سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
حمزة المؤدب
في العام 2020، باتت منطقة تطاوين الحدودية بؤرة أساسية للاضطرابات الاجتماعية، إذ شكّلت الاحتجاجات التي شهدتها امتدادًا لما سُمّي حراك الكامور الذي انطلق في آذار/مارس 2017 مطالبًا بخلق فرص عمل وتنفيذ مشاريع تنموية في تطاوين، وتوزيع عائدات إنتاج النفط والغاز في الولاية بشكل منصف. وفي حزيران/يونيو من ذلك العام، توصّل المتظاهرون والحكومة إلى اتفاق يضمن توفير فرص عمل وتخصيص صندوق لتنمية الولاية.
مع ذلك، وطوال العام 2020، كان المحتجّون لا يزالون يطالبون الحكومة بتطبيق بنود اتفاق العام 2017. في غضون ذلك، أدّت إجراءات الإقفال العام للتصدّي إلى فيروس كورونا، ثم إغلاق الحدود الليبية، إلى انهيار الاقتصاد الحدودي. وقد أُضيف كل ذلك إلى الانتشار العسكري في الجنوب التونسي للحؤول دون تسلُّل مقاتلين متشدّدين من ليبيا إلى تونس. وأمام هذا الوضع المتأزِّم، ما كان من المتظاهرين إلّا أن صعّدوا سقف مطالبهم وعطّلوا إنتاج النفط في المنطقة لأشهر عدة. وفي نهاية المطاف، خاض الحراك الاحتجاجي والحكومة مفاوضات مطوّلة أفضت إلى اتفاق جديد.
انطلقت احتجاجات تطاوين بسبب فشل نموذج الحوكمة التونسي الذي يستند إلى علاقات غير متوازنة بين المركز والمناطق الطرفية. فعلى مدى عقود، كان استثمار الحكومات المتعاقبة في المناطق الجنوبية أقل من استثمارها في الجهات الساحلية الشمالية، ما قوّض تحقيق التنمية المستدامة. لكن الحراك الاحتجاجي حقّق مكاسب كبرى في العام 2020، ما سمح بإعادة النظر في مفهوم التنمية الجهوية وإعادة هيكلتها بما يصبّ في صالح المركز والأطراف معًا.
على مرّ السنوات، اعتاد التونسيون في جنوب البلاد المحروم على تنظيم الاحتجاجات بشكل دوري ضد الحكومات المتعاقبة التي فشلت في معالجة جذور الفقر المدقع والبطالة وتردّي الخدمات الصحية هناك، وهي مشاكل راسخة إنما فاقمتها أزمة كوفيد 19. وحين بلغ الإحباط ذروته في 29 أيار/مايو 2020، تفجّر غضب سكان تطاوين من جديد على شكل احتجاجات ضد الحكومة لعدم إيفائها بتعهّداتها في توفير فرص العمل وتحقيق مشاريع تنموية في الولاية.
أعادت الاحتجاجات إحياء حراك الكامور الذي يحمل اسم محطة الكامور لضخّ النفط الواقعة على بعد 110 كيلومترات من تطاوين. وتُعتبر المحطة نقطة عبور رئيسة لمعظم شاحنات شركات النفط والغاز العاملة في الصحراء التونسية. وفي نيسان/أبريل 2017، احتل متظاهرون هذه المنشأة وشكّلوا تنسيقية لتمثيل المدن الواقعة في ولاية تطاوين. خاض الحراك مفاوضات مع رئيس الحكومة يوسف الشاهد آنذاك، أفضت في 16 حزيران/يونيو إلى اتفاق هشّ بوساطة الاتحاد العام التونسي للشغل.
نصّ اتفاق العام 2017 على أن توظّف شركات إنتاج النفط العاملة في تطاوين 1500 شخص من المنطقة، وأن توظّف شركة البيئة والغراسة والبستنة التابعة للدولة في تطاوين 3000 شخص إضافيين في غضون ثلاثة أعوام (1500 شخص في 2017، و1000 في 2018، و500 في 2019)، وأن تخصّص الدولة مبلغ 80 مليون دينار (29 مليون دولار) سنويًا من أجل صندوق خاص يهدف إلى تنمية جهة تطاوين.
لكن اليوم وبعد مرور ثلاث سنوات على الاتفاق، لا تزال بنوده غير منفّذة بالكامل. ففي أيار/مايو 2020، اشتكى المحتجّون من أن الدولة التي تعهّدت بتوفير 4500 وظيفة لم تؤمّن سوى 2500 (من دون أن تكون أيٌّ منها في شركات النفط). وانتقدوا كذلك صندوق التنمية الذي صُمِّم فقط ليكون متمّمًا للتمويل الذاتي أو قروض القطاع المصرفي إلى روّاد الأعمال الشباب من تطاوين، وبالتالي لم يؤثّر إلا بشكل محدود في المنطقة ككل؛ في غضون ذلك، يواجه روّاد الأعمال الشباب صعوبات كبيرة في تلبية متطلبات التمويل الذاتي وفي التعامل مع القطاع المصرفي.
وبحلول حزيران/يونيو، نصب المتظاهرون خيامًا في أنحاء عدة من تطاوين، ما قطع الطرقات أمام شاحنات شركات النفط، في تكرارٍ لسيناريو اعتصام العام 2017. اتّسمت الاحتجاجات في الغالب بطابع سلمي، إلى أن اعتقلت السلطات الناطق الرسمي باسم الاعتصام، واستخدمت قوات الأمن الغاز المسيّل للدموع ضد المتظاهرين. وقد أكسب هذا الرد الأمني العنيف الاحتجاجات تعاطفًا محليًا متزايدًا، تجلّى من خلال انضمام أعداد أكبر من الناس إلى الحشود. وصعّد الحراك احتجاجه أكثر في تموز/يوليو حين هدّد المتظاهرون بمنع الوصول إلى حقل نوارة للغاز الطبيعي.
تميّز حراك الكامور عن الاحتجاجات الأخرى بكونه مستقلًّا سياسيًا ويركّز على مطالب محدّدة مرتبطة بفرص العمل والتنمية. وقد اعتمد على وسائل التواصل الاجتماعي لنشر رسائله، وعمل أيضًا على حشد الناس في الشوارع. كذلك، لم يملك بنية قانونية، وتبنّى مقاربة تشاركية ولا مركزية. فقد نسّق عشرة أشخاص من قادة الاحتجاجات الأنشطة في المدن الواقعة ضمن ولاية تطاوين، ساعين إلى تجنّب بنية القيادة الهرمية التي كانت لتسهّل قمع السلطات. وكان المشاركون في الحراك بمعظمهم من الشباب المستائين منالأحزاب السياسيّة.
ازداد حراك الكامور راديكاليةً في العام 2020 حين رفض وساطة الاتحاد العام التونسي للشغل التي فشلت في ضمان تنفيذ كامل بنود اتفاق العام 2017. ولم تفلح المفاوضات التي خاضتها تنسيقية اعتصام الكامور مع وفد برئاسة وزير الطاقة والمناجم ووزير التكوين المهني والتشغيل في منتصف آب/أغسطس 2020، في إنهاء الاعتصام واستئناف إنتاج النفط والغاز. وردّت شركات النفط العاملة في المنطقة عبر التهديد بالتخلّي عن التزاماتها، إذ وجّهت رسالة إلى رئيس الجمهورية في 28 آب/أغسطس ناشدته فيها بحل الوضع، وتجنُّب دفع آلاف العمّال إلى البطالة. وكاد هذا التصعيد أن يتسبّب بانهيار قطاع الطاقة، وازداد قلق المتظاهرين حين بدأت شركات النفط بخفض أجور العمّال الدائمين وتسريح عدد من العمّال المتعاقدين.
ساهمت استقالة حكومة رئيس الوزراء التونسي الياس الفخفاخ في أيلول/سبتمبر في تأخير حل الأزمة، لكن سرعان ما استُؤنفت المفاوضات في تشرين الأول/أكتوبر بعد أن نجح رئيس الوزراء هشام المشيشي في تشكيل حكومة جديدة، ما أفضى إلى إبرام اتفاق في 6 تشرين الثاني/نوفمبر لبّى جميع مطالب المحتجّين، فاستؤنِف إنتاج النفط في اليوم التالي بعد إغلاق دام أربعة أشهر.
إن الأزمة الاجتماعية في تطاوين ناجمة عن الاختلالات الفادحة التي تشوب نموذج الحوكمة في تونس. وقد وُلدت من رحم أشكال مختلفة من التهميش أشعلت مرارًا وتكرارًا شرارة الاحتجاجات في الداخل التونسي كما في المناطق الحدودية. فقرابة الحدود الجنوبية، الواقعة على بعد 500 كيلومتر (310 أميال) من العاصمة تونس والبعيدة عن الجهات الساحلية حيث تصبّ المشاريع التنموية، تغيب الطرقات السريعة أو السكك الحديدية أو المطارات، على الرغم من أن المنطقة غنية بالموارد الطبيعية.
واقع الحال أن حقول النفط والغاز في تطاوين تساهم في 20 في المئة من إنتاج تونس للغاز الطبيعي و40 في المئة من إنتاجها للنفط، إلا أن تلك الجهة تعاني قصورًا فادحًا في التنمية بسبب تردّي بنيتها التحتية وشلل القطاع الخاص فيها، ولا سيما أنها تشهد نسبة بطالة تفوق متوسط نسب البطالة في جميع ولايات تونس. ففي العام 2019، سجّلت البطالة في تطاوين أعلى معدّلاتها في البلاد، إذ بلغت 28.7 في المئة، أي حوالى ضعف المتوسط الوطني البالغ 15.3 في المئة. كذلك، تسجّل تطاوين أحد أعلى معدلات البطالة في أوساط حاملي الشهادات العليا في البلاد، قُدّرت نسبتها بـ58 في المئة في العام 2017. وعلى خلاف المناطق الساحلية، تعاني المدارس في المدن الجنوبية إهمالًا كبيرًا، ولا توفّر جامعاتها سوى فرص عمل محدودة للشباب المتخرّجين حديثًا.
سعت حكومات ما بعد انتفاضة 2011 إلى إعطاء الأولوية إلى الجهات المتأخرة تنمويًا، من خلال تحويل 60 في المئة من التمويل المخصّص لبرنامج التنمية الجهوية نحو تعزيز المشاريع التنموية في الجهات الداخلية. وعلى الرغم من هذا الالتزام، بقي الاستثمار في تطاوين ضئيلًا. ويتجلّى ضعف التطبيق من خلال المعدّل المتدنّي لإنجاز المشاريع العامة. فقد أُنجز 47 في المئة من المشاريع في القصرين في العام 2015، و41 في المئة في القيروان، و41 في المئة في سيدي بوزيد.1 لكن في كلٍّ من مدنين وتطاوين، لم يُنجز سوى 7 في المئة من المشاريع العامة في العام 2013.
حذّر تقرير صادر عن المعهد التونسي للقدرة التنافسية والدراسات الكمية في العام 2018 من أن ولاية تطاوين تقبع في أدنى مستوى على مؤشّر الجذب الاقتصادي، ناهيك عن أن الخدمات العامة هناك متردية أكثر من معظم الولايات الأخرى. وحتى اليوم وفي ظل تفشي وباء كورونا، لا يزال القطاع الصحي في الجهات الداخلية والحدودية يفتقر إلى أسرّة العناية الفائقة، ناهيك عن أن المستشفى الجهوي في تطاوين يضم أدنى عدد من الأطباء المتخصّصين في البلاد (11 طبيبًا فقط).
وقعت احتجاجات العام 2020 في خضمّ سياق اجتماعي واقتصادي محفوف بالصعاب. ومن أجل فهم جذور الغضب العارم في تطاوين، لا بدّ من دراسته على ضوء ثلاثة عوامل أشعلت أزمة متشعّبة في الولاية. العامل الأول هو تدهور الاقتصاد الحدودي الذي بدأت معالمه منذ فترة طويلة بسبب الحرب في ليبيا، ومؤخرًا بسبب الإغلاق الناجم عن تفشي وباء كورونا. وقد فاقم هذا التدهور المشاكل العميقة التي تعانيها تطاوين أساسًا، إذ أدّى إغلاق الحدود إلى فقدان آلاف الأشخاص وظائفهم وحرمان أهالي المنطقة من المداخيل التي هم في أمس الحاجة إليها.
يتمثّل العامل الثاني في العسكرة المتزايدة في المنطقة بدءًا من العام 2015، عَقِب الهجمات التي شنّتها مجموعات متشدّدة تونسية تلقّت تدريبها في ليبيا. إن هذه الإجراءات المُرتجلة لم تقوّض فحسب الاقتصاد الحدودي، بل قوّضت أيضًا الزراعة الرعوية. فقد قطع الجيش طرق التهريب، ما قلّص بشكل كبير الأنشطة عبر للحدود، وأخضع مناطق واسعة إلى قيود عسكرية. وينطبق ذلك خصوصًا على بلدة رمادة الواقعة جنوب تطاوين، حيث أثارت القيود العسكرية غضبًا شعبيًا ولا سيما في أوساط الشباب، نظرًا إلى أن السكان هناك يعتمدون على أنشطة التهريب والتجارة عبر الحدود التي أوقفتها الدولة من دون توفير بدائل أخرى. لذا، كلما يطلق الجيش النار على أحد المهربين، يصبح الوضع مضطربًا للغاية، ناهيك عن التشنّجات القائمة بين رعاة الماشية والجيش لأن المناطق العسكرية قلّصت مساحات الرعي.
ويكمن العامل الثالث للأزمة الشاملة في تطاوين في نظام ملكية الأراضي القبلية القائم منذ فترة طويلة، إذ تخضع 30 في المئة من الأراضي لملكية مشتركة تديرها مجالس التصرّف القبليّة. وقد شكّل هذا النظام عائقًا في وجه الخصخصة، فضلًا عن أن تقسيم الأراضي بهذا الشكل بين القبائل، وانتشار الخلافات داخل المجتمعات المحلية على ملكية الأراضي تسبّبا بتثبيط الاستثمار في المشاريع التنموية، ما أعاق عملية إيجاد بدائل عن النفط والغاز.
وأسفر ذلك عن حدوث أزمة متعدّدة الأبعاد في ظل شعور السكان المحليين بأن النهج الأمني الذي تتبعه الدولة لا يسهم سوى في مفاقمة الإهمال الذي تعانيه الجهة. في هذا السياق، كشف أحد استطلاعات الرأي أن حوالى 90 في المئة من سكان مدينتَي بنقردان وذهيبة الحدوديتين يشعرون بإقصاء كبير يُعزى إلى تاريخ طويل من التهميش في جنوب تونس. وقد زادت هذه الأزمة حدّة العوامل التي تدفع السكان إلى الهجرة، إذ هاجر آلاف الشباب أو حاولوا الهجرة من المناطق الحدودية الجنوبية إلى أوروبا في العام 2020. ووصل ما يقدّر بـ11000 مهاجر غير موثّقين، معظمهم من الجنوب، إلى السواحل الإيطالية بين 1 كانون الثاني/يناير و31 تشرين الأول/أكتوبر. كذلك، اعتقلت السلطات التونسية، خلال الفترة نفسها، 11900 مهاجر قبل أن يتمكنوا من العبور إلى أوروبا. وتُظهر مقارنة الأرقام بين العامَين 2019 و2020 الحجم الهائل للهجرة غير الشرعية في العام 2020. ففي العام 2019، وصل 2592 مهاجرًا تونسيًا إلى إيطاليا، فيما تمّ اعتراض سبيل 3588 شخصًا.
لكن تأثير نموذج الحوكمة والتنمية المتداعي في تونس واضح على المستوى المحلّي خصوصًا، حيث أدى النقص المتواصل في الموارد البشرية والمالية إلى تردّي نوعية الخدمات العامة. ويُشار في هذا الإطار إلى أن البلديات لا تستفيد من عائدات إنتاج النفط والغاز، إذ تستأثر الحكومة المركزية بالإيرادات الضريبية بدلًا من إعادة استثمارها في الجهة. لهذا السبب، اتّهم السكان المحليون الدولة والشركات الأجنبية بسرقة ثرواتهم.
ونظرًا إلى موقع تطاوين المنعزل جغرافيًا، أدّى غياب البنية التحتية القادرة على جذب الاستثمارات المحلية أو الأجنبية إلى ارتفاع معدلات البطالة. علاوةً على ذلك، لم تسهم الصناعات الاستخراجية عمومًا في استحداث فرص عمل مستدامة، في ظل نقص الجهود الرامية إلى إيجاد بدائل للمواد الهيدروكربونية، وافتقار الولاية إلى الوسائل العملية الضرورية من أجل الشروع في تنفيذ مشاريع تنموية كبرى. لهذه الأسباب كلها، أصرّ المحتجون في جنوب البلاد على ضمان الحصول من الحكومة على الأموال اللازمة للتنمية الجهوية.
وعندما تمّ إنشاء مؤسسات لهذا الغرض، لم تتمكّن من تحقيق الأهداف التي أُنشئت من أجلها. فعلى سبيل المثال، عجز صندوق المسؤولية الاجتماعية للشركات، الذي أنشأته شركات النفط العاملة في الجهة لتعزيز قدرة المجتمعات المحلية، وتمويل المشاريع، وتوفير التدريب المهني، والمساعدة في تنويع الاقتصاد، عن تحفيز التنمية. فهذا الصندوق البالغة قيمته 18 مليون دينار (7 ملايين دولار) لم يكن كافيًا لتلبية حاجات الجهة، ولا سيما أن إدارته مسيّسة إلى حدّ كبير، إذ يشرف عليه والي تطاوين الذي يتمتع بسلطة تقديرية تخوّله التأثير على القرارات المتعلقة بالمشاريع والمناطق التي تحظى بالتمويل. في هذا السياق، يمكن أن تساعد اللامركزية والإصلاح الضريبي المحليّ السلطات المحلية على جمع المزيد من الإيرادات، وهو أمر ضروري من أجل تطبيق استراتيجية التنمية الجهوية. ويتسبّب غياب الوسائل الداعمة للتنمية في جعل تطاوين نموذجًا لمفهوم “تنمية التخلّف”، الذي يتلخّص في قيام المنطقة التي تشكّل المركز الاجتماعي والاقتصادي في بلدٍ ما باستغلال موارد المناطق الطرفية، لتوقعها في ديناميكيات تُفاقم حالة التخلّف.
ويمثّل اتفاق تشرين الثاني/نوفمبر 2020 الموقّع بين وفد يمثّل الجهة ويضمّ المتظاهرين ووفد من الحكومة المركزية، انخراط حراك احتجاجي تونسي للمرة الأولى في مفاوضات رسمية مع ممثّلين عن الحكومة. ويُظهر ذلك قدرة حراك الكامور على فرض توازن في القوى بين المركز والمناطق الطرفية، ولا سيما أن المفاوضات جرت في تطاوين، وليس في العاصمة تونس. وقد واجه الحراك تحديات عدّة، إذ تعيّن عليه التغلّب على الانقسامات بين مختلف مكوناته ووضع استراتيجية محدّدة. لكن الحصول على دعم المجتمع المحلّي في تطاوين شكّل التحدّي الأصعب بعد قرار شركات النفط تسريح العاملين بموجب عقود قصيرة الأمد وخفض أجور العمّال الدائمين بشكل كبير. وقد مارست هذه الإجراءات ضغوطًا على تنسيقية الكامور من خلال التهديد بعزل الحراك عن السكان المحليين وإغضاب العاملين في شركات النفط والغاز.
ردًّا على ذلك، لجأت التنسيقية إلى التشاور مع ممثلين من المجتمع المدني، وبرلمانيين من المنطقة، وخبراء محليين، إضافةً إلى فروع المنظمات الوطنية في المنطقة مثل الاتحاد العام التونسي للشغل، والاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية، وعمادة المحامين، والاتحاد التونسي للفلاحة والصيد البحري. وأفضت هذه المشاورات إلى تشكيل وفد يضمّ ممثلين عن هذه الهيئات للتحدّث باسم تطاوين في المفاوضات مع الدولة. وكان لهذه الخطوة هدفان: الأول، تعزيز دعم منظمات المجتمع المدني المحلية للحراك؛ والثاني، جعل الحكومة تدرك أن تنسيقية اعتصام الكامور ليست معزولة، ولا تعتزم الاستحواذ على مستقبل الجهة من خلال التصرّف والعمل باسم تطاوين من دون تمثيل حقيقي. كذلك، استوفت طبيعة الوفد ذات القاعدة الشعبية العريضة شرطًا حكوميًا بأن يتحدث الوفد باسم فئات متنوعة من سكان الولاية.
وعلى الرغم من أن الاتفاق لبىّ معظم مطالب المتظاهرين، طرح هؤلاء تساؤلات عدّة حول طريقة تنفيذ الالتزامات. سيتولّى المجلس الجهوي في تطاوين، الذي يمثّل إدارات الدولة الأساسية في المنطقة (أي التعليم والصحة والبنية التحتية والزراعة) إدارة الصندوق السنوي الذي تبلغ قيمته 80 مليون دينار والذي تم الاتفاق عليه في العام 2017 لتنمية المنطقة، على أن يترأسه الوالي. ومن المفترض أن يموّل الصندوق 1000 مشروع لتشجيع ريادة الأعمال وتنويع اقتصاد المنطقة. وسيتعيّن على المجلس ضمان إدارة شفافة للصندوق من أجل طمأنة المجتمعات المحلية، إذ سيساهم ذلك في تبديد الشكوك حول مدى استعداد وقدرة هيئة حكومية تابعة لدولة فشلت منذ وقت طويل في الاستثمار بشكل مناسب في الجنوب، على تسيير عملية ستؤثّر بشكل كبير على تنمية المنطقة.
كما أثار بندٌ ثانٍ من الاتفاق بعض القلق أيضًا، وهو تعهّد الحكومة وشركات النفط بتوظيف المزيد من سكان تطاوين. وفي ظل غياب هامش المناورة، اختارت الحكومة الاستراتيجية نفسها التي اختارتها الحكومات المتعاقبة في فترة ما بعد العام 2011، وهي استحداث المزيد من فرص العمل في شركة البيئة والغراسة والبستنة في تطاوين. ويرجع ذلك إلى أن القطاع الخاص الضعيف في الجهة لا يوفّر حاليًا سوى فرص عمل محدودة، وبالتالي فإن وقف التوظيف في القطاع العام قد يهدّد السلم الاجتماعي. في هذا الإطار، ينصّ الاتفاق على أن شركة البيئة والغراسة والبستنة في تطاوين ستوظف 1000 شخص، يُضافون إلى 2500 شخص سبق أن وظّفتهم، فيما ستوظّف شركات النفط 285 شخصًا، من بينهم 215 شخصًا كان من المقرّر توظيفهم على الفور بحلول 31 كانون الأول/ديسمبر 2020، بيد أن ذلك لم يحدث بسبب التأخير في عملية التوظيف، ما فاقم حالة فقدان الثقة في الدولة.
وستساعد الحكومة أيضًا في إنشاء مؤسسات صغيرة ومتوسطة الحجم في تطاوين من خلال توفير قروض لتمويل مشاريع لمئة شخص من رواد الأعمال الشباب (أي ما مجموعه 2.2 مليون دينار أو 800000 دولار). وفي حين قد يعزّز ذلك فرص العمل، سيطرح إنشاء هذه المشاريع والحفاظ عليها تحديًا في حدّ ذاته. فريادة الأعمال تعتمد على توافر الفرص التجارية وديناميكيات الاقتصاد المحلي، التي تُعتبر مفقودة إلى حدّ كبير في تطاوين. في هذا الإطار، تبرز مخاطر كبيرة من أن يزداد اعتماد تطاوين على النفط في حال فشلت عملية تعزيز المشاريع التنموية وتشجيع ريادة الأعمال. علاوةً على ذلك، من المستبعد أن تكون مثل هذه المساعي الجزئية فعّالة، ما لم تقترن باستراتيجية تنمية جهوية تقوم على جذب استثمارات كبرى غير نفطية لدعم المشاريع الخاصة. وفي هذا الصدد، يُعتبر إصلاح نظام ملكية الأراضي أمرًا أساسيًا، لا بل هو الخطوة الأولى نحو تحسين جاذبية المنطقة.
أخيرّا، إن أمكن التخفيف من حدة التحديات والمخاطر، قد يشكّل تنفيذ اتفاق تشرين الثاني/نوفمبر فرصةً لإعادة النظر في التنمية الجهوية وإعادة هيكلتها من أجل دمج المناطق الطرفية في الجنوب مع المركز بشكل أفضل. وتشير التنازلات غير المسبوقة التي قدّمتها الحكومة إلى أن عمليةً تنموية جديدة وشاملة قد انطلقت على قدم وساق.
على الرغم من الانتصار الذي حقّقه حراك الكامور، لا يزال الأشخاص العاطلون عن العمل في تطاوين ينتظرون رؤية نتائج ملموسة. وكانت موجة الاضطرابات الاجتماعية في العام 2020 بمثابة تذكير بأن عجز الحكومة عن الوفاء بوعودها قد يشعل إوار السخط الشعبي من جديد. في غضون ذلك، لا بدّ من مراقبة تنفيذ الاتفاق عن كثب في مناخ اجتماعي واقتصادي متدهور بسبب جائحة كورونا.
هنا لا بدّ من التساؤل: كيف ستفي الدولة بالتزاماتها في ظلّ الركود المتوقع؟ فقد بلغت الخسائر التي تكبّدتها شركات النفط بسبب تعطيل المحتجين عملية إنتاج النفط 374 مليون دينار (136 مليون دولار)، وقُدّرت نسبة الانكماش الاقتصادي الذي تفاقم بسبب أزمة كوفيد 19 بنحو 9 في المئة في العام 2020. ومن شأن الركود أن يؤدي إلى انخفاض عائدات الدولة واستمرار تردّي الخدمات العامة، كالتعليم والصحة والنقل والبنية التحتية، التي تعاني أساسًا من ندرة الموارد البشرية والمالية.
أضف إلى ذلك عقبة أخرى ترتبط بمدى قدرة الدولة على إنجاز المشاريع، وهو أمر يتطلّب إلغاء الإجراءات البيروقراطية التي تتسبّب بالتأخير، وإدارة وتنسيق مختلف بنود الاتفاق. فالمنطقة بحاجة إلى إدارة نشطة وبيروقراطيين ذوي كفاءة عالية، وهما شرطان غير متوافرين راهنًا بسبب المركزية الإدارية المفرطة والتقاعس عن إصلاح القطاع العام.
ويتمثّل أحد التحديات الخطيرة أيضًا في توفير شركات النفط الأموال اللازمة لتمويل المشاريع التنموية، وسط تراجع أسعار النفط، ناهيك عن خفض حجم الاستثمارات في قطاع الطاقة بسبب تفشّي وباء كورونا والركود الاقتصادي العالمي. تاريخيًا، لم تكن تونس محط اهتمام شركات النفط لأن نفطها لا يصدَّر بل يُباع بدلًا من ذلك إلى الدولة، ما يعني ربحًا أقل وتأخُّرًا في الدفع. يُضاف إلى ذلك أن تدهور بيئة الأعمال في جنوب البلاد والاحتجاجات والاتهامات بأن قطاع الطاقة لا يتسّم بالشفافية زادت كلّها الأمور سوءًا.
أخيرًا، يمكن القول ببساطة إن ما بدأ في تطاوين لن يبقى محصورًا هناك. فالحراك الاحتجاجي ألهم مناطق مهمّشة أخرى على التعبير عن تظلّماتها. وما إن أُبرِم الاتفاق في تطاوين بشكل نهائي، حتى بدأت ولايات قابس وقفصة والقصرين تطالب بترتيبات مماثلة، ما سيوّلد تحديات هائلة للحكومة، سواء لجهة المفاوضات أو لجهة النفقات العامة التي يقتضيها التوصّل إلى اتفاقات مماثلة.
سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
تابعوا أحدث أخبارنا وخدماتنا عبر حسابنا بتويتر