“ثريدز” أو خيوط التواصل أو سلسلة المواضيع، أو أيٌّ مما يعنيه هذا الإسم، ما كان ليشهد هذا الإقبال “الجنوني” إذا صح التعبير، وهذا الاهتمام الكبير، لو لم تكن شركة “ميتا” الأم، مالكة “فيسبوك” و”انستغرام” و”واتساب”، هي وراء التطبيق الجديد، ولو لم تعلن الأخيرة نيتها منافسة منصة “تويتر” العريقة، شكلا ومضمونا. الأصح، هي ليست منافسة بين منصتين بقدر ما هي مبارزة بين ملياردرين يسعى كل من جهته إلى تحقيق أرباح تجارية صرفة، وإن اختلف الأسلوب بين الصرامة والمرونة، بل والوقاحة بين الطرفين.

ماسك و زوكربيرغ في حلبة المصارعة

قد يكون ما سبق إعلان إقامة المنصة الجديدة المنافسة، هو الذي زاد “ثريدز” إثارة وانتشارا، حين دعا ماسك (52 عاما) مالك “تويتر”، غريمه مارك زوكربيرغ (39 عاما) مالك “ميتا”، الشهر الماضي، إلى حلبة مصارعة مغلقة لمبارزة جسدية حقيقية، يمضي الإثنان في تدريبات اللياقة البدنية والاستعداد جديا لخوضها، وستكون حدثا تاريخيا غير مسبوق بين مليارديرين، يعمل رئيس المنظمة العالمية للفنون القتالية المختلطة (UFC) دانا وايت بحماس على تنظيمه، في مباراة متساوية على المستوى التكنولوجي والثروة، وعلى مستوى الأنا خصوصا بين الرجلين.

و أكبر دليل على أن “ماتش” المصارعة الموعود خدم انطلاقة “ثريدز” أنه لا يكاد يخلو خبر أو مقال عن التطبيق الجديد من صورتين لماسك وزوكربيرغ وهما يرتديان قفازات الملاكمة في مواجهة أحدهما الآخر داخل حلبة للمصارعة.

لكن، هل يتذكر أحدٌ إعلان ماسك في أبريل/نيسان الماضي أن علامة “تويتر” لم تعد موجودة بعد دمجها في “إكس كورب” التي يملكها، الأمر الذي اعتبر في حينه بمثابة إعدام لـ”العصفور الأزرق”، تمهيدا لتحويله إلى تطبيق جديد يحمل اسم “أفريثينغ”، أي “كل شيء”، ويطمح أن يكون أقوى شركة تكنولوجيا مالية، “فينتك”، في العالم انطلاقا من قاعدة تحوي أكثر من 250 مليون مستخدم؟ فأين هو اليوم من هذا الإعلان؟ ولماذا لا يزال التطبيق يخوض معارك وجودية وتتلاطمه التحديات من كل حدب وصوب؟

“ثريدز” ابن الخمسة أيام

أصبح “ثريدز” في يومه الخامس شهيرا غنيا عن التعريف، واختصر الجميع جل تعريفه برقم الذين أنزلوا التطبيق على هواتفهم، حيث حصد “30 مليون مستخدم جديد خلال أول 24 ساعة من إطلاقه”، بعدما تجاوز خمسة ملايين مستخدم في الساعات الأربع الأولى لإطلاقه، متخطيا الرقم القياسي الذي سجله “تشات جي. بي. تي”، والذي استغرق 5 أيام ليجمع مليون مستخدم فقط! علما أن المقارنة لا تستوي بين تطبيق مستنسخ ويرتكز على “انستغرام” صاحب المليار و350 مليون متابع ومستخدم، ومنتج ثوري من منتجات الذكاء الاصطناعي.

لكن يبدو أن المهم للجمهور، والإعلام للأسف، أن “ثريدز” اجتذب فورا أسماء كبيرة لناشطين ومشاهير مثل كيم كارداشيان وشاكيرا وجنيفر لوبيز وهيو جاكمان، مايك بنس النائب السابق للرئيس الأميركي، وجيف بيزوس، إضافة إلى وسائل إعلام مثل “واشنطن بوست” و”رويترز” و”ذي إيكونوميست”، ومنصات مثل “هوليوود ريبورتر” و”فايس” و”نتفليكس”.

الفضل طبعا يعود إلى كون “ثريدز” يستفيد من قاعدة مستخدمي “انستغرام” التي تفوق المليار و350 مليون مستخدم. فالتطبيق الجديد لم يولد من عدم، إذ يعتبر امتدادا نصيا لتوأمه المصور “انستغرام”، حيث ينطلق من أسس صلبة تشمل، إلى جميع مستخدميه، مميزاته وخدماته، إضافة إلى إمكان نشر نصوص إلى جانب الصور والأفلام القصيرة. يرتبط التطبيقان ارتباطا وثيقا بحيث لا يمكن الولوج الى “ثريدز” إلا عبر “انستغرام”. لكن الأسوأ أو المقلق أنه لا يمكن أيضاً حذف “ثريدز” من دون حذف حساب “إنستغرام” في الوقت نفسه. فهل يكون ذلك معوقا لانتشار التطبيق في وقت لاحق؟ علما أنه سبق لزوكربيرغ إطلاق خدمة “ثريدز” عام 2019 كجزء من “انستغرام” بهدف منافسة “سنابشات” آنذاك، إلا أنها لاقت فشلا ذريعا دفعه إلى وقفها والاستغناء عنها بعد عامين، ناهيك عن فشل رهاناته على العملات المشفرة و”ميتافيرس” في السنتين الأخيرتين.

اختراق وقح للخصوصيةثلاث سمات رئيسة تميز “ثريدز” عن “تويتر”، أولاها عدد أحرف النصوص الذي قد يصل إلى 500 عبر “ثريدز” بينما لا يزال محدودا عند 280 حرفا في “تويتر”. لطالما تغنى أنصار العصفور الأزرق الأوائل من المحترفين، بعدد الأحرف القليل جدا الذي كان يسمح به تطبيق “تويتر” منذ سنوات، مقارنة بوسائل التواصل الأخرى آنذاك، وكم كان ذلك يمثل تحديا لاختصار الكلام بالمفيد والهادف والعميق، عملا بمقولة “خير الكلام ما قل ودل”.

السمة الثانية، فهي إمكان نشر أفلام قصيرة تصل مدتها إلى خمس دقائق خلافا لـ”توتير” حيث مدة الفيلم القصير محددة بدقيقتين ونيف. ربما يشكل ذلك عامل جذب أكبر لمستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي الساعين إلى نوافذ لترويج أعمالهم ومنتجاتهم، علما أن وفرة التطبيقات التي تقدم هذه الخدمة، في مقدمها “تيك توك”، الرائد في حقله، تدفع إلى أن تكون المنافسة عكسية، بحيث يتلقى المستخدمون أكبر عدد من المعطيات في أقصر وقت من دون الشعور بالملل أو فقدان الحماسة لمتابعة الناشر.

أما السمة الثالثة، التي تستحق الوقوف عندها، فهي تمادي “ميتا” الوقح عبر تطبيقها الجديد في انتهاك خصوصية المستخدمين، وعملها على جمع أوفر عدد من البيانات الشخصية (في نحو 25 فئة) تعتبر حساسة، وصلت إلى حد السؤال عن الصحة واللياقة، والمعلومات المالية، ومعلومات الاتصال، وسجل البحث والمشتريات، بل والعنوان الفعلي للمستخدم من بين أمور أخرى.

في نهاية المطاف، تعتاش هذه التطبيقات على عوائد الإعلانات، بمئات ملايين الدولارات، ولا تتوانى عن استغلال بيانات مستخدميها لملء حسابات شركاتها وتحقيق أرباح طائلة على حساب خصوصيتهم.

وعلى الرغم من كون “ثريدز” لا يزال خاليا من الإعلانات في مراحله المبكرة، الا انه كلما اخترقتَ حياة عميلك أكثر، كان العائد أكبر. فهل تطلب “ميتا” مثلا في يوم من الأيام إدخال بيانات عرقية أو إثنية أو معلومات عن ميول اجتماعية أو أوضاع عائلية، أو الإعاقة، أو المعتقدات الدينية أو الفلسفية أو المواقف السياسية أو المعلومات الجينية أو البيانات البيومترية؟ هذه الخاصية، قد تعوق التطبيق الجديد، الذي أطلق في 100 دولة حتى الآن من بينها المملكة المتحدة، من الدخول إلى الاتحاد الأوروبي، حيث الأنظمة الصارمة والقواعد المشددة التي يفرضها قانون الأسواق الرقمية الجديد على شركات الإنترنت الكبرى من حيث استخدام البيانات الحساسة للإعلانات دون الخضوع للموافقة، بحسب ما ذكرته لجنة حماية البيانات في إيرلندا.

هذا ما لا تجده عبر تطبيق “تويتر”، الذي يجمع معلومات من المستخدمين أثناء استخدامهم للمنصة وعند تصريحهم بها، أو عندما يتلقى “تويتر” بيانات من أطراف ثالثين، وفقا لسياسة الخصوصية الخاصة بالتطبيق.

من جهة أخرى، يراعي “ثريدز” من خلال اعتماده على بروتوكول “أكتيفيتي باب” (ActivityPub) رغبة المستخدمين في ترك المنصة يوما ما دون خسارة المتابعين حيث يمكن نقلهم إلى أي منصة بديلة يختارها هؤلاء المستخدمون، كنوع من المرونة والانفتاح الذي تبديه “ميتا” في مقابل القيود التي لا ينفك تطبيق “تويتر” يفرضها على المشتركين. آخر هذه القيود إقدام ماسك على فرض “قيود موقتة”، كما وصفها، على عدد المشاركات التي يمكن مستخدمي المنصة مشاهدتها في يوم واحد، فحدها عند 10 آلاف منشور للحسابات الموثقة بعلامة زرقاء، التي تدفع رسوما، وكذلك الحسابات غير الموثقة منها عند ألف منشور، وسط تذمر المغردين، بذريعة معالجة سحب البيانات من أطراف ثالثين، لا سيما تلك التي تعتمد على الذكاء الاصطناعي، والتلاعب بنظام المنصة.

يوم ضاعت المعايير!

في سجل “ميتا” سوابق كثيرة في خرق متطلبات اللائحة العامة لحماية البيانات الأوروبية (GDPR)، وانتهاك بيانات المستخدمين من الاتحاد الأوروبي بشكل سافر، عبر نقلها إلى الولايات المتحدة، مما كبدها غرامة مالية مقدراها نحو 1,3 مليار دولار في مايو/أيار الماضي.

وعلى الرغم من أن تلك الواقعة كانت تتعلق بـ”فيسبوك”، إلا أنه، ومن حيث المبدأ، يمكن تطبيق المتطلبات نفسها على خدمات “ميتا” الأخرى، من بينها “ثريدز”، وهو في مرتبة أعلى من استغلال البيانات. كذلك خضعت “ميتا” لغرامة في يناير/كانون الثاني الماضي بأكثر من 410 ملايين دولار من الاتحاد الأوروبي أيضا، للأسباب نفسها، مع دخول “انستغرام” على الخط. هذا عدا فضيحة “كمبريدج أنالاتيكا” التي كشفت سماح “ميتا” لشركة الاستشارات السياسية البريطانية بالوصول إلى البيانات الشخصية لمستخدمي “فيسبوك” في الفترة التي سبقت تحول الأخير إلى “ميتا”.
فهل يتغاضى المستخدمون عن كل تلك الأمور في سبيل إطلاق العنان لمنشوراتهم على منصة مجانية تكفل لهم حرية التعبير التي افتقدوها في “تويتر”؟

ضعف “تويتر” رافعة لـ”ثريدز”

من الواضح أن “ثريدز” لا يقدم شيئا جديدا سوى أنه فتح الباب لاستقبال المستخدمين “اللاجئين” من “تويتر”، والهاربين من التغييرات الحادة، وأحيانا غير المنطقية، التي طرأت على سياسات التطبيق منذ استلام ماسك زمام الأمور، والتي لا تزال تثير جدالا.

لا يعتمد زوكربيرغ في “ثريدز” على عضلات “انستغرام” واخواتها فقط، بقدر اعتماده على ضعف “تويتر” الإداري الذي ترجم بانخفاض عائدات “تويتر” الإعلانية في الولايات المتحدة بنسبة 59 في المئة مقارنة بالعام المنصرم الذي سجل نحو خمسة مليارات دولار وفقا لـ”نيويورك تايمز”، وهو الذي يعتمد في 90 في المئة من عائداته على الإعلانات. فما يسمى “قاتل تويتر” تتزامن انطلاقته الصاروخية مع الكفاح الذي يخوضه “تويتر”، وماسك تحديدا، لتحقيق الإيرادات. وكان “تويتر” تلقى ضربة موجعة في هذا المجال حين خفض أكبر عشرة معلنين على المنصة إنفاقهم بنسبة 89 في المئة، من 71 مليون دولار إلى 7,6 ملايين دولار خلال شهري سبتمبر/أيلول وأكتوبر/تشرين الأول من العام المنصرم  تبعا لاستحواذ ماسك على المنصة، بحسب تقديرات شركة “سانسور تاور” للأبحاث.

ياكارينو الأمل الأخير لـ “تويتر”

في سعي منه لإنقاذ ما تبقى من التطبيق، استقال ماسك من منصبه كرئيس تنفيذي لـ”تويتر” محتفظا لنفسه بدور بارز في الشركة كرئيس مجلس إدارة تنفيذي ورئيس قسم التكنولوجيا، ليعين مكانه ليندا ياكارينو، رائدة حقل الإعلانات، التي عرفت من خلال منصبها السابق كمديرة تنفيذية في “إن. بي. سي. يونيفرسال”، مراهنا على جهودها لـ “تحسين العلاقات مع العلامات التجارية”، منها “جنرال موتورز” و”يونايتد إيرلاينز”، وجهات أخرى من مشاهير وشخصيات سياسية وغيرهم من أطراف مؤثرة، الذين عمدوا إلى هجر “تويتر” كمشاركين أو معلنين إلى منصات أخرى بديلة، أبرزها “بلوسكاي” و”ماستودون” و”بوست”.

وقد استاء هؤلاء من إجراءات ماسك، ومنها السماح بعودة حسابات المتطرفين وحظره العديد من الصحافيين، وطرد مديري المحتوى الساهرين على التعامل مع خطاب الكراهية، وبعض سلوكيات ماسك العنصرية والتغريدات المثيرة للجدال، إضافة إلى سخط موظفيه وصنّاع المحتوى وعشاق التغريد.

حتى أن رئيس “تويتر” التنفيذي السابق، جاك دورسي، سبق أن انتقد قيادة ماسك لـ”تويتر”، قائلاً في أبريل/نيسان الماضي إن “كل شيء ذهب جنوبا”، في إشارة إلى التغيير السلبي لوجه المنصة والخسائر التي منيت بها على الصعيدين العملي والمالي. أما دورسي نفسه، فقد أطلق منذ فترة تطبيقا يعتبر بديلا من “تويتر”، واليوم منافسا لـ”ثريدز”، تحت مسمى “بلوسكاي سوشال” (Bluesky Social)، وهو لا يزال خاضعا للاختبار، من دون جدول زمني واضح ليصبح الموقع عاما.

ويعتبر لو باسكاليس، مؤسس شركة “إي. جي. أل” للاستشارات الإعلانية ورئيس التسويق السابق في “بنك أوف أميركا”، أن ياكارينو هي “آخر أفضل أمل” لماسك لإنقاذ عائدات الإعلانات وقيمة الشركة، وأن صدقية ياكارينو وحدها قد لا تكون كافية للملمة الفوضى التي أحدثها ويحدثها ماسك في “تويتر”.

“ميتا” وثقافة الاستنساخ والفشل

تاريخ “ميتا” ملطخ باستنساخ التجارب والتطبيقات والأعمال الناجحة، لكنها لم تتمكن من إعادة إنتاج هذه النجاحات إلا في ما ندر. من هذه النجاحات “انستغرام ستوريز” الذي يحاكي ميزات “سناب ستوريز”، وهي في خضم استنساخ نجاح “تيك توك” الذي لا يزال يحتاج إلى كثير من الزخم، كما فشل “فيسبوك” في محاولته استنساخ خدمة الرسائل الإخبارية الخاصة بـ”سابستاك” من خلال “بوليتن” عام 2021. هذا عدا التطبيقات التي أطلقتها “ميتا” في مراحل سابقة وتعثرت جميعها وجرى اقفالها، مثل “سلينغشات” و”بايبر” و”رومز” و”أي. جي. تي. في.” وفقا لمايك برولكس، مدير أبحاث “فوريستر”.

قد تبرر هذه التجارب التحليلات الأولية التي رأت أنه على الرغم من التحديات التي يواجهها “تويتر”، يتوقع أن يواجه “ثريدز” المستنسخ، عقبات كبيرة في محاولته التغلب على التطبيق العريق، وأن المعركة ستكون شاقة لكسب حصة في السوق.

يقر زوكربيرغ بأن الحرب ستطول، وهو القائل عند سؤاله عما إذا كان “ثريدز” سيطغى على “تويتر”، إن الأمر “سيستغرق بعض الوقت، لكن أعتقد أنه يجب أن يكون هناك تطبيق للمحادثات يجمع أكثر من مليار انسان”، وهي رؤية طموحة يرى زوكربيرغ أن “تويتر” أضاع الفرصة لتحقيقها.

فهل تصدق التوقعات ويتربع “ثريدز” على عرش منصات النصوص، أم أن رصيد “تويتر” وأنصاره الخلص والمرموقين سيبقونه في الصدارة؟ لعل في تغريدة ياكارينو اللماحة تعليقا على خطوة زوكربيرغ ما يؤشر بمسقبل أم المعارك بين “ثريدز” و”تويتر”، اذ غردت قائلة: “غالبا ما يتم تقليدنا، لكن لا يمكن أبدا تكرار مجتمع تويتر”.

تعلمنا من التجارب أن المضمون يفوز في نهاية المطاف.