خديعة المعرفة | مركز سمت للدراسات

خديعة المعرفة

التاريخ والوقت : الجمعة, 14 يونيو 2019

أريج الجهني

 

ما أكثر الضحايا بثياب المجرمين، وما أكثر المجرمين بثياب الضحايا! نعم، هذه أحد أوجه الحياة البائسة، التي قد يوقنها البشر عبر الأزمنة، فمنهم من يعالجها أخلاقيًا، ومنهم من يمر بجانبها مرور الكرام. والذي يهم مناقشته في هذا النص، هو كيف يتم معالجة فكرة الجريمة المعرفية، في ظل مجتمعات تصل إلى درجة القداسة للموروث والشائع، وقبل هذا: هل تصورت يومًا أن الدواء الذي في أرفف الصيدليات هو منتج استهلاكي قد لا يختلف عن ضرر المشروبات الغازية إذا تمَّ أخذه دون حاجة ودون دراية لأخلاقيات الصناعات الطبية وغيرها؟  وإلى أي مدى نحن نتصالح مع فكرة “الخداع المعرفي؟”.

في الحقيقة علينا أن نعترف بأننا مجتمعات “طيبة” تقدم دائمًا حسن النية والثقة شبه المفرطة بأصحاب الألقاب العلمية والياقات العالية. ففي كتاب (الضحايا.. الجريمة والمجتمع) يطرح الباحث “هازل كورال” فكرة “ضحايا الياقات البيضاء”، كناية عن المجرمين الذين يحظون بمكانة واحترام رفيع في المجتمع، وتكون لطبقتهم المجتمعية تأثير مباشر في تقدير الناس لهم، وبالتالي قد تكون جرائمهم مختلفة في الأشكال، ولكن في الحقيقة هي مدمرة، وهم غالبًا ما يفلتون من قبضة القانون، وهو يرى أن هؤلاء الأشخاص قد تكون جرائمهم اقتصادية أو صحية، وقد تطال كافة مرافق الدول.

هل فكرت يومًا بأن صحتك وأفكارك واقتصادك قد تكون مجرد حقل تجارب؟ هل تساءلت يومًا عندما تبتاع قميصًا بسعر بسيط كيف تمَّ صناعة هذا القميص؟ وكيف أثرت صناعته على البيئة والبشر؟! وهل يهمك كمستهلك المعايير الأخلاقية للشركات، أم أنك تبتاع فقط ما تريد وتشتهي؟ وكيف يعالج عقلك أخبار المنظمات العالمية التي تحارب الشركات التي تستخدم الحيوانات في تجاربها وتمتهن البشر في معاملها.

نعم، هناك جرائم ضد المستهلك، ومن المهم هنا مراجعة أفكار الباحث “جون برايت هويت” حول هذا، حيث طرح فكرته البحثية في الأول من فبراير عام ١٩٨٥، والتي عنونها بـ(أبحاث الجريمة: لماذا نحتاج لشاهدين؟)، وناقش من منظار مجتمعي لماذا من المهم عند تناول مواضيع الجريمة، خاصة الجريمة الصحية، أن لا نكتفي بباحث واحد أو مشاهد واحد؟ فالمصداقية والحياد هنا غير مقبولة؛ لهذا حينما تطرق لفكرة أبحاث الجريمة في حقل الأدوية قام بمقابلة ١٣١ شركة طبية، وهو يعتقد أن الاكتفاء بباحث واحد قد يفقدنا الكثير من المعلومات، سواء بشكل عشوائي، أو بشكل متعمد.

هنا نقف دقيقة صمت أو ربَّما حداد، فلعلك لا تعلم كقارئ أن الأوساط الأكاديمية في مجتمعاتنا لا تفضل هذا النوع من الأبحاث وهي تدخل في ستار “الجرائم الأكاديمية” التي ستطرح في شكل مستقل لاحقًا، وحين نقول الجرائم الأكاديمية فهي لا تقف على عتبات السرقات العلمية فقط، بل تقتحم أسوار الجامعات التي جمدت لعقود الأبحاث النوعية، وتناقش “ميكانيزم” النشر العلمي الذي لا تستطيع أن تفهم لماذا في الجامعات الأوسطية يتم تفضيل الباحث الواحد على الباحثين، بخلاف الجامعات الغربية التي تؤمن بقيمة التعدد البحثي! ولك أن تتخيل أي نوع من “التعدد” الذي يهم الجهلة.

على الضفة الأخرى في كتاب (الرأسمالية السامة: جرائم الشركات والصناعات الكيمائية) يحذِّر المؤلفان “فرانك بيرسي” و”ستيف تومبس” من مغبة الإغراق في أحلام النيوليبرالية وتأثيرها غير الأخلاقي على بعض الصناعات، في حين تقوم الشركات في الأنظمة الرأسمالية حول العالم على أربعة أجزاء، وهي: أولاً الشركة نفسها وهدفها القانوني، ثانيًا القيادات وصناع القرار أو أصحاب الشركة ورؤيتهم، ثالثًا السياسات والأهداف، رابعًا المديرون والموظفون، وخلال هذه الأجزاء قد يحدث في أي منها خلل أخلاقي، وبالتالي يتسرب لبقيتها، ويا له من أمر مريب!..

الآن، بعد كل ما سبق، لنعيد قراءة المشهد الأخلاقي في قطاع الجريمة، ولنتأمل لأي درجة نحن نفترض بأننا مجتمعات ملائكية، وبأننا في مأمن من هذه العبثية؟ في الحقيقة علينا أن نعود لنقطة الصفر ألا وهي الاعتراف بأن معالجة الواقع لا تتحقق بالإنكار، بل ننطلق من المصداقية ونكافئ الشفافية. النفس البشرية ضعيفة والشغف المادي في سعار، نحن نعيش في عصر مادي ممتد لحياة الإنسان في هذا الكوكب. الإنجازات العلمية والإبهار يجب أن تكون دائمًا موضع شك، بدلاً من التسابق للتصفيق. “المساءلة والتساؤل” أدوات ناجحة جدًا إذا أردنا تجنب مثل هذا النوع من الجرائم.

هكذا نعيد فتح ملف المعرفة وجوانبها الأخلاقية، فالمعلومات مكشوفة وواضحة ويمكن معرفة الضار والنافع منها، لكن تعقيد المعرفة وتوثبها فوق المساقات الفكرية يجعل المتلقي غير مدرك للأخطار المحتملة، وهذا هو جوهر فكرة “الخديعة المعرفية”، فليس كل ما يلمع ذهبًا، وليس كل ما نعرف عجبًا.

 

كاتبة سعودية

areejaljahani@

النشرة البريدية

سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!

تابعونا على

تابعوا أحدث أخبارنا وخدماتنا عبر حسابنا بتويتر