سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
محمد أبو الفضل
حققت السلطة الانتقالية في السودان والجبهة الثورية نقلة نوعية مهمة بالتوقيع أخيرا على اتفاق السلام في جوبا. وتسعى الحكومة حاليا لاستكمال الخطوة باستيعاب حركات مسلحة غير منضوية تحت لواء الجبهة الثورية لتعزيز السلام الشامل، الذي يمهد الطريق لتأسيس سودان جديد يستطيع التكيف مع المعطيات الإقليمية والدولية.
يرتبط إنهاء الصراعات في البلاد بما هو أكبر من الوصول إلى درجة عالية من الأمن والاستقرار. فالسلام محدد رئيسي لنجاح أو فشل السلطة الراهنة وقدرتها في الحفاظ على وحدة الدولة ومنع تآكلها.
تتوقف عليه الكثير من التطورات الداخلية، وبدونه يصعب تنفيذ مكونات الوثيقة الدستورية التي رسمت معالم طريق للمرحلة الانتقالية، وهو يساعد على التفرغ لحل الأزمات الاقتصادية التي تراكمت وأصبحت تمثل عبئا مضنيا.
رهنت دول عديدة مساعداتها للسودان بتحقيق السلام، بعد أن انتابتها تخوفات من كثافة التهديدات التي يمكن أن تعرقله، واتساع الهوة بين الحكومة وبعض الفصائل المسلحة. وبالتوقيع على اتفاق جوبا تراجعت معالم الهواجس الثقيلة، ولاحت في الأفق بوادر لتثبيت الأمن، وترسيخ السلام، الذي يعني أن السودان يطوي صفحات قديمة، ويقطع علاقته بماض ارتسمت على صفحاته الكثير من الملامح القاتمة.
نجحت السلطة الانتقالية بشقيها المدني والعسكري في بناء جملة من التوازنات الدقيقة، مكنتها من تجاوز سلسلة كبيرة من العقبات اعترتها منذ تأسيسها قبل نحو عام. وأسهمت في تخفيف نسبة الضغوط التي طالبتها باستعجال التوقيع على اتفاق السلام.
بموجب هذه التوازنات بدأ السودان يتخطى المشكلات التي تناثرت على جانبي المفاوضات. حيث أمعنت بعض الحركات المسلحة في رفع سقف مطالبها السياسية والاقتصادية، وحاولت أخرى توظيف العثرات والارتباكات لتفشيل المرحلة الانتقالية.
جمعت الحكومة السودانية خيوطا كثيرة، أكدت لها أن فلول نظام الرئيس السابق عمر البشير لن تتوانى عن التطلع للعودة إلى السلطة، وهي مدعومة من قوى خارجية.
ويكفي أن المتحدث باسم الحكومة ووزير الإعلام فيها، فيصل محمد صالح، اعترف مؤخرا بأن هناك جهات استخباراتية ودولية تعبث في شرق السودان، بما يفيد أن الكثير من الأزمات التي طفت على السطح في أماكن متفرقة كانت بفعل فاعل خارجي وجد في بعض الثغرات المحلية مدخلا لتعطيل الطريق إلى السلام.
كشفت أحداث الأشهر الماضية، أن السودان عنصر مهم في المنظومتين الإقليمية والدولية. فالأولى عبرت عن اهتمامها بوساطات أفريقية بين قوى وأحزاب وحركات مختلفة وصولا إلى اتفاق جوبا.
والثانية زادت من تحركاتها لاستطلاع مصير البلاد، ومع كل القلق الذي انتاب بعضها، غير أن غالبيتها راهن على ظهور دولة حديثة، تتنصل من الميراث الذي شدها إلى الخلف، ويتعلق بالتوترات والحروب الأهلية الواسعة، والعلاقة مع التنظيمات المتطرفة.
طوى اتفاق السلام جوانب مهمة في هاتين الصفحتين، ويتوقف إغلاقهما تماما على تجديد الدماء في جسم المرحلة الانتقالية التي ستشارك في جزء آخر منها الجبهة الثورية، حيث سيعاد تقسيم السلطة بما يمكن من انضمام حركات وتنظيمات عملت طويلا في صفوف المعارضة المسلحة.
وهو ما يستلزم مرونة عالية لتقريب المسافات السياسية والعسكرية، ووضع توازنات تأخذ في حسبانها طبيعة المعطيات الجديدة، كي لا تؤدي إلى مناوشات تؤثر على وحدة السلطة وتطلعاتها لتجاوز المشكلات.
تضع الحكومة آمالها على الولايات المتحدة في رفع اسم السودان من القائمة الأميركية للدول الراعية للإرهاب، وتلقت وعودا في هذا الاتجاه، لأن الخطوة تمثل حياة للاقتصاد الذي يعاني من أزمات كبيرة.
ولم يعد المواطنون قادرين على تحمل المزيد من التداعيات السلبية. ووجدوا في التسويات المادية التي عقدتها الخرطوم مع واشنطن بشأن القضايا الخلافية وسيلة لتخفيف هذه المعاناة.
أقامت السلطة السودانية توازنات مختلفة مع الإدراة الأميركية لإنهاء أزمة ملف الإرهاب، لكنها وجدت عقبات غير مبررة خلال الفترة الماضية في الوفاء بما جرى التفاهم حوله، إلى أن بدأت ترشح معلومات قوية ربطت بين رفع اسم السودان بالتطبيع مع إسرائيل، والذي تحول إلى قضية جدلية لها مؤيدون ورافضون ومتحفظون.
دخلت هذه المسألة على الخط، وأرخت بظلالها على التوازنات الخارجية التي تقيمها الخرطوم، حتى رمت الحكومة كرة التطبيع في ملعب الشعب، وأشارت إلى أنه صاحب القرار في الموافقة أو الرفض. من هنا ارتفعت بورصة المزايدات السياسية، وكاد ملف التطبيع يتحول إلى كرة لهب تشتعل في كل من يقف في صفها، بما اضطر السلطة إلى توصيل رسائل متناقضة، بعضها ضد التطبيع، وغالبيتها معه باعتباره السبيل لحل جزء معتبر من أزمات السودان.
تختلف التوازنات في هذا الملف عن نظيرتها بالنسبة للسلام. ففي الأول تخيم الحسابات المعقدة، والتي لا أحد يعرف مداها، حيث يمكن أن يفضي داخليا إلى الاستقرار في نفق يصعب تحديد نهايته، وهل سوف تكون إيجابية أم سلبية؟
بينما بدت الأمور أكثر وضوحا في ملف السلام، فلا يوجد خلاف حوله، وإن وجد فهو يتعلق بتفاصيله وأطره ومحدداته، لأن المبدأ موجود ويحظى بإجماع عليه، بينما تحول ملف التطبيع إلى إشكالية بحاجة إلى جرأة وتحمل ما ينطوي عليه من تبعات.
يعتبر التعامل مع قضية التطبيع أحد أبرز التحديات التي تواجه السودان حاليا، لأن من طرحوه ومن يتعاملون معه يتصورون انه قادر على تسوية جميع الأزمات، وكأنه الفانوس السحري الذي يعبر بالبلاد إلى بر الأمان.
ومهما كان التقدير حياله، فهو خطوة كبيرة، تحتمل أن تكون قفزة في الهواء، لأن السلطة الانتقالية لم تستقر بعد، وتواجه بحزم كبيرة من المشكلات، بعضها يمكن أن يؤدي إلى أزمات هيكلية.
لذلك جرى اختيار التمهل في اتخاذ القرار لحين تهيئة البيئة المناسبة، وقياس حدود ردود الأفعال الداخلية، والتأكد من حجم المردودات الإيجابية للخطوة، وطريقة التعامل معها لاحقا. فالسودان يتنفس ويأكل ويشرب سياسة، وينام ويستيقظ عليها وهي ميزة مفيدة ومضرة أيضا. مفيدة في ارتفاع مستوى التفكير العملي، ومضرة إذا ركبت فوق التطبيع قوى انتهازية. الأمر الذي يجعل توازنات السودان الجديد أكثر حساسية.
المصدر: المرصد المصري
سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
تابعوا أحدث أخبارنا وخدماتنا عبر حسابنا بتويتر