يواجه الاتحاد الأوروبي معضلة مستمرة منذ أكثر من عامين، بشأن إقرار قواعد الميزانية العامة له، فهذه الأخيرة تم “تجميدها” في الواقع في أعقاب انفجار جائحة كورونا، من أجل مواجهة الوباء الذي تسبب في خسائر اقتصادية فادحة على المستوى العالمي، ولا سيما في الدول التي تكفلت بتقديم الدعم للأسر والمؤسسات التي تضررت.
على كل حال، لم يكن إقرار الميزانية الأوروبية سهلا حتى في أزمنة الانفراج الاقتصادي. فالخلافات بين الأعضاء كبيرة في وجهات النظر، وفي كيفية التعاطي مع الاحتياجات وإدارة المال عموما، فضلا عن الضغوط التي تتعرض لها حكومات هذه الكتلة من برلماناتها، وأحزاب المعارضة فيها. الأمر الذي يجعل مسألة الميزانية مرتبكة بصورة دائمة، بما في ذلك الحصص التي يجب على الدول الأعضاء دفعها، وفق قدراتها الاقتصادية بالطبع.
وزادت وتيرة التوتر في هذا المجال، في أعقاب اندلاع الحرب الروسية – الأوكرانية التي دفعت الغرب عموما، ودول الاتحاد الأوروبي، على وجه الخصوص، للوقوف إلى جانب أوكرانيا في مختلف الميادين، وفي مقدمتها العسكرية. فالدعم العسكري لكييف من الجانب الأوروبي لم يتوقف، بل يتطور بصورة مستمرة، بما في ذلك توفير أنواع من الأسلحة لم تكن مطروحة أصلا في بدايات الحرب المشار إليها. فقد أظهرت الأشهر الماضية أن المواجهة بين كييف وموسكو لن تكون قصيرة، وأن الجانب الأوكراني سيواصل الاعتماد إلى أبعد الحدود على الدعم الغربي، بما في ذلك تمويلات تدخل في النطاق المدني، كدعم الميزانية العامة للبلاد، والإنفاق من ميادين عديدة، في ظل انكماش لاقتصاد البلاد بلغت نسبته العام الماضي نحو 30 في المائة على الأقل. دون أن ننسى أن تقديرات المفوضية الأوروبية التي أطلقتها نهاية العام الماضي بشأن إعادة الهيكلة والتعافي في أوكرانيا بلغت 349 مليار دولار، بينما الخسائر لا تزال تضرب البلاد.
أمام “محنتي” جائحة كورونا، والحرب الأخطر منذ الحرب العالمية الثانية، تعطل ما يعرف بـ”قواعد الميزانية”، عبر تعليق من جانب المشرعين لمواجهة استحقاقات الجائحة أساسا، قبل أن تندلع الحرب في أوكرانيا لتضيف مزيدا من الأعباء. بحلول نهاية العام سيعود العمل بهذه القواعد، مع استبعاد تمديد تعليقها حتى العام المقبل. وما هو مطلوب الآن الاتفاق على هذه القواعد، وتقليل الخلافات بشأن تنفيذها، ولا سيما أنها تحمل اسما عريضا حقا هو “ميثاق الاستقرار والنمو”.
ومسألة النمو باتت اليوم في أوروبا والعالم أجمع الشغل الشاغل، بعد تباطؤ طويل وحتى انكماش، في حين تعرض بعض الدول إلى ركود اقتصادي حقيقي في الفترة الماضية. لكن حتى النمو يحتل المرتبة الثانية من حيث الأهمية أمام الاستقرار الاقتصادي، وقدرة الحكومات في السيطرة على التضخم، والعودة وإن كانت بصورة نسبية إلى التيسير النقدي.
الخلافات بشأن “الميثاق” ليست سهلة بالطبع. فإيطاليا “مثلا” ترغب في نهج أكثر تيسيرا، مقارنة برغبات بعض الدول الأوروبية في شمال القارة، التي ترى أن ذلك لا يمكن أن يتم في هذا الوقت بالذات، أي في فترة مواجهة الموجة التضخمية التي شهدت تراجعا ملحوظا في الأشهر الماضية. وليس واضحا حتى الآن إذا ما كانت المفوضية الأوروبية قادرة على إعادة العمل بقواعد الميزانية قبل نهاية العام الجاري، لكن في النهاية لا بد من التوصل إلى اتفاق، بصرف النظر عن الخلافات سواء الخاصة بما تسميه بعض الدول الأوروبية “التسيب المالي”، ومصير المجهود الحربي والاقتصادي الموجه لأوكرانيا. صحيح أن أيا من الحكومات الأوروبية لا يمكن أن تقدم على وقف الدعم الراهن لكييف، لكن الصحيح أيضا أنها بدأت تتحدث علانية عن “صعوبات” في التمويل. حتى إن بين ولاس وزير الدفاع البريطاني السابق، أشار في تصريح له أثار فوضى سياسية حقيقية، حين قال: “إن على أوكرانيا أن تعرف أننا لسنا شركة أمازون للتوصيل”.
المشكلة المهمة جدا أيضا، أن برامج الدعم والاستثمار الحكومية التي تم وضعها لمواجهة التبعات الاقتصادية لجائحة كورونا، أدت إلى ارتفاع مستويات الديون في عدد من الدول الأوروبية، إلى ما فوق الحد الذي جاء في “الميثاق” وهو 60 في المائة من إجمالي الناتج المحلي. والنقطة اللافتة هنا، أن الخلافات حول طبيعة دعم أوكرانيا تصاحبها خلافات عميقة حول المسار المتوتر للميزانيات المحلية “الوطنية”، إلى جانب مسألة خلافية موجودة في كل الأوقات وتتعلق بارتفاع التكاليف الإدارية للمفوضية الأوروبية في بروكسل. فعدد كبير من الدول ينادي منذ أعوام بخفض الإنفاق الإداري، بما في ذلك ارتفاع رواتب كبار الموظفين. ليس أمام هذه المفوضية سوى بدء العمل بميثاق الاستقرار والنمو بأقرب وقت ممكن، لأن التأخير سيؤثر مباشرة وبصورة سلبية في الأداء الاقتصادي في كل دولة، كما أنه يبعد إمكانية رؤية عجلة النمو تتحرك بصرف النظر عن سرعتها. فالاستقرار المنشود لا بد أن يولد نموا سيكون في المرحلة الأولى بمنزلة تعويض للانكماش أو التباطؤ الذي ساد الأجواء العامة على الساحة الأوروبية منذ بداية 2020.
المصدر: الاقتصادية