سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
بعد خمس سنواتٍ من محاولة الانقلاب الفاشلة التي طالت نظامه، يبدو الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، في مأمن من محاولات انقلاب جديدة. ولكن بأي ثمن؟ في هذا المقال سنرى أن التعذيب أصبح أداة سارية يستعملها النظام التركي ذو التوجه الإسلاموي؛ للجم معارضيه وقمع مواطنين أتراك لمجرد الاشتباه بهم.
إسطنبول (تركيا). “نورسينا”، هي شابة تركية تبلغ من العمر 21 ربيعاً؛ كان من المفترض أن تتفرَّغ لدراسة الطب، وأن تحلم بمستقبلٍ زاهر، وأن تعيش بعيداً عن مشكلات لا تناسب سنَّهَا، لكن منذ اختفاء والدها في ظروفٍ غامضة، منذ ما يقارب ستة أشهر، انقلبت حياتها إلى جحيم؛ خصوصاً بعد أن وجدت أبواب الجهات الرسمية التركية موصَدَةً أمامها.
والد “نورسينا” هو “حسين غالب كيسيكزيجيت”، 49 سنة، كان يوم المحاولة الانقلابية الفاشلة يشغل خطة موظف سامٍ لدى مصالح الوزير الأول، آنذاك، (أردوغان)، ويتمتع بصيت في الإدارة التركية. لم يشارك بصفة مباشرة في تلك المحاولة الانقلابية؛ لكن هذه المغامرة العسكرية التي لم تدم إلا بضع ساعات كانت كافية لتدمير حياته، حيث تعتبره السلطات التركية عضواً ناشطاً لدى جماعة الداعية فتح الله غولن، التي يتهمها حزب العدالة والتنمية الحاكم، بتدبير محاولة الانقلاب الفاشلة التي حدثت في صائفة 2016.
أثناء حديثنا معها، عبر الشبكة الاجتماعية، كانت الشابة “نورسينا” مترددة في الإجابة عن أسئلتنا، وأدركنا أنها كانت تتجنَّب الخوض في قضية والدها؛ وذلك خوفاً من ردة فعل سلطات بلادها. فبعد فصله من وظيفته تم سجن والدها احترازياً في انتظار محاكمته.
في يوليو 2019 أدانته المحكمة الابتدائية وقضت بسجنه لمدة ست سنوات وثلاثة أشهر؛ وهي العقوبة الدنيا التي عوقب بها الكثير من أتباع عبدالله غولن الذين تمت محاكمتهم. لكن بعد استئناف الحكم الابتدائي تم إطلاق سراح والد “نورسينا” في انتظار إعادة محاكمته؛ بينما في نهاية سنة 2020 حدثت تطورات جديدة قلبت حياة “نورسينا” رأساً على عقب. فوالدها المنفصل عن زوجته كان يعيش وحيداً في أنقرة. في التاسع والعشرين من ديسمبر 2020 هاتف “حسين غالب كيسيكزيجيت” ابنته “نورسينا”، التي تُقيم في إسطنبول، وأعلمها أنه قرر زيارتها وقضاء عطلة رأس السنة الميلادية برفقتها؛ ولكن بعد بضع ساعات من إجراء هذه المكالمة الهاتفية انقطعت أخباره، فلا أحد من عائلته ومن أصدقائه يعلم أين ولماذا وكيف اختفى؛ خصوصاً أن سيارته تبخرت أيضاً في ذات اليوم الذي كان من المقرر أن يسافر فيه إلى إسطنبول.
منذ ذلك التاريخ بدأت الشابة “نورسينا” رحلة البحث المضني عن والدها المفقود؛ حيث إنها ما انفكت تتردد على مختلف المؤسسات الأمنية والقضائية، أملاً في الحصول على معلومة تساعدها على معرفة ما حدث لوالدها أو على الأقل معرفة المصير الذي لقيه بعد اختفائه.
في كلِّ مرة تتلقى “نورسينا” رواية رسمية تزعم أن والدها فرَّ إلى خارج البلاد؛ خصوصاً أن العديد من أتباع عبدالله غولن لجأوا إلى اليونان المجاورة. “نورسينا” لا تؤمن أبداً بصدقية هذه الرواية المزعومة التي يرددها على مسامعها كل المسؤولين الأتراك التي اتصلت بهم أو كاتبتهم من أجل معرفة مصير والدها؛ فهي تؤكد أن هذا الأخير كان مقتنعاً بأن محكمة الاستئناف ستبرئه من التهم التي وُجِّهَتْ إليه.
وتضيف أنه لو حدث وأن محكمة الاستئناف أقرَّت الحكمَ الابتدائيَّ أو قامت بتشديده؛ فإن إنفاذ العقوبة سيتطلب حيزاً من الزمن لا يقل عن ثلاث أو أربع سنوات. وعلى خلاف السلطات الرسمية، تدحض “نورسينا” فكرة فرار والدها إلى خارج البلاد، مؤكدةً أنه ليس من المنطقي ألا يتصل بها والدها هاتفياً لإخبارها بمكان وجوده إذا ما افترضنا أنه في مكان آمن.
منذ اختفاء والدها، ما انفكت الشابة “نورسينا” تطرق أبواب مختلف الأجهزة الأمنية والقضائية التركية التي لا تبدو متحمسة لفكرة كشف لغز تبخُّر والدها؛ فالسلطات التركية ترفض فتح تحقيق جدّي حول هذه القضية. كما أنها ترفض الإذن باستعمال تقنية تحديد مواقع الهواتف النقالة التي تمكِّن من معرفة الأماكن التي ارتادها والدها قبل وبعد اختفائه.
وتزعم ذات السلطات أن سجلات المشتركين لا تشير إلى وجود رقم هاتف خليوي باسمه؛ ولكن أمام إصرار ابنته وإحضارها ما يفيد امتلاك والدها رقم هاتف خليوي عمدَ بعض المحققين المُكلَّفين بالملف إلى استبدال رقم هاتف وهمي برقم الهاتف الحقيقي؛ وذلك لتضليل شركة الهواتف النقالة، ومن ثمَّ دفعها إلى عدم الاستجابة لطلب تحديد موقع هاتفه الخليوي. كما ترفض ذات السلطات البحث في سجلات كاميرات المراقبة المُثَبَّتَة في مختلف أنحاء الحي الذي يقطنه والد “نورسينا”.
بعد رحلة بحثٍ مضنية وغير مجدية، خلصت الشابة “نورسينا” إلى أن والدها تم اختطافه وإخفاؤه قسرياً. ولما سألناها عن الجهة المسؤولة عن هذه الأفعال غير القانونية، اعتذرت عن عدم ذكر جهات أو أسماء بعينها، معللةً ذلك بخشيتها من مزيد من تعقيد وضعية والدها المختفي ووضعيتها هي أيضاً؛ خصوصاً أنها لا تزال تعيش في تركيا ولا تفكر في مغادرتها.
في بيانٍ صادر في الثامن من يناير 2021، أعلنت منصة منتصبة في مدينة بروكسل البلجيكية، وتضم عدداً من الدبلوماسيين الأتراك المقيمين خارج تركيا والمحسوبين على تنظيم عبدالله غولن، والذين تم فصلهم من وظائفهم، أن “حسين غالب كيسيكزيجيت” تم اختطافه من قِبل السلطات؛ وهو يخضع للتعذيب مثله مثل ثلاثين مواطناً تركياً اختفوا في ظروف مماثلة.
وفي تصريح خصَّ به موقع “ميديا بارت” يقول “حسين كونوس”، مدير هذه المنصة، إن طريقة وظروف خطف هؤلاء الأشخاص المتهمين بالضلوع في المحاولة الانقلابية تتشابه كثيراً؛ حيث يحدث هذا النوع من العمليات عادة في وضح النهار وأمام المارة.
في كل مرة تتوقف سيارة مدنية، وتنزل منها مجموعة من الأشخاص يحملون زياً مدنياً، ويقدِّمون أنفسهم على أنهم موظفون في جهاز المخابرات التركية. يقومون باقتياد الشخص المشتبه به إلى مكان غير معلوم ويحتجزونه، ومن ثم يقومون بالتحقيق معه على وقع التعذيب والترهيب لمدة تتراوح بين بضعة أيام وعدة أشهر.
وعند الانتهاء من التحقيق معه يظهر المشتبه به فجأة ومن جديد عادة في مخفر للشرطة أو مقر مغاير تابع للمخابرات؛ فجهاز المخابرات التركية يملك عدة مبانٍ تحت تصرّفه؛ من أهمها مبنى قريب من القصر الرئاسي بأنقرة يُسمى “المزرعة”، أين يقع احتجاز المشتبه بهم وتعذيبهم بعيداً عن أعين الفضوليين والشهود.
في تقرير صادر في التاسع والعشرين من أبريل 2020، قالت منظمة “هيومن رايتس ووتش”، التي تُعنى بحقوق الإنسان في العالم، إنها جمعت معلومات وشهادات متواترة عن 24 حالة اختطاف وتغييب قسري لمشتبه بهم في تركيا منذ فشل المحاولة الانقلابية، وإنها تُحقق في مصير ستة عشر منهم.
وأفاد نفس التقرير أنه ليس من اليسير الحصول على شهادات حية حول هذه المسألة؛ نظراً إلى أن غالبية الشهود لا يزالون يقيمون داخل الأراضي التركية ويخشون انتقام السلطات منهم. أحد هؤلاء الضحايا يُدعى “كوخان تركمان” كان قد صرَّح أمام هيئة المحكمة التي حاكمته بتهم مختلفة، بأن أعواناً تابعين لجهاز المخابرات التركية اختطفوه من أمام منزله ذات يوم من شهر فبراير 2019، ثم قاموا باحتجازه قسرياً طيلة 271 يوماً؛ حيث كان معصوب العينين ومكبَّلَ اليدَين والرجلَين طيلة مدة احتجازه. كما تم تعذيبه مراتٍ عديدة وبطرق مختلفة؛ أهمها حرمانه من الأكل والشرب والنوم. بعد انتهاء مدة احتجازه القسري تم إيداعه السجن الاحترازي في انتظار محاكمته.
باستثناء “حسين غالب كيسيكزيجيت” وشخص آخر لا يزال هو أيضاً مفقوداً، ظَهَرَ جميع المحتجزين من جديد في مخافر للشرطة بعد فترات متفاوتة من الاحتجاز المرفق بالتعذيب وسوء المعاملة.
حول هذا الموضوع لا تتهم منظمة “هيومن رايتس ووتش” جهاز المخابرات التركية بالضلوع مباشرة في عمليات احتجاز وتعذيب الضحايا؛ لكن ذات المنظمة تؤكد أن هذه العمليات خارج القانون تتم بإذن وعلم هذا الجهاز، حيث إن قانوناً صدر بتركيا سنة 2014 يمنع على المدَّعي العام التركي التحقيق مع أعوان جهاز المخابرات دون إذن رئيسه.
كما لم تلقَ هذه القضية أي اهتمام لدى الصحافة التركية التي تخشى هي أيضاً غضب السلطات. كما أن معارضي أردوغان يكنُّون نوعاً من الازدراء إزاء تنظيم عبدالله غولن؛ فالكثير منهم يعيبون على أتباع عبدالله غولن تحالفهم في وقتٍ ما مع حزب العدالة والتنمية.
وبفضل هذا التحالف تمكَّن العديد من مناصري غولن من الحصول على وظائف في صلب الإدارة التركية؛ خصوصاً لدى مصالح الأمن والجيش، لكن قبل أن تحصل القطيعة بين الطرفَين (حزب العدالة والتنمية، وتنظيم عبدالله غولن) تمت ملاحقة وسجن المئات من المعارضين؛ وهو ما لم ينسَه الكثير من الأتراك الذين أبدوا نوعاً من اللا مبالاة إزاء ما يتعرض إليه أنصار فتح الله غولن؛ خصوصاً بعد فشل المحاولة الانقلابية.
تقول ممثلة منظمة “هيومن رايتس ووتش” بتركيا: إن هذا لا يغيِّر شيئاً بالنسبة إلى توجهات منظمتها التي طالب مراراً السلطات التركية بوضع حد لهذه الممارسات الأمنية والانتهاكات الخطيرة لحقوق الإنسان التي ازدادت وتيرتها منذ المحاولة الانقلابية الفاشلة، والتي تضع العديد من المواطنين الأتراك خارج حماية القانون؛ مما يجعلهم عرضة لانتهاكات خطيرة لحقوقهم الأساسية كحقهم في الاستعانة بمحامٍ للدفاع عنهم أمام المحققين والمحاكم.
وتضيف هذه المدافعة عن حقوق الإنسان أن منظمتها وثَّقت ستة عشر ملف انتهاكٍ خطيرٍ لحقوق مواطنين أتراك مشتبه بهم بالضلوع في المحاولة الانقلابية أو تم إيقافهم واحتجازهم قسرياً لأسباب أخرى لها علاقة بانتمائهم الفكري والسياسي. لكن منظمة “هيومن رايتس ووتش” تؤكد أن عدد الانتهاكات يتجاوز كثيراً ما تم توثيقه حتى الآن؛ حيث إن الآلاف من المعارضين أو المشتبه بهم في الضلوع في أنشطة مناوئة لحكومة أردوغان تم إيقافهم لفترات متفاوتة تتراوح بين بضع ساعات وعدة أشهر دون أن تُوَجَّه إليهم تهمة ما ودون أن يتم إطلاع ذويهم على سبب ومكان وظروف احتجازهم.
إن أخطر الانتهاكات التي يتعرض لها المشتبه بهم الذين يقع اعتقالهم في تركيا هو التعذيب. يقول “أورهان دوغان”، وكان يشغل مدير مدرسة تابعة لتنظيم فتح الله غولن، مقرها أنقرة، إن عناصر أمن بالزي المدني قاموا بإيقافه بتهمة المشاركة في محاولة الانقلاب الفاشلة، ومارسوا ضده أنواعاً مختلفة من التعذيب طيلة ثلاث ساعات كاملة؛ أملاً في أن يعترف بأسماء متواطئين معه، لكن معاناته لم تتوقف عند هذا الحد؛ فبعد فترة احتجاز في مدرسته تواصلت ليلة كاملة، تم اقتياده في الصباح الباكر إلى مقر المخابرات التركية بأنقرة؛ حين قام اثنان من عناصرها باقتياده إلى دهاليز مظلمة تقع في أسفل البناية، ومن ثمَّ تعنيفه وضربه في أماكن مختلفة من جسمه.
يقول هذا المدرس إنه أثناء تعذيبه شعر باقتراب نهايته؛ خصوصاً أن جلادَيه قالا له إنه لن يخرج حياً من هذا المبنى. وروى أنهما كانا شديدَي الغضب، وما فتئا يشيران بأصابعهما إلى آثار طلقات نارية أصابت نوافذ وحيطان الغرفة المظلمة التي كان محتجزاً فيها. وأضاف أن المحققَين كانا يرددان على مسامعه أنه (أي هو) وعدد من المتواطئين معه هم مَن قاموا بذلك (مهاجمة مقر المخابرات أثناء المحاولة الانقلابية)، وأن المخابرات ستنتقم لكل عناصرها الذين سقطوا نتيجة هذه “الخيانة”.
بعد ذلك تم اقتياد “أورهان دوغان” إلى قاعة رياضية كبيرة حيث احتشد العشرات من الموقوفين مكبَّلي اليدَين والرجلَين ويحملون لباساً برتقالي اللون (ملابس يحملها عادة المحكومون بالإعدام، وتم فرضها على المعتقلين من أجل ترهيبهم)، وتم إجبار الجميع على الاصطفاف قبالة الحيطان التي كانت تحمل آثار دماء. عَلِمَ “أورهان دوغان” لاحقاً أن آثار الدماء هذه تعود إلى عسكريين أتراك تم إيقافهم وتعذيبهم خلال الساعات الأولى التي تلَت فشل المحاولة الانقلابية.
مثَّلت مشاهد آثار الدماء والعنف الذي كان واضحاً على وجوه الكثير من المعتقلين صدمة نفسية كبيرة لهذا المدرِّس الأربعيني الذي تم اقتياده منفرداً مثله مثل بقية المعتقلين إلى غرفة فردية حيث تم نزع ملابسه وضربه ضرباً مبرحاً بهراوة في أماكن مختلفة من جسمه.
يقول “أورهان دوغان” إن جلاديه كانوا يريدون منه أن يعترف لهم بأنه إرهابي. وحتى ينتزعوا منه اعترافاً ما أو أسماء متواطئين معه وعدوه بأنهم سيطلقون سراحه إذا قدَّم لهم عشرة أسماء لأشخاص ضالعين في المحاولة الانقلابية؛ لكن بما أنه لم يشارك لا من قريبٍ ولا من بعيد في هذه المحاولة الانقلابية، فإنه كان عاجزاً عن الاستجابة لمطالب جلاديه الذين قاموا بتعذيبه ساعات كاملة؛ ظناً منهم أنه مذنب وأنه كان يحاول تضليلهم.
ولقد لاحظنا أثناء حديثنا عبر الشاشة معه أنه بعد مرور خمس سنوات من تاريخ اعتقاله وتعذيبه لا يزال هذا المدرِّس يعاني التوتر، كما أن حركات يديه وتعابير وجهه تدل على أنه لا يزال يحمل آثاراً نفسية سيئة نتيجة ما تعرَّض إليه من سوء معاملة أثناء التحقيق معه.
لم تتوقف محنة هذا المدرِّس عند هذا الحد؛ حيث تم تعذيبه لفتراتٍ متفاوتة طيلة خمسة أيام متتالية. ومن أشد ما تعرَّض إليه من سوء معاملة كان تعليقه في سقف غرفة الاحتجاز مكبَّل اليدَين إلى الخلف، وضربه بعصا ضرباً مبرحاً على أسفل قدمَيه. يقول هذا المدرِّس إنه من شدة الألم لم يكن قادراً على الوقوف على قدمَيه وفكَّر مراراً في الانتحار بعدما هدَّده أحد جلاديه باغتصاب زوجته وابنته أمام عينَيه.
في نهاية المطاف، تم إيداع “أورهان دوغان” الحبس الاحتياطي في انتظار محاكمته؛ وهو ما مثَّل له نوعاً من الارتياح، باعتبار أن حصص التعذيب توقفت بعد قرار السلطات إيداعه السجن؛ لكن معاناته تواصلت بعد ذلك بين أسوار السجن، حيث وجد نفسه محشوراً في زنزانة تأوي خمسة وخمسين نزيلاً، في حين أن سعتها لا تتجاوز الأربعة عشر. قضى هذا المدرِّس ثمانية أشهر في ذات الزنزانة، وكان مضطراً، مثله مثل الكثير من بقية النزلاء، إلى النوم مباشرة على أرضية الزنزانة في البرد القارس، وارتياد المرحاض الوحيد المخصص لجميع النزلاء، والاستحمام مرة واحدة في الأسبوع لمدة لا تتجاوز ثلاث دقائق إذا ما توفَّر الماء الساخن.
قضى “أورهان دوغان” ثمانية عشر شهراً في المعتقل. في الأثناء تمت محاكمته، وأدانته المحكمة بالسجن لمدة سبع سنوات ونصف السنة. كانت محاميته، التي عيَّنتها المحكمة للدفاع عنه، خائفة ومنزعجة من ظروف حبسه. في نهاية المطاف، بعد سنة ونصف السنة من إيقافه، تم إطلاق سراحه بعد تمتيعه بعفوٍ حكومي. بعد ذلك نجح هذا المدرِّس الأربعيني في التسلل إلى اليونان، ومن ثم السفر إلى ألمانيا؛ حيث يعيش هناك مع عائلته في أمان.
تقول منظمة “هيومن رايتس ووتش”، في تقريرها لسنة 2020 حول وضعية حقوق الإنسان في تركيا، إن عدد قضايا الانتهاكات الخطيرة لحقوق الإنسان في هذا البلد تضاعف عدة مرات في الأشهر الأولى التي تلت المحاولة الانقلابية الفاشلة. كما أن ثقافة الإفلات من العقاب أصبحت سائدة في هذا البلد، والنتيجة أن العديد من الضحايا تم قَبْرُ شكاويهم من قِبل السلطات التركية التي لا تريد فتح تحقيق جدِّي حول هذه الانتهاكات المتكررة التي نسفت عقوداً من الجهود التي بذلها المجتمع المدني التركي، والعديد من الجمعيات والأشخاص الذين ناضلوا من أجل إرساء دولة القانون وثقافة حقوق الإنسان.
نذكر هنا حالة مواطن تركي من أصل كردي اتَّهم جنوداً أتراكاً بالتسبب في جرحه وقتل صديق له بحجة تعاطفهما مع حزب العمال الكردي الذي تعتبره أنقرة إرهابياً. وكذلك حالة مراهق تركي يُدعى “قدير أكتار”، تم إيقافه واتهامه من قِبل الشرطة بالمشاركة في تبادل لإطلاق نارٍ في ضواحي إسطنبول، أدى إلى مقتل شرطي. أثناء محاكمته قررت المحكمة تبرئته وأمرت بإطلاق سراحه؛ لكن السلطات قامت بإيقافه لاحقاً ووجهت إليه تهماً أخرى. بعد أشهر من الاحتجاز تم العثور عليه مفارقاً الحياة في زنزانته، وتزعم الشرطة أنه انتحر.
في هذا الإطار، قدَّم النائب (من المعارضة) “علي حيدر هكوردي”، تقريراً إلى البرلمان التركي، يؤكد فيه أن هذا المراهق تم اقتياده إلى المستشفى ثلاثاً وعشرين مرة طيلة فترة إيقافه التي وصلت إلى سبعة أشهر كاملة، وأنه كان قد اشتكى العديد من المرات تعرُّضه إلى الضرب من قِبل المحققين وحراس السجن.
شهادة هذا النائب لم تفاجئ ممثلة منظمة “هيومن رايتس ووتش” بتركيا، التي أفادتنا بأن وزير الداخلية التركي كان قد صرَّح أمام الملأ بأن قوات الأمن ستطلق النار على رُكَبِ تجار المخدرات؛ وهو ما فهمه الكثير بأنه بمثابة ضوء أخضر لقوات الأمن والمخابرات لارتكاب أفعال خارج إطار القانون في حق المواطنين الذين يتم اعتقالهم بتهم مختلفة؛ خصوصاً مناوأة الحكومة (حكومة أردوغان).
كما تؤكد هذه المدافعة عن حقوق الإنسان بتركيا أن بعض المواطنين الشجعان الذين قبلوا الإدلاء بشهادتهم أمام المحكمة حول حالات التعذيب والاحتجاز القسري التي تعرَّض إليها بعض الضحايا، تمت مضايقتهم وحتى الاعتداء عليهم.
نذكر هنا حالة المواطن “كوخان تركمان” الذي ذكرناه سابقاً، والذي كان قد ندَّد أمام المحكمة (أثناء محاكمته) بما تعرَّض إليه من سوء معاملة أثناء التحقيق معه. إثر الإدلاء بشهادته وعزمه على تقديم شكوى رسمية ضد أعوان المخابرات الذين قاموا بتعذيبه، قام أعوان أمن بزي مدني بزيارته في زنزانته، ست مرات متتالية، ودون أن تكون هذه الزيارات مُوَثَّقَة في السجلات الرسمية للسجن، وطلبوا منه أن يتراجع عن شاهدته.
وأمام إصراره على المضي قُدُماً في رغبته في طلب محاسبة المسؤولين عن تعذيبه، تم الضغط على زوجته التي تم أيضاً إيقافها بعد رفضها الاستجابة لمطالب المحققين (ما دفع زوجها إلى التراجع عن شاهدته). كما أن محاميته التي ندَّدت أمام هيئة المحكمة بما تعرَّض إليه مُوَكِّلُها تم إيقافها بِتُهَمٍ تم تلفيقها؛ ولكن تم إطلاق سراحها في انتظار محاكمتها.
بعد وفاة زوجها -يُدعى “كوخان أسيكوللو”، وكان يشغل خطة أستاذ للتاريخ في مدرسة حكومية- أثناء فترة اعتقاله غداة المحاولة الانقلابية الفاشلة، قرَّرت قرينته (وهي أيضاً أستاذة)، جمع شهادات ووثائق تساعدها على فهم أسباب وفاته المفاجئة؛ حيث تم اعتقاله إثر وشاية خلال الأسبوع الذي تلا المحاولة الانقلابية الفاشلة.
كان “كوخان أسيكوللو” في صحة جيدة؛ ما عدا أنه كان مصاباً بداء السكري، لكنه توفي في مخفر المخابرات التركية بعد ثلاثة عشر يوماً من إيقافه. بطلبٍ من أرملته، وبدعمٍ من جمعية تركية تعنى بحقوق الإنسان، تم تشريح جثته من قِبل طبيب شرعي، الذي أفاد أن سبب الوفاة يعود إلى سكتة قلبية ناتجة عن التعذيب؛ حيث عاين الطبيب المُشَرِّحُ آثار كدمات على الرأس والوجه، وكذلك كسراً في أضلع المتوفى. كما أفاد تقرير طبي آخر أن هذا الأخير تم اقتياده أربع مرات إلى المستشفى إثر هبوط شديد لنسبة السكر في الدم.
من جهةٍ أخرى، واستناداً إلى شهادة موقوفين آخرين تعرَّض المشتبه به إلى عنف جسدي من قِبل أعوان المخابرات الذين قاموا باعتقاله؛ حيث وصل إلى غرفة التحقيق دامي الوجه. كما أنه خضع إلى حصص تحقيق تواصلت عدة ساعات في اليوم، تخللتها فترات تعذيب جسدي؛ وهو ما أقره تقرير الطب الشرعي.
تقول أرملته إنها لما انتقلت برفقة عائلة زوجها إلى مصلحة الأموات التابعة للمستشفى من أجل تَسَلُّمِ جثته تمت معاملتها معاملة سيئة؛ حيث أخبرها عون من جهاز المخابرات، كان حاضراً، بأن زوجها سيُدفَنُ في “مقبرة للخونة”، ولن يصلَّى عليه. لكن بعد مفاوضات عسيرة، تم تسليم الجثة إلى العائلة؛ لكن بشرط أن يتم دفن الضحية في مسقط رأسه بعيداً عن إسطنبول وفي أسرع وقتٍ ودون تغسيله أو الصلاة عليه؛ وهو ما عمَّق جراح عائلة الضحية، خصوصاً أن الطقس كان شديد الحرارة، كما أن بلدية إسطنبول رفضت تسليم العائلة تابوتاً لحمل النعش.
بعد دفن الضحية، قررت أرملته مواصلة المعركة القضائية؛ من أجل محاسبة مَن تسببوا في مقتل زوجها. رفعت شكوى ضد أعوان المخابرات بتهمة التعذيب والقتل؛ لكن المدَّعي العام التركي رفض فتح تحقيق في هذه الادعاءات، بل قرَّر إيقاف المشتكية بتهمة إزعاج السلطات ونشر أخبار كاذبة. أثناء التحقيق معها طُلِبَ منها أن تزوِّدَ المحققين بأسماء أشخاص تعتقد الشرطة أنهم كانوا قريبين من زوجها المتوفى، وشاركوا معه في المؤامرة الانقلابية؛ لكن بعد أيام من التحقيق قرَّر المدعي العام إخلاء سبيل هذه الأرملة المكلومة وغلق الملف.
بعد سنة ونصف السنة تقريباً من وفاة هذا المدرِّس في أروقة جهاز المخابرات التركية، قررت وزارة التعليم التركية التراجع، بمفعولٍ رجعي، عن قرار طرده من سلك التعليم الذي كانت اتخذته بالتزامن مع اعتقاله بضعة أسابيع بعد فشل المحاولة الانقلابية. تقول أرملته إن هذا القرار يدل على أن زوجها المغدور كان بريئاً من التهم الموجهة إليه (تم اعتقاله إثر وشاية كيدية)، وإنها قررت نشر هذا القرار على شبكات التواصل الاجتماعي ولدى أصدقائه وزملائه حتى تتم إعادة الاعتبار إليه، ويعرف الجميع أنه لا دخل له لا من قريبٍ ولا من بعيد بالمحاولة الانقلابية.
لكن متاعب هذه الأرملة المكلومة لم تتوقف عند هذا الحد؛ فبعد أربعة أشهر من قرار وزارة التعليم إعادة دمج زوجها في خطته بمفعولٍ رجعي، نَشَرَ صحفي تركي، قريب من حزب العدالة والتنمية، على أعمدة صحيفة موالية لحكومة أردوغان، مقالاً مطولاً يتهم فيه هذه الأرملة بمناهضة النظام، ومطالباً السلطات بالتحرك من أجل وضع حد لسلوكها المناوئ للحكومة. كما انفرد هذا الصحفي بالإشارة في مقاله إلى أن ابنها دَرَسَ في مدرسة تابعة لتنظيم فتح الله غولن، وأنه متشبِّع بفكر هذا الداعية الذي أصبح عَدُوَّ أردوغان اللدود.
بعد أربعة أيام من صدور هذا المقال تحرَّك المدعي العام التركي، وقرَّر توجيه مجموعة من التهم إلى هذه المدرِّسة الأرملة، وتم تحديد موعد لمحاكمتها. حينذاك، أدركت هذه المدرِّسة أن وجودها في تركيا أصبح مهدداً، وأن سنواتٍ طويلة من السجن تنتظرها، وأن اعتقالها مسألة وقت فقط؛ لذا خوفاً على مستقبلها ومستقبل أبنائها؛ خصوصاً بعد مقتل زوجها بسبب التعذيب في أروقة المخابرات، قررت التسلل خلسة إلى اليونان برفقة أبنائها، ومن ثمَّ طلب اللجوء لدى بلد أوروبي، رفضت أن تذكر اسمه لما قُمنا بالتحاور معها عبر الشبكة الاجتماعية؛ وذلك خوفاً من بطش مخابرات أردوغان.
المصدر: كيو بوست
سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
تابعوا أحدث أخبارنا وخدماتنا عبر حسابنا بتويتر