواعدها السياسية.33 والنهضة، بإدراكه مخاطر انتهاج أجندتين متعارضتين في آن، أنخرط في عملية تحويلية هدفت إلى التطوّر في اتجاه ليبرالي، ووضع حد للغموض حول ما إذا كانت قراراته ترقص على إيقاع السياسة أو الدين.

ثُمّ: يستهدف تبنّي النهضة للتخصّص كذلك اجتذاب طرف آخر مُتردد هم شركاء النهضة الدوليين. فالعديد من النقاشات حول الإسلام السياسي في الأوساط السياسية الغربية، تُركّز على ما إذا كانت الحركات الإسلامية مُلتزمة أم لا بالديمقراطية.34 ويقول مسؤول في حزب النهضة، في معرض اعترافه بتفضيل الشركاء الدوليين المُفترض للعلمانيين: “النهضة ليس لاعباً جيو-سياسياً مناسباً. وتونس بلد منفتح، فيما النهضة لاعب سياسي انطوائي”.35 إضافة إلى ذلك، ليس ثمة شك في أن البيئة الإقليمية المُضطربة ونفور بعض دول الخليج العنيف من الإسلام السياسي، ساهما في قرار النهضة بأن يصبح لاعباً سياسياً “طبيعيا”. لكن، وفيما قرار التخلّي عن الإسلام السياسي والتركيز حصرياً على السياسة الانتخابية والتنافس السياسي ساعدا النهضة على معالجة مختلف الضغوط المحلية والدولية، إلا أن التخصّص أجبر الحزب أيضاً على مواجهة مروحة أخرى من المسائل حول طبيعته المستقبلية وتوجهاته.

محصلات محفوفة بالمخاطر للتخصّص الوظيفي

أفرز التخصّص تحديات جمّة للنهضة، أولها الحاجة إلى إعادة تقييم الإسلام كأساس لشرعية الحزب وكإطار مرجعي جوهري. وثانيها أن القرار طبّع كون الحزب قوة دافعة للتغيير الاجتماعي. وثالثها الحاجة إلى تطوير استراتيجية للحفاظ على النواة الصلبة لأنصار النهضة، وفي الوقت نفسه اجتذاب قواعد انتخابية أوسع. هذه التحديات لم تتطلّب إعادة سبك إيديولوجي وحسب بل أيضاً مراجعة علاقات الحزب مع المجال الديني والقواعد الانتخابية الشعبية الأوسع. إعادة التقييم هذه كانت مسألة حاسمة، لأن النهضة بدأ يفقد شطراً من أنصاره الأساسيين (أساساً الإسلاميين)، فيما هو يجهد لاجتذاب ناخبين مُحافظين غير إسلاميين. ويشي التباين بين القاعدة الانتخابية الراهنة للنهضة وبين الناخبين الذين ترغب الحركة بالحصول على تأييدهم بأنه يتعيّن على الحزب أن يغادر المجال الديني المحدود ويتوسّع إلى مجالات أخرى.

كانت استراتيجية التخصّص خطوة حيوية ومنطقية على درب تحقيق مسعى كان النهضة يرومه منذ عقود طويلة، وهو نيل حظوة الاعتراف والمقبولية. وكما قال أحد قياديي الحزب: “منذ تأسيس الحركة الإسلامية العام 1981 كنا ننتظر للحصول على الاعتراف القانوني، لكننا لم نحصل على التأشيرة القانونية للحركة إلا بعد ثورة 2011. فلمدة 30 عاماً كنا مواطنين من الدرجة الثانية، وهذا زرع عوائق بيننا وبين المجتمع”.36 بيد أن جذور النهضة في تربة الإسلام السياسي جعلت الحزب طرفاً ناشزاً في المجتمع التونسي، وكان من الصعب لدى العديد من الناس قبول فكرة أن النهضة “فاعل سياسي طبيعي”.37

لكن، حتى بعد أن انتقل النهضة رسمياً من صفوف المعارضة إلى سدة الحكم وأدار ظهره للدعوة لصالح السياسة، بقيت تحولاته الاستراتيجية حذِرة. فالقيادة قررت ألا تغيّر اسم الحزب خلال المؤتمر العام سنة 2016، واحتفظت باسم حزب حركة النهضة (أو ببساطة حركة النهضة). ومن المثير للاهتمام أن البيان الذي أعلن التخصّص والذي حمل العنوان: “إدارة المشروع: التخصّص كخيار استراتيجي”، لم يحدد بدقة ماهية هذا المشروع الجديد.38 ثم أن تركيز النهضة الراهن على التنافس الانتخابي وممارسة الحكم، عنى إضفاء النزعة الاحترافية على الحزب بوصفها هدفاً في حد ذاته. وهذا يمكن أن يُخاطر بتفكيك شطر من قاعدة دعمه الأساسية ووضع حد للحركة الثقافية الاجتماعية التي مثّلتها النهضة تاريخياً في تونس. ويُرجّح، بالتالي، أن يكون لأزمة الهوية الحالية في النهضة مضاعفات مهمة، خاصة إذا مافشل التوجّه الجديد للحزب في إثبات وجوده في أوساط المجتمع التونسي.

مراجعة موقع الإسلام والعلاقات مع المجال الديني

يُواجه النهضة، بهجره الإسلام السياسي، معضلة قديمة لطالما تخبّط في لُججها الإسلاميون في المجتمعات التعددية وهي: كيف يمكن أن يشكّل الإسلام قاعدة الشرعية السياسية ويخدم كإطار مرجعي جوهري في مشهد ديمقراطي؟39 لقد أعادت التسويات السياسية التي أبرمها النهضة على مر السنين تشكيل علاقته بالقاعدة الدينية للحزب وحفزته على إعادة النظر بإيديولوجيته بهدف تخفيف الهوية الدينية الفاقعة. وهذه مسألة معقّدة للحزب، لأن التسويات مع العلمانيين حول قضايا أساسية مثل دستور 2014 لم تساهم في الإغلاق نهائياً على ملف المعارك حول الهوية في تونس.

ولذا، يخاطر النهضة الآن بالوقوع في لجج العزلة السياسية والعودة إلى وضعية المعارضة، إذا ما انحاز إلى طرف دون الآخر في النقاشات المثيرة للاستقطاب السياسي. على سبيل المثال، امتنع النهضة عن اتخاذ موقف رسمي من قضايا الهوية والمسائل القانونية المشحونة إيديولوجياً، على غرار المساواة في الميراث بين المرأة والرجل، من جهة مخافة تعريض الوفاق الُمقر مع الأحزاب العلمانية إلى الخطر، ومن جهة أخرى خشية تنفير قواعد دعمه المُحافظة.40 مثل هذا الموقف الحذر أدى إلى إصدار تصريحات متناقضة من ممثلي الحزب، حيث دافع بعضهم عن القيم التقليدية، فيما حثّ آخرون الحزب على “التخلّي عن احتكار حماية الإسلام”.41هذه التباينات داخل النهضة تعكس إدراك قيادة الحزب لطبيعة التمخضات التي تشهدها المعتقدات والديناميكيات الدينية في تونس، كما أنها تُثبت في الوقت نفسه الصعوبات التي يواجهها الحزب وهو يمخر عباب هذه المياه الغامضة.

والحال أنه يتعيّن على النهضة أن يبلور هوية جديدة تتّسق مع الأشكال الجديدة للتديّن (التي تحظى بشعبية الآن في البلاد). فخلال السنوات التي سبقت الانتفاضات العربية العام 2011، تبنّى رجال الدين السلفيون المقيمون في دول الخليج والدعاة من المشرق العربي أسلوباً مشابهاً لذلك الذي ينتهجه المبشرون الإنجيليون الأميركيون في أجهزة التلفزة، ونجحوا فيه في استقطاب انتباه التونسيين على التلفزيون ووسائط التواصل الاجتماعي من خلال طرح قضايا التقوة، والقيم الأخلاقية، والنجاح الشخصي.42هذا التحوّل في مسألة التديّن نحو الفردانية والقيم الأخلاقية أضعف جاذبية الحركات الإسلامية التقليدية التي تحبّذ أسلمة المجتمع من خلال دمج قضية الدعوة بالعمل السياسي، وهو موقف يعتبره الجيل الأصغر دوغمائياً وجامدا.43 ومما ساعد هذا التحوّل أيضاً قمع النهضة في عهد بن علي، حيث أنه لم يكن في مقدور الحركة بلورة بديل ديني.

مع ذلك، وحتى بعد الترخيص له العام 2011، لم يستطع النهضة ابتكار موقف ديني حقيقي يتأقلم مع أهواء الناخبين التونسيين، خاصة منهم الشبان. ووفقاً لخبير باستطلاعات الرأي، انتخب 20 في المئة فقط من الناخبين الجدد (تتراوح أعمارهم بين 18 سنة وما فوق) مرشحي الحزب العام 2014.44 وهذا يعني أن معظم ناخبي النهضة مُتقدّمون بالسن، وأن الشيخوخة تقترب بشكل حثيث من القاعدة الانتخابية للحزب.

هذا الموقف المتقلقل للنهضة في الدائرة الدينية، يعني أن التحرّك نحو مركز الطيف السياسي أمر لا فكاك منه. فأنماط الاقتراع تشير إلى أن الحركة لا تستطيع أن تبني استراتيجيتها السياسية والانتخابية على أساس ديني حصراً. صحيح أن التونسيين الأتقياء مُهمّون للحزب، لكن يبدو أن هؤلاء الناس باتوا يميلون على نحو مطّرد إلى التمييز بين السياسات وبين المعتقدات الدينية، ومعظمهم يتطلّع قُدُماً إلى حرية ممارسة العقيدة الدينية وليس الانتماء إلى الأشكال المؤدلجة للإسلام. إضافة إلى ذلك، أسفرت حرية المعتقد التي تضمّنها الديمقراطية عن تقليص الحاجة إلى الانخراط السياسي على أساس ديني. وهذا التحوّل واضح في صفوف قواعد النهضة. فوفقاً لدراسات أجراها المعهد الجمهوري، الذي يتّخذ من واشنطن العاصمة مقراً له، هبط معدل تأييد أنصار النهضة لفكرة منح الإسلام دوراً بارزاً في الحكم من 84 في المئة في العام 2014 إلى 62 في المئة في العام 2017. كما أن الاعتقاد بأن الدين يجب أن يكون له دور في العمل السياسي، هبط بين ناخبي النهضة بمعدل حتى أعلى من أوساط الرأي العام التونسي ككل، ما يشير إلى أن الميول الإيديولوجية لناخبي الحركة كانت تحذو حذو التحوّل في التوجهات السياسية والدعوية للحزب ولم تكن سببا لها.45

في الوقت نفسه، لايريد معظم ناخبي النهضة التخلّي عن الإسلام وعن هويتهم الإسلامية. لكن، بدلاً من الدفاع بقوة عن المبادئ الإسلامية والشريعة، يبدو أنهم يعتبرون الإسلام إطاراً للمرجعية. وهذا الوضع لخّصه أحد قادة النهضة بقوله: “غالبية ناخبي النهضة أناس مُلتزمون دينياً وبعضهم سلفي بالطبع. ونحن نقّدر أن 10 في المئة فقط من السلفيين صوّتوا لنا، كما أن نسبتهم تتراجع بفعل الخيارات البراغماتية التي تتخذها الحركة منذ العام 2014. لكن، من الواضح أن العديد من الناس المحافظين لا يصوتون لنا، فهم يعتبرون حزب النهضة مغلقاً كثيراً وجامداً كثيراً. ثلث الناخبين المحافظين فقط يصوتون لنا، وهذه مشكلة كبرى لنا”.46

مثل هذه الملاحظات تشي بأن النهضة يحتاج إلى الانخراط مع قاعدة انتخابية أوسع. وهذا يعني مخاطبة أناس يرتبطون بالإسلام كهوية، حتى ولو لم يكن الدين هو المعيار الذي يُحدد وجهة اقتراعهم. وبالتالي، تنطوي حتماً عملية جذب هؤلاء على إعادة صياغة دور الإسلام داخل إطار إيديولوجي جديد ومفصّل.

تبدو مسألة التخصّص بالسياسة بالنسبة إلى مراقبين آخرين بمثابة إشكالية. وكما لاحظ خبير سياسي تونسي “يبدو أن النهضة حريص على التخلي عن الدين تدريجيا. هذا قد يكون أمراً طيّباً له، على الصعيد السياسي، لكنه قد يؤدي إلى عكس النتائج المرجوة. وربما سيكون الوضع أفضل بكثير لكلٍ من البلاد والنهضة لو أن هذه الأخيرة تعهّدت إصلاح الاجتهاد الديني ودفعه نحو فهم أكثر ابتكاراً وحداثة. يمكن للنهضة أن يهجر الإسلام السياسي، بيد أن هذا النمط من الإسلام باقٍ ولايزال مهمّاً للكثير من التونسيين”.47

وهكذا، يواجه النهضة خياراً صعبا: فالخروج من الإسلام السياسي قد يخلق فراغاً يفيد مجموعات أكثر أصولية أو حركات سلفية.48 بيد أن الحفاظ على الإسلام كمَعْلم رئيس للهوية من دون طرح إيديولوجيا جديدة مفصلية تربط بين الدين والسياسة وتُترجم القيم الإسلامية إلى سياسات محدّدة على الصعد الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، سيفشل على الأرجح في إرضاء الأنصار القدماء والجدد معا.49

فمستقبل النهضة سيعتمد على كيفية إعادة تحديد دور الإسلام بهدف تجاوز الإيديولوجيا وسياسات الهوية. بكلمات أخرى، التحدي يكمن في التحوّل من الإسلاموية الكلاسيكية (التي تُشدّد على الدين كمصدر للتشريع ومرجعية للسلوك في المجتمع، وإطار للحكومة الرشيدة) إلى نزعة محافظة أكثر شمولية. وفي الوقت نفسه، يُعتبر توجّه النهضة نحو سياسات الهوية ويمين الوسط بمثابة مخاطرة تُهدد بإحداث صدع مع القواعد الدينية المتدينة ومعها الشخصيات والمنظمات الدينية. فهذه الأطراف على وجه الخصوص قد ترفض البراغماتية السياسية التي يمارسها الحزب (والواضحة في قرارات النهضة حول التخلي عن الدعوة، واسقاط مطلب الشريعة كمصدر للتشريع، والالتزام بهدف الدولة المدنية)، بكونها هجراناً لكلٍ من القيم الدينية التقليدية للحركة ولأنصارها.

القضية، إذا، بالنسبة إلى النهضة هي بلورة رؤية مُحافظة وبرنامج يمنح الإسلام مكاناً بارزاً في خطابها واهتماماتها، على ألا يفرض ذلك تحدياً للقواعد الرئيسة للنظام السياسي. مثلاً، يمكن للنهضة أن تدفع باتجاه نظام تعليمي ذي توجّه إسلامي أكثر، أو إلى منع الكحول في الفنادق والمسابح التي ترتادها شرائح محافظة، أو الدفاع عن وجود غرف للصلاة في الفنادق، أو أن ترعى الحركة سياسة خارجية تتمحور حول تعزيز العلاقات مع البلدان الإسلامية.50 بيد أن هذه المواقف في مجال السياسة العامة يجب أن تُصاغ في إطار المؤسسات الديمقراطية بحيث لا تتحدى حرية المعتقد والضمير، واحترام حقوق الإنسان التي التزم بها النهضة في الدستور التونسي.

التخلّي عن طموحات التغيير الاجتماعي- الاقتصادي

يشعر قطاع من قواعد النهضة بالامتعاض، ليس من التقليص المتدرج للمجالات العقائدية في نشاطات الحزب وحسب، بل أيضاً بسبب الحقيقة بأن هذا الأخير فشل في أن يكون القوة الدافعة إلى التغيير السياسي والاقتصادي والاجتماعي حين كان في الحكومة.51 ويتبيّن الآن أن تهميش الموقف التاريخي للنهضة بوصفه أحد المطالبين تاريخياً بالإصلاح الاجتماعي- الاقتصادي، يُلحق ضرراً فادحاً بشرعية الحزب. فبعد أن تخلى عن الإيديولوجيا الإسلامية، لم يعد في وسع الحزب كذلك استخدام المسألة الاقتصادية. ثم أن الانتظام في أجندة الحكومة، عنى أن الخيارات السياسية للنهضة لم يعد بالإمكان تمييزها عن تلك التي يتبناها ممثلو النظام القديم.52 بتعابير أوضح: الحزب غير قادر على اجتذاب ناخبين جدد يطالبون بدعم أكبر من الدولة لنضالاتهم الاجتماعية- الاقتصادية. ولذا، فإن تحرّك الحزب نحو وسط الطيف السياسي، يثير مسألة ما إذا كان التوسّع أو حتى الحفاظ على قاعدته الانتخابية يُعزز أم لا دوره كقوة تغيير في تونس المعاصرة.

علاوة على ذلك، كان النهضة عاجزاً عن تنفيذ الإصلاحات. فعلى رغم أنه ترأّس حفنة من الوزارات منذ العام 2014، إلا أن الحزب لم يكن له سوى تأثير هامشي على عملية صنع القرار. مَرَدُ هذا العجز لايكمن فقط بكونه شريكاً صغيراً في ائتلاف حاكم منذ 2014، إذ أن الحزب قاد الحكومات في الفترة بين 2011 و2013، لكنه لم يستطع الدفع قدماً لتحقيق إصلاحات جسورة. وقد اتفق أعضاء النهضة عموماً على أن الاستقالة من الحكومة في العام 2013 والتحالف مع حزب نداء تونس بعد انتخابات 2014، كان خطوة أساسية لحماية الحركة والتجربة الديمقراطية التونسية خلال مرحلة كانت على وجه الخصوص غير ملائمة للإسلام السياسي. لكن التوترات في الحزب طفت على السطح حيال عدم قدرته على الدفع نحو تحقيق تغييرات ملموسة، سواء في مجال الإصلاحات الاجتماعية- الاقتصادية أو في جهود مكافحة الفساد.53

أضف إلى كل ذلك أن النكسات في عملية العدالة الانتقالية فاقمت خيبة الأمل لدى أعضاء الحركة الذين كانوا ضحايا نظامي بورقيبة وبن علي. وجاء فشل البرلمان في تشكيل المحكمة الدستورية التي طال انتظارها ليُعزز المخاوف من أن عملية الانتقال إلى الديمقراطية في تونس لاتزال موضع شك، او حتى أنها ربما تنتكس، وأنها لا توفّر ضمانات أساسية ضد مخاطر عودة السلطوية أو السيناريوهات شبه السلطوية.54 مثل هذه المخاطر زادت الضغوط على قادة النهضة الذين اختاروا التخصّص، خاصة وأنه من غير المحتمل أن تدعم قواعد الحزب توافقات تفشل في ضمان بقاء الحركة، وتفشل في حماية أمن أعضائها، أو تعزيز الحريات.55

لقد فَقَدَ حزب النهضة قدرته على الدفاع عن برنامج لمكافحة الفساد بسبب تحالفاته في الحكم مع ممثلي النظام الأسبق الذين هم رموز الفساد والمحسوبيات في البلاد. وهذا التطوّر سيبدو مذهلاً حين نتذكّر أنه لعقود عدة كانت الحركة تهدف إلى تمثيل الاحتجاج الاجتماعي والسياسي وتعبئة المُضطّهَدين. فخلال الثمانينيات، تطلّعت النهضة إلى الأحزاب اليسارية لتستلهم منها، لا بل تبنّى العديد من قادة النهضة النشاط السياسي على إثر احتكاكهم مع المجموعات اليسارية حين كانوا في الجامعة. وعلى عكس العديد من الحركات الإسلامية في العالم الإسلامي التي تميل إلى اليمين الوسط في الشؤون الاقتصادية، كانت النهضة تعتبر أن التقدميين واليساريين جديرون بأن ينسج المرء على منوالهم وأن يستقي منهم إيديولوجيتهم وتجاربهم التنظيمية.56

في حين كانت حركة النهضة مستعدة لإبرام التسويات بهدف ضمان موقعها في عملية ديمقراطية غامضة وبيئة إقليمية غير مستقرة، كان ممثلو النظام السابق يستخدمون الوفاق لتحييد حركة الاحتجاج وتدجين الغضب الاجتماعي حتى وهم يُحكمون قبضتهم على السلطة. مثل هذا “الوفاق العفِن” يوضح أسباب كلٍ من الخطوات الوئيدة لعملية الانتقال والاستقرار الهش الذي عاشته تونس.57 وقد أدى تحييد الهدف التاريخي للنهضة في إحداث التغيير الاجتماعي- الاقتصادي إلى تنفير جزء من قواعدها وزاد من خيبة الأمل في أوساط الشعب التونسي، وأسبغ مصداقية على الفكرة بأن كل السياسيين هم من طينة واحدة “ولا يرغبون سوى باقتسام الكعكة بين بعضهم البعض”.58

حظي الاعتقاد بأنه قد جرى استلحاق النهضة من قِبَل النخب التقليدية في البلاد وأنها وضعت نفسها في خدمة الأمر الواقع، مقابل رغبتها في الحصول على مزيدٍ من القبول في أوساط الطبقتين الدنيا والوسطى. فعلى رغم نفوذها في البرلمان، إلا أن النهضة لم تعمل على تحقيق الإصلاحات المالية والزراعية الضرورية، بسبب عدم استعدادها لاستعداء القوى الاجتماعية والاقتصادية النافذة.59 المثل الفاقع هنا عن التقاطع المتنامي للحزب مع هذه النخب برز العام 2015 حين صوّت نواب الحركة لتقليص الضرائب على المشروبات الكحولية المستوردة. وقد أثارت هذه الخطوة الهزء والسخرية، إذ لا العدالة الاجتماعية ولا القيم الدينية للحزب تبرّران هكذا قرار.

إلى ذلك، دعم النهضة إصلاحات أوصى بها صندوق النقد الدولي وكانت على طرفي نقيض مع المصالح الاقتصادية لكلٍ من قاعدة الحركة وناخبي الطبقة الوسطى الذين كان الحزب يسعى لاجتذابهم. وقد شملت الإجراءات التي تم اتخاذها تجميد التوظيف في القطاع العام، وخفض دعم الوقود، ورفع أسعار الكهرباء والبنزين.60 هذا التحوّل نحو النيو ليبرالية والنخب ذات الامتيازات وضعت النهضة في حالة من الحيرة عكسها على نحو جلي أحد قادتها حين قال:” وقعنا في فخ، وها نحن ننسى الناس الذين لطالما دعمونا، ونخدم الناس الذي لطالما رفضونا. ومن سخرية القدر أن هذا يجعلني أفكّر بأغنية المطرب المصري محمد عبد الوهاب: “بفكّر في اللّي ناسيني، وبنسى إللّي فاكرني”.61

إن فشل النهضة في دعم وتنفيذ الإصلاحات الاجتماعية- الاقتصادية يعود جزئياً إلى عجزه عن إعادة صياغة خطوط الصراع السياسي وتجاوز مسألة الهوية. فلأن هدفه هو تطبيع صورته بين النخب الاجتماعية والاقتصادية، ولأنه يتعطّش بقوة للحصول على الاعتراف الوطني والدولي به، فقد امتنع عن إضفاء الطابع السياسي على اللامساواة الاقتصادية والجهوية أو عن تبني الصراعات الاجتماعية. العكس كان صحيحا، حيث عمل الحزب على التخفيف من حدة الصراعات الاجتماعية، بأمل استرضاء مختلف المجموعات المجتمعية والمصالح المتضاربة.

بيد أن الحزب كان لايزال قادراً، بسبب قاعدته التقليدية، على أن يكون ممثلاً ملائماً للجهات والمناطق المحرومة والطبقات الدنيا والوسطى، كما دلّت على ذلك نتائج الانتخابات منذ 2011.62 والواقع أنه طيلة السنوات الثماني الماضية أبلى الحزب بلاء حسناً في الانتخابات البلدية والوطنية. ففي انتخابات 2011 للجمعية الوطنية التأسيسية، حصد النهضة غالبية الأصوات. وفي الانتخابات البرلمانية للعام 2014 حلّ النهضة ثانيا ونال 7، 27 بالمئة من الأصوات. وفي الانتخابات البلدية العام 2018 جاء النهضة ثانياً خلف لوائح مستقلة لكن قبل أحزاب سياسية أخرى ونال 28،6 بالمئة من الأصوات. بيد أن هذه الأرقام توضح أيضاً بأن قاعدة النهضة الانتخابية في حال تقلّص، وهذه الظاهرة ليست قصراً على الحركة بل هي تعكس مزاجاً وطنياً ساخطاً على الأحزاب السياسية. ولذا، فإن تحالف النهضة مع مسؤولي النظام السابق- ورضوخه لسياساتها- لايعيق توسيع القاعدة الانتخابية للحزب فقط، بل يهددان كذلك بإثباط شطر كبير من قاعدة دعمه التي تشعر أن استراتيجيته السياسية لم تحصد النتائج المرجوة لا الاقتصادية ولا حتى الرمزية.

تتطلّب الظروف الاجتماعية- الاقتصادية في تونس من النهضة اعادة تعريف موقعه الراهن وتطوير رؤية استراتيجية اقتصادية وسياسية تتجاوز الحسابات والمناورات السياسية قصيرة الأمد الهادفة إلى ضمان بقاء الحركة أو مشاركتها في عملية تقاسم السلطة.63 لكن هذا قد يكون صعب المنال بالنسبة إلى النهضة بسبب نفور الشعب وخيبة الأمل العامة من الديمقراطية التمثيلية التي عجزت عن تحقيق تقدّم ملموس على الجبهات الاجتماعية والاقتصادية.

التطلّع إلى قاعدة انتخابية أوسع

أدرك النهضة أن الأسلمة ليست هي الحل للتحديات الاجتماعية- الاقتصادية، وأختار أن يركّز على تطوير سياسات عمومية بدلاً من الإيديولوجيا. وقد اعتبرت قيادة الحزب أن ترؤس ائتلاف حاكم في الفترة بين 2011 و2013 والاشتراك في حكومات وحدة وطنية منذ العام 2015، أماط اللثام عن حاجتين أساسيتين إثنتين: الأولى، أهمية بناء مصداقية الحزب كلاعب سياسي يمكن له أن يتطلّع على نحو شرعي إلى حكم البلاد. والثانية، الحاجة الحاسمة إلى كلٍ من الاعتراف المحلي والدولي به. ولتحقيق هذين الهدفين، سعى النهضة إلى توسيع قاعدة عضويته في ما يتجاوز القاعدة التقليدية بحيث تشمل المزيد من أصحاب الكفاءات والسياسيين المحترفين. لكن هذا التوسّع أجبر الحزب أيضاً على الموازنة بين متطلبات الأعضاء القدماء والجدد الذين لديهم دوماً مفاهيم متباينة حول النهضة كحزب، وحول كيفية صياغة سياسته العامة، وطبيعة القضايا التي يجب أن يناصرها ويدافع عنها.

وبالنسبة إلى حركة أمضت عقوداً وهي منخرطة في النشاطات الدينية في إطار عمل سري وفي المنفى، فإن المشاركة في السياسات الوطنية دشّن بداية مرحلة جديدة في تاريخها. وكما قال مسؤول فيها: “في العام 2011، تركنا الإسلام السياسي المتمرّد لنخوض غمار التنافس الانتخابي. كان هذا تغييراً ضخما. ونحن نشارك في كل حكومات مابعد 2011، عدا حكومة التكنوقراط العام 2014. ويجب أن أقول إنه لايزال ثمة الكثير لنتعلّمه حول العمل السياسي والتنافس الانتخابي.64 ومن خلال التركيز على الإجراءات العملية لفهم كيفية التحوّل إلى حزب سياسي وممارسة السلطة بفعالية، أدركت قيادة النهضة الأهمية الجوهرية الكبرى لوجود سياسة عامة متّسقة.

من التحديات المهمة التي يواجهها النهضة منذ العام 2011 تعلُّم كيفية ممارسة الحكم وتسيير شؤون مؤسسات الدولة. يُعلّق قياديٌّ في الحزب: “قبل العام 2011، لم نكن نعلم في النهضة، بصورة أساسية، كيفية اشتغال الدولة. لقد عارضناها طوال أربعين عاماً. وعانينا من القمع العنيف والظلم والإقصاء على يدها. وعندما تسلّمنا مقاليد الحكم في العام 2011، كنا نفتقر إلى الموارد والشبكات. وكنا نفهم النذر اليسير في الإدارة والبيروقراطية، فلم نتمكّن من الحكم بفاعلية”.65 وفي الحكومة، اكتسب النهضة اطلاعاً قيّماً على علاقات النفوذ التي تشتمل على شبكات راسخة من الامتيازات والمصالح، وعلى الطبيعة العملية للعمل السياسي، والحاجة إلى الخبرات والدراية التكنوقراطية، وأهمية البرامج الاقتصادية الجدّية والمتطورة. كما أن العمل داخل أروقة السلطة فتحَ عيون النهضة على حجم مقاومة الإصلاح من جانب مجموعات اللوبي، ومجموعات المصالح المترسخة، وممثّلي النظام القديم.

ولقّنت المشاركة في الحكومة أيضاً النهضة بعض الدروس عن عجز المرجعية الإسلامية في مجالَي إعداد السياسات العامة وإدارة التحديات الاقتصادية والاجتماعية والإنمائية في تونس. وبحلول العام 2016، كانت الحركة قد باتت تدرك، بعد تجربة مؤلمة، مدى صعوبة إرساء توازن بين العمل على تطبيق الإصلاح، وتطوير سياسات اجتماعية واقتصادية جديدة، والتعامل مع التركة الثقيلة للنظام الديكتاتوري السابق. وفي هذا الصدد، علّق مسؤول في الحركة: “إذا أرادت حركة النهضة أن تنخرط في كل شيء، أي السياسة والدعوة والتعليم والثقافة، فسيكون ذلك تبجّحاً من جانبها. هذا مستحيل بكل بساطة”.66

في ضوء هذه التحديات، أعطت قيادة النهضة الأولوية لتخصيص الموارد للسياسة الحزبية والاستعانة بكفاءات وتكنوقراط. وتُعتبَر هذه الخطوات حيوية لتعزيز صورة النهضة كحزبٍ حاكم شرعي قادر على تحقيق الإصلاح في تونس ومعالجة المشكلات الاقتصادية المتعددة. اليوم، يتعيّن على الأفرقاء السياسيين في تونس العمل بطريقة ما على إصلاح منظومة الرعاية ونُظم الدعم الحكومي، وقطاعات التربية والصحة والنقل. ويعتقد النهضة أيضاً أن خصخصة الشركات المملوكة من الدولة وإصلاحات القطاع العام ستؤدّي إلى ظهور معارضة شعبية، ولاسيّما في صفوف الاتحاد العام التونسي للشغل ذي النفوذ الواسع. وعلى الأرجح أن تطبيق الإجراءات الضرورية سيتطلب خفض الدعم الحكومي في مجموعة واسعة من الخدمات، وإعادة النظر في البرامج التقاعدية المطبّقة راهناً، والحد من الامتيازات الاقتصادية التي يتمتع بها بعض أعضاء النخب الذين أفادوا من رأسمالية المحاسيب طوال عقود من الزمن.

دفعت استراتيجية التخصّص ومانجم عنها من تخصيص للموارد البشرية والمالية لأغراض المنافسة الانتخابية، بحركة النهضة إلى إعادة النظر في الآلية التي تعتمدها في قبول الأعضاء. وقد ألغى المؤتمر العام الذي عُقِد في عام 2016، رسمياً، فترة الاختبار التي يخضع إليها الشخص لمدة عامَين قبل حصوله على العضوية الكاملة في الحزب. وعكست هذه التعديلات في شروط العضوية رغبة النهضة في استقطاب أعضاء جدد من خارج الدوائر الإسلامية قد يكونون أكثر اهتماماً بالنشاط السياسي.67

كذلك دفعت المنافسة الانتخابية بحزب النهضة إلى تطبيق “استراتيجية الانفتاح” الهادفة إلى توسيع قاعدة الحزب الناخبة والداعمة.68 وفي الانتخابات البلدية في أيار/مايو 2018، أتاح الحزب لمرشحين مستقلين الانضمام إلى قوائمه الانتخابية. وكان الهدف من هذا التكتيك زيادة قدرة النهضة على الاستقطاب في صفوف المجموعات المحافظة اجتماعياً والأفراد الذين لم يكونوا يشاطرون الإيديولوجيا الإسلامية لقاعدتها الناخبة الأساسية ولكنهم كانوا يحبّذون تحوّل الحزب نحو الوسط وقد يكونون مهتمين ببناء مسيرة سياسية تحت مظلته. في نهاية المطاف، ساهمت هذه الاستراتيجية في اختيار النهضة مرشحين للانتخابات البلدية من ذوي خلفيات متنوعة، وفي استقطاب ممثلين جدد عن الطبقة الوسطى العليا.

استند خيار النهضة لمرشّحيها في الانتخابات إلى الكفاءة وركّز على مؤهلاتهم في العمل وعلى المستوى الاجتماعي، من خلال استهداف أصحاب الكفاءات تحديداً، مثل المهندسين والمحامين والأساتذة والأطباء. ويشرح أحد قياديي النهضة هذه المقاربة قائلاً: “حاولنا استقطاب أشخاص يتمتعون بالمهارات والخبرات في إدارة الشؤون المحلية. كان بعضهم في التجمع الدستوري الديمقراطي، أي الحزب الحاكم خلال العهد الديكتاتوري. وهذه كانت أيضاً محاولة للقول إننا لسنا ضد هؤلاء الأشخاص، وبأننا منفتحون على الأشخاص الذين كانوا في خدمة النظام السابق. نحن ضد النظام القمعي الذي كانوا في خدمته لكننا لسنا ضدهم”.69 وإلى جانب تشجيع الشخصيات والوجاهات المحلية والاستثمار في خبراتهم وشبكاتهم المحلية، سعى النهضة أيضاً إلى التكيّف مع واقعية السياسة المحلية عبر طرح مرشحين أقل اصطفافاً على المستوى العقائدي. وبهذا المعنى، أتاحت الانتخابات المحلية فرصة لإعادة ضبط أوجه التركيز لدى الحزب والتخفيف من الإشارات الدينية. وعلى صعيد أكثر براغماتية، كانت هذه الاستراتيجية محاولة لتكييف التنظيم وممثّليه مع المنافسة السياسية على المستوى المحلي، حيث يفوز المرشحون بالأصوات عبر بناء صورتهم وتعبئة الشبكات الاجتماعية.

تقدّمَ نحو 4000 مرشح مستقل على لوائح النهضة الانتخابية في الانتخابات البلدية للعام 2018. وقد احتلّ النهضة المرتبة الثانية، بعد اللوائح المستقلة، حاصداً 30 في المئة من مقاعد المجالس البلدية.70 ومن أصل 2139 منصباً فاز بها النهضة في المجالس البلدية، كان النصف من نصيب مرشحين مستقلين لم يكونوا ينتمون رسمياً إلى الحزب.

غير أن استراتيجية الانفتاح أثارت تساؤلات. فقد علّق أحد قياديي الحزب الذين أبدوا شكوكهم بشأن إدراج مرشحين مستقلين على لوائح النهضة: “لايمكننا القول إن هذه الاستراتيجية ساهمت في توسيع قاعدتنا الناخبة. يمثّل عدد كبير من الشخصيات ذات المؤهلات اللافتة الحزب في الوقت الراهن. هذا صحيح! ولكن من الغلو القول إن هذا الأمر ساهم في زيادة قدرة النهضة على استمالة ناخبين جدد. لقد أدّى بصورة أساسية إلى استقطاب أفراد”.71

لا مراء أن مد اليد إلى المستقلين وغير الإسلاميين ساهم في زيادة تعدّدية ممثّلي الحزب عبر المزج بين أصحاب الكفاءات والمنتسبين القدامى، لكن ذلك لم يمرّ من دون إثارة تشنّجات. ويكمن عامل الانقسام الأساسي بين المجموعتَين في اختلاف نظرتهما إلى الانخراط السياسي ودوافعهما في هذا الصدد. فبالنسبة إلى الأعضاء الأكبر سناً، التفاني في سبيل الحركة هو الذي يحفّز انتماءهم السياسي للنهضة. فهم يتذكرون المرحلة التي كانت فيها العضوية في الحركة خطوة محفوفة بالمخاطر، وقد ساهمت تجاربهم مع القمع في ظل نظام بن علي، في بناء ذاكرة مشتركة مسكونة بآلام الصدمات والمقاومة. لقد تحوّلت التضحيات التي بذلها الجيل الأكبر سناً مأثرةً يُحتفى بها في تاريخ الحركة. ويساهم هذا الإرث في إضفاء شرعية على القيادة الحالية، في حين أنه يشكّل أيضاً حاجزاً خفياً أمام ضم أعضاء جدد لايتشاركون التجارب نفسها.

أما أصحاب الكفاءات، فيؤمّن لهم انتماؤهم إلى النهضة أداة لبناء خبراتهم السياسية، ومهاراتهم الشخصية، ودرايتهم التكنوقراطية، وروابطهم الاجتماعية. وتتيح لهم المشاركة في الحكومة أيضاً تحقيق منافع مادّية ورمزية أخرى (منها الحظوات والامتيازات والوجاهة والرواتب والتأثير وتوسيع الشبكات الشخصية).72 ويجلب هؤلاء الأفراد معهم فهماً جديداً للنشاط السياسي ومقاربات مستحدَثة في السياسة تتّصف بأنها أقل أيديولوجية وغالباً ماتكون مناوئة للأعضاء التقليديين في النهضة. وقد تسبّب هذا التباين في الآراء والأولويات في ظهور تشنّجات بين المجموعتَين. ويُبدي الأعضاء القدامى انزعاجاً أكبر من أصحاب الكفاءات الذين كانوا جزءاً من النظام السابق.

اللافت هو أن النهضة لم يُعد الكرّة ولم تتبنَّ من جديد استراتيجية الانفتاح في اختيار المرشحين للانتخابات البرلمانية المزمع إجراؤها في تشرين الأول/أكتوبر المقبل. بدلاً من ذلك، أجرى الحزب انتخابات داخلية لاختيار ممثّليه. والتراجع عن هذه السياسة التي كان الهدف منها إضفاء تنوّع على مرشحي النهضة، هو مؤشرٌ على أن الجناح الأكثر تشدّداً تغلّب على الأرجح على البراغماتيين في مجال تحديد اتجاه الحزب مستقبلا.

على الرغم من اتخاذ النهضة قراراً بالتخصص وانتهاجها استراتيجية الانفتاح في العام 2018، لاتزال بنيتها الداخلية تشكّل عائقاً أمام توسّعها. وقد تحوّلت، على مر العقود، إلى مجموعة هرمية مغلقة ومتلاحمة من خلال روابط العقيدة إنما أيضاً شبكات العلاقات الشخصية والعائلية، إلى جانب الشعور القوي بالولاء للتنظيم. صحيح أن هذه الخصائص هي مصدر للتضامن والتماسك، لكنها تطرح أيضاً تحدّياً أمام انفتاح الحزب على أعضاء وممثلين جدد لايتشاركون المعتقدات والتجارب النضالية نفسها للأعضاء القدامى. وتبعاً لذلك، فإن الاستراتيجيات الهادفة إلى بناء قدرات الحزب وتنويع ممثّليه وأعضائه وقاعدته الناخبة تتوقف إلى حد كبير على قدرة قيادته على إدارة التنافر المستجِد في صفوفه، وإعادة بناء هوية تحظى باستحسان الأعضاء الحاليين وتستقطب في الوقت نفسه أعضاء جدداً. وعلى وجه الخصوص، يتعيّن على النهضة تخطّي النظرة التي تعتبر أن الحزب هو بمثابة فرقة مغلقة إذا كانت تريد حقاً التحوّل إلى لاعب سياسي في يمين الوسط يلقى استحساناً لدى القاعدة الناخبة الواسعة.

خاتمة: النهضة، إلى أين؟

كان لابد للنهضة من أن تواجه أزمة لدى خروجها من الإسلام السياسي. وقد أثار قرارها الإيديولوجي والتنظيمي بالتخصص في العمل السياسي، الالتباس بشأن هويتها وأهدافها.

وإذا ما استمرت النهضة في التقدم باتجاه تبنّي نهج المحافظة في يمين الوسط، غالب الظن أنها ستمنح الإسلام حيّزاً في سرديتها. ويمكن أن يوجِّه الإسلام، بوصفه أداةً لسياسة الهوية، بعض المقترحات في السياسات العامة، إنما يجب أن يتم ذلك في سياق ديمقراطي لطمأنة القوى السياسية العلمانية التي لاتزال تشكّك بالتزام النهضة بالديمقراطية. ولكن يجب ألا تدفع معارك الهوية بالحزب إلى التراجع عن سياسته التخصصية. ومن أجل تحقيق مزيد من النجاح في هذا التحوّل، يجب اعتماد مقاربة شاملة ومُعَدّة بعناية تنسجم مع التديّن بمختلف أشكاله ودرجاته، بدءاً من التونسيين المتديّنين وشديدي التقوى، وصولاً إلى المسلمين غير الممارسين لشعائرهم الدينية إنما الملتزمين بالقيَم المحافظة.

مع اختفاء الركائز الأيديولوجية الأساسية للحزب، فقد حزب النهضة جزءاً من قاعدته الناخبة. فبعدما توقّف عن التركيز على الدعوة الدينية، وتحالف مع نظام كان يعارضه في السابق، واستثمر في السياسة الانتخابية، ازداد الالتباس بشأن هويته. فما الذي يتبناه الحزب تحديداً؟ هل تعطي النهضة الأولوية للمنافسة الانتخابية فوق أي اعتبار آخر، حتى على حساب الإصلاح الاقتصادي والاجتماعي المحتمل الذي قد يكون بإمكانها المساهمة في تحقيقه؟ في نظر البعض في قيادة النهضة وقاعدتها، ليس الفوز في الانتخابات هدفاً بحد ذاته إذا لم يؤدِّ إلى تحقيق عدالة اجتماعية أكبر وإعادة توزيع السلطات والثروات في البلاد. إذا كان حزب النهضة يُقدِّم الفوز الانتخابي على أي أمر آخر، فهذا يعني ضمناً أنه انخرط في منظومة المصالح المستحكِمة التي تطبع تقاسم السلطات والثروات في تونس والتي عارضها على امتداد عقود من الزمن. يوافق قادة النهضة وقاعدته الناخبة على أهمية الحفاظ على المؤسسات الديمقراطية وعلى الركيزة الأساسية للمنظومة السياسية الديمقراطية، لكن الفريقَين يختلفان في الرأي بشأن دور الحزب داخل هذه المنظومة. وسوف تكون قدرة النهضة على إبقاء الأمل بالتغيير حيّاً فيما تعمل على تبنّي مقاربة انتخابية حديثة، أساسية لبقائها كحزب.

في المجمل، الالتباس الراهن بشأن هوية الحزب نابع من تردُّد النهضة في حسم قراره بشأن طبيعة الحزب الذي تريد أن تكون عليه، وماهية قاعدته القابلة للتحديد. فوقف الدعوة الدينية يعني انتهاء الحركة وظيفياً لا رسمياً. ولكن المشاركة السياسية في ديمقراطيةٍ متقلقلة فضلاً عن القيود الاقتصادية والاجتماعية التي يواجهها النهضة في عمله، تجعل من الصعب تمييز الشكل الذي سيتخذه هذا الحزب تحديداً وماستكون عليه مهمته. فهل سيكون حزباً تخصصياً يُركّز على المنافسة الانتخابية والإدارة الكفوءة للدولة، مستغلاً تمثيله على المستويات المحلية والوطنية من أجل الوصول إلى الموارد المالية والسياسية؟ بعبارة أخرى، هل سيصبح الحزب آلة انتخابية حيث يُطمس الخط الفاصل بين الأعضاء وغير الأعضاء؟ أم هل سيكون حزباً يعطي الأولوية لتوسيع قاعدته الناخبة، ووضع برنامج إيديولوجي وأجندة في السياسات، وتعزيز العدالة الاجتماعية فيما يحافظ على مرجعيته الإسلامية.

قد تساهم محاولة إرساء توازن بين هذين المسارَين المختلفين في الحفاظ على وحدة النهضة لبرهة من الزمن، ولكنها ستتحوّل على الأرجح إلى مصدر للانقسام في نهاية المطاف. لقد استدعت مشاركة الحزب المتزايدة في المنافسة السياسية تغييرات مثيرة للجدل في أسلوبه في تجنيد الأعضاء وفي هيكلياته التنظيمية، على غرار استراتيجية الانفتاح التي انتهجها في العام 2018. وتُعتبَر المسائل التنظيمية أساسية للحفاظ على تماسك التيارات الإسلامية ووحدتها. ففي الحالات النادرة التي انقسمت فيها التيارات الإسلامية، كان السبب عادةً الخلاف حول التنظيم وأسلوب التحرك، لا العقيدة أو الإيديولوجيا.73

يُوفّر التحوّل الذي يشهده النهضة إضاءات أساسية على المسار الذي ينتهجه تيارٌ إسلامي في بيئة تعدّدية وديمقراطية. ولعل الأهم من ذلك هو أن التطبيع غير المكتمل الذي ينكشف للعيان، يُسلّط الضوء على ثنائية النجاح الانتخابي والفشل العقائدي داخل التيارات الإسلامية.74 يمكن استخدام التشدد الإسلامي بطريقة فاعلة لتعبئة الجماهير ولكن لايمكن استخدامه لحكمهم. واقع الحال هو أن تحوّل النهضة نحو البراغماتية على حساب إيديولوجيتها التأسيسية يُقدّم البرهان على أن السردية الإسلامية، وعلى الرغم من أنها قد تتمكّن من الفوز في الانتخابات، تفشل دائماً في تلبية توقّعات ناخبيها المختلفة.75 وقد يُثبت تحوّل النهضة غير المكتمل أنه بإمكان تيار إسلامي التكيّف مع سياق ديمقراطي والفوز في الانتخابات عبر إجراء تحوّل في عقيدته وأسلوبه التنظيمي، وتوسيع قاعدته الناخبة أبعد من دائرة أنصاره التقليديين. ومما لاشك فيه أن آفاق تجربة النهضة سوف تترك بصماتها على المحاولات التي تبذلها تيارات إسلامية أخرى لاكتساب الشرعية ورفع التحديات في أجواء سياسية تعددية في المستقبل.76

 

المصدر: مركز كارينغي للشرق الأوسط