سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
حنين غدار
لطالما كانت قضية مقتل لقمان سليم مسألة وقت. فقد تعرض للتهديد المباشر والمتكرر من «حزب الله»، وكتب هو نفسه بياناً العام الماضي حمّل فيه الحزب المسؤولية عن أي عمل من شأنه أن يضر به أو بأسرته. وفي وقت سابق من هذا الشهر أطلق قاتله النار عليه. يجب على إدارة بايدن والحكومة الفرنسية رسم خطوط حمراء واضحة، وإلا سيصعد «حزب الله» حملته الإرهابية.
منذ سنوات كان اغتيال الناشط والكاتب اللبناني لقمان سليم قيد الإعداد. فقد انتقد «حزب الله» علانية، وفي وقت سابق من هذا الشهر أطلق قاتله النار عليه لأن التوقيت في الداخل والخارج كان مناسباً لقتَلتِه، الذين أرادوا توجيه رسالة من خلاله.
ولطالما كانت القضية مسألة وقت. إذ دائماً ما شعر منتقدو «حزب الله» – بمن فيهم كاتبة هذه السطور – بأن الظلال تلاحقهم. فكانوا يمضون في حياتهم اليومية و يتطلعون باستمرار وراءهم، ويُفتشون أسفل سياراتهم بحثاً عن قنبلة كلما غادروا منازلهم، ويشعرون بانقباض متزايد في قلوبهم في كل مرة تتأخر فيها حافلة أطفالهم المدرسية. ولطالما عرفنا أننا ملاحَقون ومراقَبون. لكن سليم أبى أن يعيش حياته في هذه الظلال، لكنه لم يكن غير حذر.
حين قررتُ مغادرة لبنان بلا عودة في عام 2016 بعد أن تلقيْتُ تهديدات مماثلة، شجعني سليم على القيام بذلك. لكنه رفض المغادرة ولم يتوقع مني أن أقوم بالمثل لأنه كان يعلم أيضاً أنه لا يمكن للجميع تحمُّل نفس التضحيات. وشعاره – “صفر خوف” – الذي سيطر على مشهد التواصل الاجتماعي في لبنان مؤخراً، ليس شرطاً، بل خياراً، وهو مدروس بعناية.
لقد تعرض سليم للتهديد المباشر والمتكرر من «حزب الله»، وكتب هو نفسه بياناً العام الماضي حمّل فيه الحزب المسؤولية عن أي عمل من شأنه أن يضر به أو بأسرته. واغتيل سليم في جنوب لبنان – معقل «حزب الله» – على بعد ميل واحد من مجمع للأمم المتحدة. والأهم من ذلك هو أنه قُتل بطريقة من شأنها أن تبعث برسالة واضحة إلى الناشطين الآخرين والمجتمع الدولي ككل. ولو أراد قادة «حزب الله» التخلص من سليم فقط، لكان بإمكانهم بسهولة جعل الأمر يبدو وكأنه حادث سيارة أو عملية سرقة، وبالتالي تجنب اللوم، لكنهم أرادوا توجيه رسالة إلى الآخرين وفي الوقت نفسه اختبار حدود المجتمع الدولي.
ثمة إدارة أمريكية جديدة في طور التشكيل، لكن معالمها الأخيرة لم تكتمل بعد. فلا تزال المناصب الرئيسية المتعلقة بالشرق الأوسط والتي ستتعامل مع لبنان و«حزب الله» شاغرة. هذا بالإضافة إلى وجود مؤشرات على أن الشرق الأوسط لا يتصدّر أجندة السياسة الخارجية لإدارة بايدن وأن ملف لبنان قد يُسند إلى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون.
لقد وضع «حزب الله» وداعموه الإيرانيون نمطاً محدداً لاختبار أي إدارة أميركية جديدة. فقبل أربع سنوات، اختبروا إدارة ترامب في سوريا عندما استخدم نظام الأسد الأسلحة الكيميائية ضد المدنيين في خان شيخون عام 2017، وبعد ذلك حين استخدمت الميليشيات الموالية لإيران طائرات مسيّرة مسلحة ضد الموقع العسكري الأمريكي-البريطاني بالقرب من بلدة التنف الحدودية. وجوبهت تلك الاختبارات بقوة، وفهمت إيران ووكلاؤها الرسالة.
ويوجّه اغتيال سليم رسالة إلى النقاد والنشطاء المحليين، ولكنه قد يكون أيضاً وسيلة لاختبار حدود المجتمع الدولي – لمعرفة متى سترسم إدارة بايدن خطوطها الحمراء وكيف ستقوم بذلك. واليوم يشعر العديد من زملاء سليم الناشطين بالقلق من أن يبدأ «حزب الله» موجة جديدة من الاغتيالات، على غرار تلك التي أعقبت مقتل رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري عام 2005 والتي لم تتوقف إلا بعد سيطرة «حزب الله» على مؤسسات الدولة في عام 2008.
وحالياً، يواجه «حزب الله» عدداً من التحديات في لبنان. فتظاهرات تشرين الأول/أكتوبر 2019 التي أشارت إلى انهيار الاقتصاد اللبناني، ومن ثم حادثة انفجار بيروت العام الماضي، وضعت «حزب الله» في موقف محرج محلياً.
لقد كان سليم في قلب احتجاجات 2019 وجزء كبير من النشاط (السياسي) الذي أعقب ذلك. فأنشأ خيمة “الملتقى” حيث أجريت حلقات حوار ومناقشات ومناظرات في وسط قاعدة الاحتجاجات في مركز مدينة بيروت. وفي كانون الأول/ديسمبر 2019، أحرق «حزب الله» خيمة “الملتقى” وهدد سليم وزملاءه. كما تجمعت مجموعة من المتظاهرين الموالين لـ «حزب الله» أمام منزله في الضاحية الجنوبية لبيروت، وكتبوا على الجدران شعارات “لقمان سليم الخائن والعميل” و”«حزب الله» شرف الأمة” و”المجد لكاتم الصوت”.
ورغم أن الاحتجاجات خفّت دون تحقيق التغيير والمساءلة المطلوبيْن، إلا أنها زرعت بذور التغيير المحتمل على المدى الطويل. فقد كان حلفاء «حزب الله» الفاسدون – مثل رئيس مجلس النواب نبيه بري، والرئيس ميشال عون، وصهره زعيم «التيار الوطني الحر» جبران باسيل – هم المستهدفون الأوائل للمتظاهرين. وعلى الرغم من أنهم ما زالوا في السلطة، إلا أن القاعدة الشعبية التي كانوا يتمتعون بها قد تقلصت فعلياً.
وفي أعقاب انفجار بيروت في آب/أغسطس 2020، عادت الاحتجاجات إلى شوارع المدينة، لكن هذه المرة تم استهداف «حزب الله» بشكل مباشر. وقد نصب المتظاهرون مشانق رمزية في “ساحة الشهداء” بوسط بيروت لتعليق صور من كرتون للسياسيين الذين يعتقدون أنهم مسؤولون عن الدمار والموت اللذين خلّفهما الانفجار، بمن فيهم الأمين العام للحزب، حسن نصر الله نفسه – وهو مشهد لم يتصور أحد في لبنان أنه يمكن أن يحدث دون عواقب وخيمة. لكنه مرّ بخير، ربما بسبب جسامة المأساة.
وقد شجع ذلك العديد من اللبنانيين على البدء بانتقاد «حزب الله» علناً. وعلى الرغم من حملة الاعتقالات والاستجواب التي نفذتها قوى الأمن ضد المتظاهرين، إلّا أن وسائل التواصل الاجتماعي بدأت تفيض بالمنشورات والميمات ومقاطع الفيديو التي تنتقد «حزب الله» وحلفائه وتستهزئ بهم.
ويدرك «حزب الله» ما يعنيه ذلك على المدى البعيد. فالانتخابات النيابية مقبلة في أيار/مايو 2022. وفي ضوء الانتخابات الجامعية والنقابية المختلفة التي جرت في عامَي 2019 و2020، من المرجح أن يخسر «حزب الله» وحلفاؤه وجميع الأحزاب السياسية في لبنان جزءاً كبيراً من مجلس النواب.
وفي غضون ذلك، لا تزال التحقيقات جارية حول انفجار مرفأ بيروت. ورغم أن السلطات المحلية تعمّدت العمل ببطءٍ وبدون فعالية، إلا أن بعض المعلومات من مصادر محلية ودولية وتقارير استقصائية تشير إلى وجود صلة بين ثلاثة رجال أعمال سوريين داعمين لبشار الأسد، وشركة وهمية اشترت المتفجرات وخزنتها في مرفأ بيروت.
أما سليم فكان موجوداً في خضم جميع هذه الديناميكيات. وأولئك الذين يعملون معه عن كثب يعلمون أنه كان يحلل الروابط بين المتفجرات المخبأة في مرفأ بيروت و«حزب الله» والنظام السوري. وفي مقابلة أجراها الشهر الماضي، اتهم «حزب الله» بإخفاء المتفجرات في بيروت لصالح النظام السوري، حيث قال: “إدارة أوباما أرغمت النظام السوري على تسليم أسلحته الكيميائية في تشرين الأول/أكتوبر 2013. وبعد شهر تقريباً … وصلت السفينة “روسوس” المحملة بنترات الأمونيوم إلى مرفأ بيروت”. وكان سليم يعتقد أن التوقيت كان مهماً: ففي أوائل عام 2014، ازداد زخم الهجمات بالبراميل المتفجرة في سوريا بشكل ملحوظ، لا سيما تلك التي تحتوي على نترات الأمونيوم.
ولم يكن سليم الشخص الأول الذي يُغتال بسبب علاقاته الظرفية بانفجار بيروت. فمنذ الانفجار، لقي شخصان آخران مصرعهما في ظروف غامضة: في مطلع كانون الأول/ديسمبر، عُثر على العقيد منير أبو رجيلي، الذي كان يعمل في الجمارك اللبنانية وترأس فرقة لمكافحة التهريب البري، ميتاً في منزله. وفي وقت لاحق من ذلك الشهر، تم إطلاق النار بطريقة مماثلة على جو بيجاني، وهو موظف في قطاع الاتصالات ومصور مستقل. وذكرت تقارير إعلامية محلية أن بجاني كان من أوائل المصوّرين الذين وصلوا إلى مرفأ بيروت لالتقاط الصور بعد الانفجار وأنه كان يعمل مع محققين أجانب.
وعلى الرغم من العديد من التهديدات المباشرة، رفض سليم مغادرة منزله في معقل «حزب الله»، في الضاحية الجنوبية ببيروت. فخلال زيارته الأخيرة إلى واشنطن في أوائل عام 2020، وعندما عبّرتُ له عن مخاوفي من تلك التهديدات، ورجوت منه البقاء، لم يُذعن. ففي نظره، كانت الطائفة الشيعية تشهد نوعاً من الصحوة، وأصبحت ترى أخيراً «حزب الله» كمرتكب وليس كمنقذ.
ولم يكن عمل سليم داخل الطائفة الشيعية سراً. فقد ساعد العديد من الشباب على فهم أنفسهم والتعبير عن أفكارهم والتواصل مع بعضهم بدون حساب وبدون خوف. وكانوا يثقون به ويعلمون أن الشبكة التي أنشأها داخل هذا المجتمع أقوى من أن يمكن حلَّها بمقتله.
كان يعلم أنه لن يكون من السهل على «حزب الله» التعافي من مشاكله المالية، وفقدان حلفائه، واستياء المجتمع الشيعي. وكان يعمل في صميم استياء هذا المجتمع، وكان صوت هذا الاستياء. وفي هذا الإطار، شكّل مجموعات من الشباب ورجال الأعمال والمفكرين والصحفيين من الطائفة الشيعية. لكن الأهم من ذلك ساعد على كسر حاجز الخوف داخل المجتمع الشيعي.
كان يعلم سليم أن نقطة الضعف الرئيسية لـ «حزب الله» تكمن في مجتمعه الخاص. وهذا أمر يعرفه «حزب الله» أيضاً. ويُعتبر اغتيال سليم دلالة على أن قادة الحزب سيضاعفون العمل على الاستياء الشيعي. وسوف تُستخدم أسلحتهم ضد الطائفة الشيعية لا لحمايتها. وسوف يسعون إلى إسكات المعارضة قبل بدء المحادثات المحتملة بين الولايات المتحدة وإيران وقبل اندلاع الاضطرابات الاجتماعية المرتقبة في لبنان. واليوم لا يستطيع «حزب الله» أن يتحمل موجة أخرى من الاحتجاجات في لبنان، لا سيما وأن الخطابات المناهضة لإيران ستكون أقوى حدّة.
ولحماية أولئك الذين لا يزالون يقاتلون في لبنان، والحرص على أن إنجازات سليم وما حققه من تقدّم داخل المجتمع الشيعي لا تذهب سدىً، ينبغي على المجتمع الدولي وضع خطوط حمراء واضحة للغاية. يجب الامتناع من تقديم تنازلات عندما تُوجّه أسلحة «حزب الله» ضد الشعب اللبناني، ويجب على واشنطن التنسيق عن كثب مع باريس للتأكد من أن زيارة ماكرون المقبلة إلى لبنان توفر حماية أقوى للناشطين ولا تقدم أي تنازلات للطبقة السياسية وعناصرها الفاسدة.
يجب ألا تتوقف عقوبات مكافحة الفساد والإرهاب، بل يجب أن تسرَّع وتيرتها وتستهدف مجموعة واسعة من الشخصيات السياسية الفاسدة من جميع الطوائف والأحزاب.
إن قادة «حزب الله» لا يفهمون إلا الأعمال الواضحة والحازمة. وكان سليم واضحاً وحازماً، وقد أرعبهم ذلك. والآن ليس الوقت المناسب للتراجع.
المصدر: معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى
سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
تابعوا أحدث أخبارنا وخدماتنا عبر حسابنا بتويتر