سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
ناديا أبو ساق
“هَاتُوا مَاءً لِمُلاَقَاةِ الْعَطْشَانِ، يَا سُكَّانَ أَرْضِ تَيْمَاءَ. وَافُوا الْهَارِبَ بِخُبْزِهِ”
سفر إشيعاء _ الآية: (إش 21: 14)
سبحان الله، سبحان الله، سبحان الله، تحرك أناملها دون أن تتوقف لحظة واحدة، المسبحة البيضاء طويلة تمتد لتصل إلى ركبتيها، جمعت حلقاتها في خيط لونه أخضر سميك، وتردد: سبحان الله بصوت جوهري، تمشي في التيه بلا وجهة ولا سبيل واضح، تقطع المسافات الطويلة والروابي الخضراء، مشيًا حافية القدمين، وفي المساء تعود إلى غرفتها الصغيرة المصنوعة من سعف النخيل..
كان ترديد هذه الكلمة على الدوام، سببًا كافيًا لاتهامها بالجنون (جبرتِيه) تلك العجوز اليهودية.. موت أبنائها الخمسة في حضنها، جراء غارة جوية من طائرة مصرية في حرب اليمن على نجران، ليس سببًا يشفع لها ولا يستحق الشفقة عليها، هل كانت يهوديتها السبب الأول ليقسو الجميع عليها؟ ولماذا تغير الناس اليوم؟! تكاد قلوبهم تكون أقسى من الحجارة؟ نجران تحت ظل الله الواحد، ضمت بيوت اليهود والنصارى والمسلمين على حد سواء، في زمن ما، دون كراهية أو عنصرية، كان ذنبها الوحيد أنها كانت في الجنوب وعلى حدود أرض المعركة، وليست أرض المعركة؛ لينالها النصيب الأكبر من الموت العبثي والألم. في عام ١٩٦٤مات أبناء جبرتِيه الخمسة، صغارًا عادوا إلى أحشائها دفعة واحدة. (موسى) المعلم الروحاني لليهود في تلك القرية الصغيرة بنجران – آنذاك – علَّم الشيخ يحيى العبرية كتابة وقراءة، والشيخ يحيى علَّم (جبرتِيه) آية الكرسي، فحفظتها، وأهداها مسبحة بيضاء طويلة جاء بها من مكة المكرمة بعد أن عاد من حجته الأولى. يا للعجب! لقد انتهى زمن المحبة بعد تلك الغارة الجوية، لقد ألقت تلك الطائرة على هذه الأرض كراهيتها السوداء وغطرستها الحمقاء، وعنتريتها الهوجاء، على كل ما كان تحتها ورحلت.
انتهت الحرب.. حكم على يهود نجران بالهجرة القسرية، جاء المعلم موسى يستشير الشيخ يحيى، هل يبقى في نجران أم يرحل مع قافلة اليهود المتجهة للشام؟! أجاب الشيخ يحيى بفطرته الإنسانية، وقال: لو كان الأمر بيدي، وكنت في مكانك، لرحلت مع قومي.
ودَّع المعلم (موسى) الشيخ (يحيى)، وقد بللت الدموع لحيته، وقال بعينين يملؤهما الحنين: لا بدَّ للحي من اللقاء يومًا.
بعد مضي سنوات على تلك الأحداث، تمنَّى الشيخ يحيى، لو أنه أشار على المعلم موسى بالبقاء (الله واحد، الله محبة). بقيت (جبرتِيه) وحيدة، تركها الجميع ورحلوا بعد أن فقدت عقلها.. رحل زوجها (شمعون) وأبناؤها الخمسة: (راحيل، ورفقة، ويحيى، وإبراهيم، ورابين)، ومات معهم (محمد، وجابر، ورحمة) أبناء الشيخ يحيى في تلك الغارة التي كانت هي الناجية الوحيدة من بينهم، عاشت لتسبح الله كثيرًا، وتردد آية الكرسي بقية عمرها، ولتصبح العجوز المجنونة، في أرض أصبحت هي الجنون بعينه، لا مكان فيها للمحبة مرة أخرى. وحدَه الشيخ الحسين ابن الشيخ يحيى، مَنْ يمدُّ لها يد العطف والعطاء بتوصية من والده الشيخ الوقور، شيخ الفقراء والمساكين وحارس النخيل، ذلك الذي تعلَّم أن (الإنسان أخو الإنسان وأن الله واحد في كل مكان).. ترك هذه العبارة بعد رحيله، مكتوبة بالعبرية وكذلك العربية، على جدار طيني مدونة بتاريخ ١٩٧٣.
ماتت (جبرتِيه) تحت ذلك الجدار الطيني، تستظل بظلال تلك النخلة التي زرعها الشيخ يحيى، وهي تمسك بيدها تلك المسبحة. أمّا أنا، وفي عام ١٩٩٤ حين بلغت الثانية عشرة من عمري، فكان اسم العجوز (جبرتِيه) من نصيبي كسخرية.. الجلوس على سجادة الصلاة والتسبيح بصدق يثير حنق المرائين.
كاتبة سعودية*
@nadiaali8080
سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
تابعوا أحدث أخبارنا وخدماتنا عبر حسابنا بتويتر