منتصر حمادة

ضمن سلسلة الكتب المُخصصة لموضوع الذكاء الاصطناعي، كانت لدينا نية تأجيل الخوض في الكتاب موضوع هذه المادة إلى غاية أسابيع، والحديث عن كتاب يحمل عنوان “حرب الذكاءات: الذكاء الاصطناعي في مواجهة الذكاء الإنساني” لمؤلفه لوران ألكسندر، إلا أن صدور أحدث أعمال المؤلف بعنوان “حرب الذكاءات في زمن الذكاء الاصطناعي”، (صدر العمل منذ أسبوعين تقريباً في الساحة الفرنسية)، عَجّل بالاشتغال على هذا الكتاب في مرحلة أولى، قبل العودة لاحقاً للتعريف بكتابه حديث الإصدار، وكلاهما من الأعمال المُخصصة للخوض في معضلة الذكاء الاصطناعي الذي أصبح موضوع الساحة، في الحاضر والمستقبل.

جاء الكتاب موزعاً على مقدمة و(15) فصلاً موزعة بدورها على مجموعة من المحاور، ومن عناوين الفصول نذكر على سبيل المثال: “ربيع الذكاء الاصطناعي”، “الذكاء: المادة الأقل تقاسماً بين البشر”، “اندلاع حروب الأدمغة”، “الذكاء ليس خياراً في مدرسة المستقبل”، “أول تحول مفصلي للمدرسة: من تربية الأدمغة إلى تأهيلها”، “نحو تحالف دولي من أجل ضبط الذكاء الاصطناعي”، “الجسد والروح والمصادفة: الأقانيم الجديدة التي ستعوض الحرية والمساواة والإخاء”، “خيار حكيم من أجل التحكم في الذكاء الاصطناعي”.

أهم خلاصة في ثنائية التعليم والذكاء الاصطناعي، فهي أنّ مدرسة الذكاء الطبيعي، أي المدرسة التقليدية كما هي قائمة اليوم، ستجد صعوبات جمّة في مواجهة التطورات التي ستمارسها مدارس الذكاء الاصطناعي

المؤلف بالمناسبة طبيب فرنسي متخصص في جراحة الأعصاب، لكنه متخصص أيضاً في التكنولوجيا الحيوية وقضايا التقدم التكنولوجي عند الإنسان، ولا يشك قط في أنّ الذكاء الاصطناعي سيغزو حياتنا، بل سيتحول إلى واقع لا يرتفع في المعيش اليومي على المدى القريب، لكنّ هذا المعطى لا يهم الجميع، وإنّما نسبة من البشرية التي ستستفيد من هذا التحول الرقمي؛ وذلك بسبب ارتفاع مؤشر التعليم لديها، ولذلك يدعو في عمله هذا، وفي أكثر من مقام، إلى إحداث صلة وثيقة بين تقنيات تكنولوجيا المعلومات والتاريخ والفلسفة، لعلها تساعدنا في تبنّي قرارات تخدم مستقبل الإنسانية.

مدرسة الذكاء الاصطناعي

يروم الكتاب البرهنة على أنّ المدرسة والذكاء الاصطناعي ملفان لا يمكن فصل أحدهما عن الآخر من هنا فصاعداً، وتحديداً الذكاء الاصطناعي وعلوم الدماغ من جهة، والمدرسة والتربية من جهة ثانية، ولذلك كانت الثنائية التعليم والذكاء الاصطناعي حاضرة في أغلب مضامين الكتاب، مقارنة مع اشتغال باحثين آخرين على تأثير الذكاء الاصطناعي وتطبيقاته ذات الصلة بقطاع الشغل أو العلاقات الإنسانية أو الصراعات الاستراتيجية وقضايا أخرى، وذلك إيماناً منه بأنّ المجال التعليمي هو أرضية التحولات التي تنطلق منها معارك الإنسان المعاصر في تدبير هذه المعضلة.

من أجل هذا الغرض، يتوقف المؤلف عند واقع المدرسة خلال العقد الحالي والعقود الماضية، موزعاً أحكامه أو رؤاه الاستشرافية بين التفاؤل والتشاؤم، وإن كانت النزعة التشاؤمية طاغية بشكل أكثر، وقد يكون من أسباب ذلك نهل الرجل من مرجعية مادية صلبة إن صح التعبير، تفصل بين الإنسان والغيب، وتجعله من أهم المدافعين في الساحة الأوروبية عن مشروع “ما بعد الإنسان” [Transhumanism] الذي يُخول للإنسان أن يتحكم في جيناته وحالته الصحية وإطالة عمره بقوة التدخل التقني وأفكار من الطينة.

أن تصبح المدرسة الجديدة فائقة التقنية تحصيل حاصل حسب المؤلف، لكنّه يُخيّرنا بين أن تصبح المدرسة، ابتداءً من عام 2035 تحديداً، مدرسة ما بعد إنسانية أم لا، انسجاماً مع طرحه “ما بعد الإنساني”، وإن كان يتوقع ألّا نلج ذلك المقام لاعتبار تقني، أكثر منه اعتباراً أخلاقياً، مفاده وجود تباين بين تصنيع الذكاء الاصطناعي ودمقرطة الذكاء البيولوجي، لأنّ هذا الأخير لم يتحقق أساساً، ومن شأن هذا التباين أن يكون تهديداً مباشراً للعملية الديمقراطية، وحينها يُصبح تأهيل المناهج الدراسية مسألة مصيرية، عبر بوابة الذكاء البيولوجي من أجل مواجهة القوة التكنولوجية التي تقودها مؤسسات الذكاء الاصطناعي.

ويضيف لوران ألكسندر أن هذه السيناريوهات المستقبلية مدعاة للتحذير من إحداث التماهي بين الأدمغة البشرية وأدمغة الذكاء الاصطناعي، لأنّ هذا التماهي أشبه بثقب أسود والدخول إليه لا رجعة معه، إنّها فاشية مستقبلية علينا الحذر منها.

سوف تنتهي النقاشات حول أهم منهج تعليمي، لأنّ التطبيقات الرقمية الذكية ستكون حاضرة في طرح بدائل بيداغوجية وتربوية، حيث سيُصبح لكل فرد في القطاع التعليمي ملفه الرقمي الذي يصاحبه بشكل فوري، انطلاقاً من اللحظة التي يُفتح فيه باب المراقبة الرقمية لأدائه عبر الذكاء الاصطناعي. أمّا السياسات التعليمية بهذه الوتيرة، فسوف تصبح من اختصاص خبراء الذكاء الاصطناعي، ويستشهد هنا المؤلف بحالة البروفيسور فرانسوا تاديي، وهو باحث في المعهد الوطني للصحة والبحث الطبي، وليس مصادفة إحالة المؤلف على أعمال تاديي، لأنّ هذا الأخير يوجد في مقدمة المطالبين بتأهيل أنظمة التعليم من أجل مواجهة التحولات التقنية التي تمر منها الإنسانية في حقبة الذكاء الاصطناعي، أقلها حسب المؤلف أنّ الأطفال الذين دخلوا رياض الأطفال في الأعوام الحالية، من المفترض أن يكونوا في سوق العمل في عام 2070، والحال أنّه ليس هناك أيّ أمل في أن تكون المدارس حينها قادرة على إعدادهم لسوق عمل تنافسية في مواجهة تطورات وتطبيقات الذكاء الصناعي التي ستكون سائدة أو مهيمنة في تلك الحقبة.

أما أهم خلاصة في ثنائية التعليم والذكاء الاصطناعي، فهي أن مدرسة الذكاء الطبيعي، أي المدرسة التقليدية كما هي قائمة اليوم، ستجد صعوبات جمّة في مواجهة التطورات التي ستمارسها مدارس الذكاء الاصطناعي، والحال أنّ الاشتغال على التصدي لهذه الصعوبات المرتقبة هو التحديات نفسها التي على صانعي القرار وأهل النظر التفكير فيها منذ الآن.

النزعة الداروينية في الذكاء الاصطناعي

في هذا السياق الذي يدور في فلك التشاؤم واليأس من الأوجه الإيجابية للذكاء الاصطناعي، يرى المؤلف أنّ مدرسة الذكاء الاصطناعي مدرسة داروينية وإقصائية وذات نزوع نازي، ولا نتوقع من إدارات المنصات الرقمية المتفوقة في مجال اختبار الخوارزميات الكشف عن أحسن تلك التطبيقات، خاصة أنّ وتيرة البحث في هذا المجال سريعة، بخلاف التقدم في الذكاء الإنساني الذي يتم بشكل طبيعي وهادئ من جيل إلى آخر، عبر وتيرة داروينية طبيعية، لكنّ هذه الوتيرة تتعرض للاختراق والتشوه بسبب الداروينية الرقمية المتسارعة والعمياء، لأنّها منفصلة عن النزعة الإنسانية. الذكاء الاصطناعي بالنسبة إلى لوران ألكسندر ليس ترفاً عابراً في التاريخ، وليس ثورة صناعية كباقي الثورات، وإنّما هو مستقبل الإنسانية.

القوة التقنية التي توفرها أجهزة الكمبيوتر اليوم مع الخوارزميات تمهد وتخدم مشاريع “ما بعد الإنسان”، وتمنح الإنسان المستقبلي قدرات فائقة لم تكن قائمة أو حتى متخَيّلة بالأمس، ومن ذلك التصرف في الجينات، وتعديل الخلايا في الدماغ، وغزو الفضاء.

القوة التقنية التي توفرها أجهزة الكمبيوتر اليوم مع الخوارزميات تمهد وتخدم مشاريع “ما بعد الإنسان”، وتمنح الإنسان المستقبلي قدرات فائقة لم تكن قائمة أو حتى متخَيّلة بالأمس، ومن ذلك التصرف في الجينات، وتعديل الخلايا في الدماغ، وغزو الفضاء

وبالنسبة إلى مهندسي هذا التحول، فلا تخرج القائمة عن مؤسسات (الغافا)، أي مؤسسات (غوغل، وآبل، وفيسبوك، وأمازون) إضافة إلى (مايكروسوفت)، هذا في الشق الأمريكي، مقابل الشق الصيني المنافس في المضمار نفسه، أي مع مؤسسات (بايدو، وعلي بابا، وغزيامومي، وتيسنت)، ومعلوم أنّ أهم قاسم مشترك بين مُجمل هذه الشركات العالمية يكمن في هيمنتها على ابتكارات الذكاء الاصطناعي على الصعيد العالمي، إلى درجة حديث المؤلف عن أنّ ثنائي الصين وكاليفورنيا ربح سلفاً الحروب الرقمية دون إطلاق أدنى رصاصة، أمّا القارة الأوروبية، فثمّة إجماع من لدن الخبراء في القارة العجوز بأنّها متخلفة في هذا المضمار، ولم يخرج مؤلف الكتاب عن هذا الإجماع، معتبراً أنّ دخول أوروبا في هذا السباق العالمي جاء متأخراً من جهة، ويصبّ في مصلحة مجموعة (الغافا) من جهة ثانية.

صحيح أنه من المنتظر أن يتجاوز الذكاء الاصطناعي ذكاء الإنسان في عدة مجالات، ومنها المجالات التقنية، وكذلك في تنفيذ مهمات محددة من قبيل الحسابات البسيطة أو المعقدة والميكانيكية الدقيقة، حسب خلاصات المتخصصين في التقدم التكنولوجي، لكن في المقابل لا يوجد ما يُفيد أو يؤكد أن هذا الذكاء سيصل إلى مرحلة الوعي الذاتي في أحد الأيام.

ضبط الذكاء الاصطناعي

هل سنكون أذكياء بما يكفي من أجل ضبط الذكاء الاصطناعي؟ هذا سؤال وجيه ضمن لائحة عريضة من الأسئلة التي جاءت في الكتاب، والتي لا نملك أجوبة شافية حولها، والأمر نفسه كما هو معلوم مع مجموعة من الإصدارات التي تطرقت إلى التحديات المرتبطة بموضوع الذكاء الاصطناعي، أي كثرة الأسئلة بلا أجوبة، ولو من باب أضعف الإيمان، أي إثارة انتباه القارئ، سواء أكان صانع قرار رأي عام، أو كل المهتمين بهذه المعضلة التقنية العالمية التي لم تعد مسألة ترف فكري أو مراهقة علمية.

في سياق استحضار بعض المحددات أو العوامل التي يجب علينا أخذها بعين الاعتبار ونحن نشتغل على آليات اشتغال الذكاء الاصطناعي، يطلب منا المؤلف الانتباه إلى أهوال عالم الخوارزميات، والانتباه أيضاً إلى أن فهم طريقة عملها أصبحت عملية صعبة جداً من فرط التطورات والاكتشافات، ولهذا توصف الخوارزميات بأنها العلبة السوداء للذكاء الاصطناعي.

كما يحذّرنا أو يُنبهنا بأننا نحن، المستهلكين، والحمقى الضروريين أيضاً، نواة هذا الذكاء، لأننا سنغذي آليات الذكاء الاصطناعي في المستقبل دون أن نأخذ علماً بذلك. نحن نعتقد أنّ الهاتف الذكي هو أقصى ما ذهبت إليه هذه التكنولوجيات الرقمية بخصوص التعامل مع الإنسان وحياته الحميمية، دون أن ننتبه إلى أنّه مجرد محطة مؤقتة في التحولات الرقمية القادمة.

المادة الخام الأولى للذكاء الاصطناعي هي المعلومة التي تصدر عن الإنسان المعاصر، وبما أنّه يصل إلى الملايير اليوم، فإنّ مجمل المعلومات التي تهم هذا الرقم تصبح خزاناً غنياً تتغذى عليه الشركات الرقمية من قبيل (غوغل) و(فيسبوك)، وسوف يستمر الحال على هذه الوتيرة حتى عام 2030، لأنه ابتداءً من هذه المحطة، حسب المؤلف، سوف نعاين تطوراً كبيراً في تطبيقات الذكاء الاصطناعي، من ذلك إنتاج روبوتات متعددة الاستعمالات وبأثمنة في المتناول، ممّا سيُغير بشكل جذري من معالم سوق الشغل، لأنّ أرقام البطالة معرّضة للارتفاع بشكل مهول، إذا لم نغير أنظمة التعليم والمناهج الدراسية أمام صعود الكبير لتطبيقات الذكاء الاصطناعي.

أما الجانب المشرق في مواجهة هذه السيناريوهات التشاؤمية، فهو أنه من حسن حظنا أننا لم ننتبه إلى الإمكانات التي يملكها دماغ الإنسان، وهي الإمكانات التي لا يمكن أن يقودها الذكاء الاصطناعي، ثم إن المغامرة الإنسانية لا حدود لها، ممّا يصب في مصلحة الإنسان المعاصر والمستقبلي في مواجهة المخاطر المرتبطة بالتقنية، وربما نتائج المسابقة التي جرت مؤخراً في الساحة الفرنسية بين باحث في الفلسفة وأحد تطبيقات الذكاء الاصطناعي تزكي هذا التفاؤل، والمقصود هنا فوز الباحث الفرنسي رفائييل إتهوفن، وهو أستاذ فلسفة وإعلامي، على أحد تطبيقات الذكاء الاصطناعي في أحد اختبارات مادة الفلسفة.

المصدر: حفريات