وقد تسببت الصفقة باحتجاجات صينية غاضبة، إذ وصفها الناطق باسم الخارجية الصينية بأنها عمل غير مسؤول ويعاني من قصر النظر.
ويهدف الاتفاق الثلاثي إلى التعاون الأمني الوثيق بين الولايات المتحدة وبريطانيا وأستراليا في مجالات عديدة، أهمها تسليح أستراليا بغواصات تعمل بالطاقة النووية لمواجهة نفوذ الصين في المنطقة، الأمر الذي دفع الخارجية الصينية لوصفه بأنه “يزعزع جهود السلام بشكل خطير، ويسرِّع من وتيرة التسلح في المنطقة”.
بينما اعتبرت وسائل الإعلام الصينية الصفقة عدائية، وقالت صحيفة “غلوبال تايمز” المقربة من الحزب الشيوعي الصيني إن “أستراليا جعلت من نفسها بهذه الاتفاقية خصما للصين”!
وعلى الرغم من أن البلدان الثلاثة لم تذكر الصين بالاسم، فإنها اعتبرت أن التعاون الأمني “فرصة تأريخية للدول الثلاث، التي تشترك بمزايا كثيرة، لحماية القيم المشتركة وتعزيز الأمن والازدهار في منطقة التقاء المحيطين الهندي والهادئ (إندو-باسيفيك)”، حسب البيان المشترك للقمة الافتراضية بين زعماء البلدان الثلاثة.
انزعاج الصين لم يأت بطرا، فالتحالف الجديد يستهدف الصين دون غيرها، خصوصا وأن علاقات أستراليا بها ليست جيدة، بل حصل العديد من المواقف الخلافية بين البلدين، واشتد الخلاف كثيرا بينهما منذ أن طالبت أستراليا بإجراء تحقيق دولي حول ظروف اندلاع جائحة كورونا، إذ اعتبرت الصين أن هذا التحقيق يستهدفها باعتبار أن الجائحة انطلقت منها.
وتمكِّن هذه الاتفاقية، التي سميت اختصارا بـ(أوكوس)، أستراليا من صناعة غواصات نووية سريعة وغير قابلة للرصد من قبل الأساطيل التقليدية، ويمكنها أن تبقى غاطسة لعدة أشهر، وقادرة على إطلاق صواريخ على مسافات بعيدة. وتقدِّم الولايات المتحدة هذه التقنية المتطورة لحلفائها المقربين فقط، إذا لم تشترك بها مع أي بلد آخر من قبل سوى بريطانيا.
لكن أهمية أستراليا لا تأتي فقط من كونها بلدا غربيا ديمقراطيا ذا ثقافة إنجليزية فحسب، بل لكونها قريبة جغرافيا من الصين، التي تتنافس مع الولايات المتحدة على النفوذ في آسيا وأوروبا، وتحاول تغيير الثقافة السياسية والطابع الاقتصادي في هونغكونغ، التي كانت إلى عهد قريب مرتبطة ببريطانيا وجزءا من العالم الغربي، وتحاول أيضا استعادة تايوان (جمهورية الصين سابقا) التي انفصلت فعليا عن البر الصيني منذ قيام الصين الشعبية عام 1949.
إضافة إلى ذلك فإن هذا التحالف الثلاثي يعكس هو الآخر توجها جديدا بعد النكسات التي تعرضت لها البلدان الثلاثة مؤخرا. فالولايات المتحدة مازالت تعاني من نكسة الانسحاب من أفغانستان التي أظهرتها منهزمة وضعيفة أمام العالم، وغير ملتزمة بتعهداتها تجاه حلفائها.
أما بريطانيا، فقد عانت تراجعا ملحوظا في نفوذها وقدراتها الاقتصادية بعد انسحابها من الاتحاد الأوروبي مطلع هذا العام، وفقدانها السيطرة الكاملة على مقاطعتي أيرلندا الشمالية وجبل طارق في أسبانيا، كنتيجة مباشرة لاتفاقية الانسحاب، وهي تتطلع إلى دور جديد في منطقة آسيا ومنطقة التقاء المحيطين الهادئ والهندي، بعد أن تراجع دورها في أوروبا والشرق الأوسط.
أما أستراليا فهي دولة غربية تقف وحيدة عند أبواب العملاق الصيني، وهي تخشى الصين عسكريا واستراتيجيا واقتصاديا أكثر من أي دولة أخرى، خصوصا وأنها ليست بمستوى قوة الصين عسكريا أو اقتصاديا، إذ يبلغ عدد سكانها 26 مليون نسمة، بينما لا يتجاوز ناتجها المحلي الإجمالي ترليون وأربعمئة مليار دولار، مقارنة بالصين التي يقترب ناتجها المحلي الإجمالي من 15 ترليون دولار.
كما أن الدول الثلاث منسجمة ثقافيا وسياسيا، فكل منها دولة ديمقراطية تتبنى الاقتصاد الحر ويتحدث سكانها الإنجليزية، والتحالف بينها أمر طبيعي بحكم الثقافة والاقتصاد والسياسة، خصوصا مع وجود منافس عملاق كالصين، يختلف عنها ثقافيا وسياسيا واقتصاديا، ويتحداها عسكريا وتجاريا، وينافسها على النفوذ في العالم.
ولم تكن الصين الدولة الوحيدة المستاءة من هذه الصفقة، فقد أعلنت فرنسا عن سحب سفيريها من كانبيرا وواشنطن احتجاجا على توقيع أستراليا على عقد صناعة الغواصات مع بريطانيا والولايات المتحدة، متخلية بذلك عن عقد كانت قد وقعته مع فرنسا عام 2016، لشراء غواصات تقليدية بكلفة خمسين مليار دولار أسترالي (37 مليار دولار أمريكي). ولم تعلن كانبيرا عن كلفة الصفقة الحالية مع بريطانيا والولايات المتحدة، لكن وزير الدفاع الأسترالي، بيتر دوتن، قال إنها “ليست رخيصة”!
واعتبرت فرنسا لجوء استراليا إلى الولايات المتحدة وبريطانيا “خيانة” لها. لكن كانبيرا تمسكت بموقفها قائلة إن المصلحة الوطنية الأسترالية تتقدم على أي التزامات سابقة كانت أستراليا قد قطعتها مع فرنسا. وقال رئيس الوزراء، سكوت موريسون، إنه يتفهم “خيبة الأمل الفرنسية” لكن “مواصفات الغواصات الفرنسية (أتاك) لا تخدم المصالح الاستراتيجية لأستراليا”، وإن حكومته أبلغت الفرنسيين بذلك منذ عدة أشهر.
لكن وزير الخارجية الفرنسي، جان لودريان، وصف العلاقات مع الولايات المتحدة وأستراليا بأنها في أزمة، مستثنيا بريطانيا من العملية لأسباب غير معروفة، ربما لأنه اعتبر دورها في الصفقة ثانويا، إضافة إلى أن العلاقة معها غير جيدة خصوصا بعد خروجها من الاتحاد الأوروبي.
الولايات المتحدة أعلنت أنها ملتزمة التزاما راسخا بتحالفها مع فرنسا، وقال المتحدث باسم الخارجية الأمريكية، نَد برايس، إن بلاده تأمل في أن تبحث الموضوع مع فرنسا أثناء انعقاد الجمعية العامة للأمم المتحدة، التي سيحضرها وزيرا خارجية البلدين، جان لودريان وأنتوني بلنكن.
وتتضمن الصفقة صناعة ثماني غواصات تعمل بالطاقة النووية، لكنها لن تحمل صواريخ نووية حسب الحكومة الأسترالية. وسوف تتولى أستراليا صناعة الغواصات في أدالايد، جنوبي أستراليا، ولكن بالاستعانة بالخبرات الأمريكية والبريطانية.
ويعتبر المشروع طويل الأمد، ولن تكتمل صناعة الغواصات خلال سنوات عدة، فأستراليا لا تمتلك البنى الأساسية اللازمة للصناعات النووية، بل ولا تسعى إلى اكتساب قدرات نووية حربية أو سلمية، حسب رئيس الوزراء، موريسون، بينما قال الرئيس بايدن إن فترة المشاورات بين المختصين وحدها تستغرق 18 شهرا.
لكنه مشروع استراتيجي كبير لمواجهة الصين، ليس لأستراليا فحسب بل لحلف الناتو والمعسكر الغربي بشكل عام. فأستراليا هي الدولة الغربية الوحيدة القريبة من الصين، والمستعدة للدخول في التحالف الغربي ضدها. وعلى الرغم من أن اليابان وسنغافورة كوريا الجنوبية والفلبين والهند، دول متحالفة مع المعسكر الغربي، وقريبة منه سياسيا واقتصاديا، إلى أنها بلدان آسيوية مجاورة للصين وقد تتضرر من إعلان مواقف مناهضة لها حاليا.
الغواصات العاملة بالطاقة النووية لها قدرات خلاقة وهائلة، فيمكنها التنقل بهدوء تام في أعماق البحار، وإطلاق صواريخ بعيدة المدى من مسافات بعيدة، وهو الأمر الذي يقلق الصين كثيرا، خصوصا وأن الاتفاق الثلاثي الأخير يتضمن مشاركة أستراليا بالمعلومات الاستخبارية والتكنولوجيا في مجالات عديدة منها الفيزياء النووية والصواريخ البالستية.
ومع تصميم الصين على استعادة الهيمنة على بحر الصين الجنوبي، فإن الدول الغربية هي الأخرى مصممة على بقاء البحر حرا ومتاحا للملاحة الدولية، وليس حكرا على الصين فحسب. ولم تكترث الدول الغربية لتحذيرات الصين المتكررة بخصوص الملاحة في بحر الصين الجنوبي، إذ أقدمت بريطانيا الشهر الماضي على إجراء تمارين عسكرية مشتركة مع الأسطول السنغافوري في بحر الصين الجنوبي، أطلقت عليها اسم “تمارين حرية الملاحة”. لكن الصين حذرت بريطانيا من ارتكاب أي “أفعال غير صحيحة” واتهمتها بأنها مازالت تفكر “بعقلية استعمارية”.
المأزق الذي يعاني منه المعسكر الغربي حاليا هو الوهن والتفكك الذي حاق به بسبب مجيء اليمين المتشدد إلى السلطة في بلدان مهمة مثل الولايات المتحدة في عصر دونالد ترامب وبريطانيا في ظل قيادة بوريس جونسون، وتبنيه سياسات انعزالية، بالإضافة إلى بروز الاتحاد الأوروبي بقيادة ألمانيا وفرنسا، كقوة جديدة مستقلة عن الولايات المتحدة.
كما أن صعود الصين كقوة اقتصادية وعسكرية في العالم، وتزايد نفوذها في مناطق عديدة قد زاد من تفكك المعسكر الغربي، إذ أن دولا عديدة مرتبطة بالمعسكر الغربي، أصبح لها مصالح وثيقة بالصين. وحتى دول الإتحاد الأوروبي القريبة من الولايات المتحدة، أصبحت تختط لأنفسها سياسات متميزة عنها. فألمانيا مثلا تجاهلت الضغوط الأمريكية بخصوص علاقاتها مع روسيا والصين، أما فرنسا، فهي الأخرى أصبحت تنتهج سياسات مستقلة في مناطق عديدة في العالم منها الشرق الأوسط.
التكتل الجديد الذي يضم الولايات المتحدة وأستراليا وبريطانيا سيكون مؤثرا عسكريا، وقد يدفع الصين لإعادة حساباتها، لكن تأثيره الاقتصادي عليها سيكون محدودا إن لم تنضم إليه دول أخرى كالاتحاد الأوروبي والدول الآسيوية المؤثرة اقتصادية كالهند واليابان وكوريا الجنوبية.
في كل الأحوال، يبدو أن العالم يقف على أعتاب حرب باردة جديدة، أو تنافس اقتصادي حاد، مسنودا بالقوة العسكرية. هل سيقود هذا التنافس إلى صدامات مسلحة؟ أم أن التسلح يهدف إلى الردع فقط؟ الأخير مؤكد، لكن السابق محتمل، وإن حصل أي صدام عسكري، فإنه سيبقى محدودا لأن تبعاته ستكون وخيمة على العالم أجمع.