سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
منذ صعود نجم الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، إبان توليه رئاسة وزراء تركيا في 2003، بعد فوز حزبه العدالة والتنمية بالانتخابات التشريعية في 2002، وهو حريص دومًا على إظهار نفسه أنه الزعيم الذي أعاد إلى تركيا وجهتها الإسلامية، وخلَّصها من إرث كمال أتاتورك العلماني، للدرجة التي جعلت عددًا كبيرًا من المحللين ومراكز الأبحاث تطلق عليه وعلى حزبه اسم “العثمانيون الجدد”.[1]
وطوال فترة حكم حزب العدالة والتنمية، ازداد عدد المدارس الدينية عشرات الأضعاف، وخاصة مدارس “الإمام الخطيب”. تحدث أردوغان في مناسبات عدّة عن تأهيل جيل ورع وتقي. ويمثل إحياء مدارس الإمام الخطيب، جزءًا من حملة أردوغان لجعل الدين محور الحياة التركية.[2]
أردوغان، سبق أن أعلنها صريحة عندما كان رئيسًا للوزراء، إذ أبدى في كلمة له أمام البرلمان التركي في 2012، رغبته في ظهور جيل بعيد عن الإلحاد، قائلاً: “نريد تربية نشء متدين، هل تنتظرون من حزب محافظ وديموقراطي مثل العدالة والتنمية (الحاكم) أن ينشئ جيلاً من الملحدين؟ ربَّما يكون هذا شأنكم ورسالتكم، لكنه ليس شأننا. سننشئ جيلاً ديموقراطيًا محافظًا يؤمن بقيم ومبادئ أمتنا”.[3]وفي مارس 2018، بعد اقتحام الجيش التركي مدينة عفرين، خطب أردوغان في مؤيديه مبتهجًا، وقال ما حرفيته: “لقد فتحنا مدينة الإلحاد وجنبنا العالم ويلات بنادقهم”.[4]
غير أن كل محاولات أردوغان وتصريحاته وخطبه الرنانة، حول مواجهة الإلحاد وإعداد جيل متدين، اتضح أنها مجرد شعارات لا تمت للواقع بصلة، بل إن تقارير عديدة تحدثت عن أن سياسات أردوغان الداخلية والخارجية جاءت نتائجها عكسية تمامًا، وظهرت موجات كبيرة من الإلحاد والربوبية في تركيا الدولة المسلمة؛ ما جعل الـ”بي بي سي” البريطانية تهتم بالموضوع، لتنشر في موقع نسختها العربية، تحقيقًا مثيرًا عن انتشار الإلحاد في تركيا أردوغان، ووثقت التحقيق بحوارات ولقاءات مع نماذج حية لأشخاص تحولت من الانتماء الإسلامي إلى الإلحاد.[5]
لماذا يلحد الأتراك؟
للإجابة عن السؤال بشكل أكثر فهمًا وتعمقًا، علينا العودة إلى الخلف قليلاً، إلى مطلع الثمانينيات. لقد كان أحد أهداف الانقلاب العسكري الذي وقع في 12 سبتمبر 1980، وقف صعود الجماعات اليسارية والاشتراكية. افتتحت العصبة العسكرية الكثير من المساجد وكتاتيب تحفيظ القرآن في أنحاء البلاد لتغرس ثقافة الطاعة في تركيا.
واليوم مع تصدر حزب العدالة والتنمية للمشهد خلصت دراسة حديثة أجرتها الدكتورة فاطمة غونايدين، أستاذة علم اللاهوت بجامعة دوزجه، إلى أن الشباب الأتراك يتجهون بشكل متزايد إلى الإيمان بالمعتقدات الربوبية، التي تؤكد وجود رب خالق لا يتدخل بشكل مباشر في العالم الذي خلقه، وهي معتقدات تتنافى مع تعاليم الإسلام.
وعندما أُعلنت نتائج الدراسة، وكُشف عن أن نسبة الشباب الذين قيل إن لديهم “شكوكًا دينية” تصل إلى 12 في المئة في المدارس الدينية، و30 في المئة في المدارس الثانوية بشكل عام، لم يعجب هذا الأمر أردوغان، فوصف الدراسة بأنها “غير مقبولة”.
البروفيسور مراد بالجي، من جامعة بيلجي، قال إن الربوبية في تركيا بها القليل جدًا من العمق الفلسفي، لكنه لفت الانتباه إلى أن 50 في المئة من سكان تركيا يعدون ربوبيين.
وعلى الرغم من أن النظام السياسي الذي أسسه حزب العدالة والتنمية يبدو مثل الرجعية في نظر بعض المعارضين للنظام، فإنه في واقع الأمر يتسم بالانحلال والتفسخ. نتيجة لذلك، فإن الناس يثيرون علامات استفهام حول الأخلاقيات الأساسية للحكومة، مما يدفع البعض للقول بأن الراديكالية الدينية تؤدي في النهاية إلى إبعاد الناس عن الدين.[6]
التجارة بالدين
من أهم الحقائق التي لا يجب إغفالها عند التعرض للشأن التركي، حقيقة أن تجارة الدين هي إحدى الأدوات الرئيسية التي تحرك يمين الوسط في تركيا. فقد بدأ استغلال الدين في خمسينيات القرن الماضي، وزاد بشكل كبير في البيئة التي خلقها انقلاب عام 1980. وبعدما وصل حزب العدالة والتنمية إلى سدة الحكم، حول تجارة الدين هذه – بشكل كامل – إلى أداة سياسية. وقد تطور مشروع “الإسلام الوسطي” الذي تبناه الغرب ليصبح ما هو عليه حزب العدالة والتنمية اليوم.
بمتابعة بسيطة لكل خطابات أردوغان، نكتشف أنه يلعب على وتر الدين، ويجيد دغدغة المشاعر جيدًا، يساعده في ذلك حالة الاستعداد النفسي و”الدروشة” التي غرستها المدارس الدينية التي أسسها. ويلاحظ – أيضًا – أن جمهور خطاباته لا يتغير، هم نفس المريدين الواقعين تحت تأثير الكلمات الرنانة، في حين أن كل من يفيق من هذا السحر، لا يتأثر بعد ذلك من هذه الدغدغة، وهو ما كشفته أرقام الاستحقاقات الانتخابية الأخيرة، بعد أن صوتت أكبر 3 معاقل انتخابية (إسطنبول وأنقرة وإزمير) برفض الاستفتاء الذي كان على أردوغان قبل أن يكون على التعديلات الدستورية.
سحر اللعب على وتر الدين لا يدوم كثيرًا، وسرعان ما يفيق الأتراك من هذه الدروشة، ويتحولون على الفور إلى المعسكر الرافض لأردوغان، ليس سياسيًا فقط، بل إن أخطر ما في الأمر، هو فقدان هؤلاء للثقة فيما يمثله أردوغان، أو ما يقدم نفسه على أنه يمثله، والحديث عن الدين، فبعد أن يفيق هؤلاء، يبادرون إلى اتخاذ المواقف المعاكسة لأردوغان، سياسيًا بالتصويت ضده، ودينيًا بترك الإسلام والاتجاه إلى الإلحاد، لتحقيق انتصار على الرموز الدينية التي كرهها، وعلى المجتمع الذي يرفضه، وعلى السلطة التي يتمرد عليها.[7]
سياسات أردوغان الخارجية
إذا كانت سياسات أردوغان الداخلية ومتاجرته بالدين وقمعه للمختلفين سببًا في تزايد الإلحاد، فإن سياساته الخارجية لم تكن أحسن حالاً، ولها نصيب – أيضًا – من نفور الأتراك من التيار الإسلامي، فرهانات أردوغان كانت كلها منصبة على جماعات الإسلام السياسي، خاصة في دول ما يسمى بالربيع العربي، حيث راهن ودعم جماعة الإخوان في مصر وتونس، رغم رفضهم من قبل شعوبهم، وتماشت أموره مع تنظيم “داعش” الإرهابي لفترات كبيرة، سواء اقتصاديًا بشراء البترول منه[8]، أو سياسيًا (الإفراج عن بعثة دبلوماسية تركية في العراق[9]، ونقل رفات سليمان شاه من سوريا[10])، قبل أن ينقلب السحر مجددًا على أردوغان، وينفذ “داعش” عمليات إرهابية داخل تركيا.
رهانات أردوغان الفاشلة على الإسلام السياسي بمصر وتونس، وهدنته ودعمه لـ”داعش” كشفا عن حقيقة الوجه المتطرف لأردوغان، وعن مصير تركيا في حالة تمكن أردوغان من إحكام قبضته عليها بشكل كامل، فكان الوقوف في وجه أردوغان وما يمثله الحل للشباب التركي، ودفعت الهوية الإسلامية التركية ثمن حماقات أردوغان وطموحاته غير الواقعية وتحالفاته ورهاناته الفاشلة، وهرع الشباب إلى الإلحاد كنوع من التعبير عن رفض أردوغان وحزبه وفكره.
.. وماذا بعد؟
إن أول من سيكتوي بنار الإلحاد هو أردوغان نفسه، فاتجاه شباب تركيا إلى الإلحاد يجب أن يقرأ في إطار كونه وسيلة احتجاجية ضد كل ما يمثله أردوغان، حتى لو بدا اعتراضًا له طابع ديني، لكنه سيتبلور قريبًا جدًا إلى اعتراض سياسي، يقف في وجه أردوغان ومخططه لقولبة تركيا على مقاسه. وبتتبع بسيط لنتائج الاستحاقات الأخيرة، كما ذكرنا آنفًا، يتضح لنا أن الكتلة الرافضة لأردوغان وحزبه آخذة في التوسع، بل وتطرق أماكن كانت معقل قوة لأردوغان مثل إسطنبول، وإذا لم يقف أردوغان مع نفسه قليلا – وهذا لن يحدث – فإن الاستفتاء الذي قاتل من أجله لتحويل تركيا دولة رئاسية ليتمكن من حكمها بمفرده، ربَّما يكون الباب الخلفي لرحيله، إذا تمكن الرافضون لأردوغان من الاصطفاف والوقوف في وجهه في الانتخابات الرئاسية والتشريعية المبكرة، المزمع عقدها في يونيو المقبل[11]. ولعل ذلك كان سببًا في الحرب التي شنها أردوغان على صديق الأمس، الرئيس التركي السابق عبدالله غول الذي كان ينوي الترشح أمام أردوغان في الانتخابات المقبلة[12]، التي لو نجا منها أردوغان، فإن فرص نجاحه في الانتخابات التالية تقل بشكل كبير، في ظل حالة التأهب التي تتخذها المعارضة التركية[13].
كذلك، يجب الانتباه إلى حالة الانقسام المتزايد في الشعب التركي، التي تهدد المجتمع بأسره، وليس أردوغان وحزبه فقط، فأتباع أردوغان – رغم تقلص عددهم – يزدادون تعصبًا له، في المقابل يجد معارضوه أنفسهم مجبرين على اتخاذ مواقف أكثر تعصبًا وتطرفًا للرد على تعصب أتباع أردوغان، والإلحاد على رأس هذه الخيارات، لكن المقلق أن التعصب الموجود في الطرفين، ربَّما يتفاقم ليصل مرحلة من مراحل الاحتراب الأهلي، ما لم يتم حل المشكلة من جذورها، وحتى حدوث هذا الحل، فإن المجتمع التركي المتفسخ والمنقسم على نفسه، أمام تحد خطير ربَّما يعصف بالجميع.
وحدة الدراسات الاجتماعية*
المراجع
[1]”إسلاميو تركيا – العثمانيون الجدد” تأليف: إدريس بووانو – الناشر: مؤسسة الرسالة، سوريا – تاريخ الإصدار: 2005.
[2]في ظل سياسة الأسلمة .. الشباب الأتراك يهربون إلى “الإلحاد” و”الربوبية” – شبكة رؤية الإخبارية – ١٤ مايو ٢٠١٨. https://bit.ly/2wOlLwj
[3]أردوغان يثير قلق المدافعين عن العلمانية في تركيا – صحيفة الرأي – 10 فبراير 2012.
[4]هل يَتحقّقُ حلم أردوغان التَوَسُّعِيّ؟ – شه مال عادل سليم – موقع إيلاف – 21 مارس 2018.
[5]مزيد من الشباب الأتراك يهجرون الإسلام – بي بي سي عربي – 12 مايو 2018. https://bbc.in/2KYTLJy
[6]ما الذي يدفع نصف تركيا إلى الربوبية؟- موقع أحوال تركية – 7 مايو 2018.https://bit.ly/2k4iyzy
[7]”الإلحاد مشكلة نفسية” – سلسلة علم نفس الإلحاد – الدكتور عمرو شريف – دار نيو بوك للنشر والتوزيع – الطبعة الأولى 2016.
[8]أردوغان يشتري النفط من “داعش”.. نتائج استطلاع رأي تركي – موقع روسيا اليوم – 3 ديسمبر 2015
[9]الضبابية ترافق عملية الإفراج عن الرهائن الـ49 الأتراك لدى “داعش” – موقع المسلة – 10 مارس 2016
[10]تركيا تنقل رفات سليمان شاه وسط شبهات بالتنسيق مع داعش – صحيفة العرب – 24 فبراير 2015
[11]أردوغان يعلن إجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية مبكرة في يونيو المقبل – موقع بي بي سي العربية – 18 أبريل 2018. https://bbc.in/2wV33Di
[12]المعارضة: أردوغان مارس ضغوطًا على غول للانسحاب من الانتخابات – موقع سكاي نيوز عربية – 29 أبريل 2018
[13]تركيا.. انتخابات مبكرة تضمن فوز أردوغان؟ – موقع روسيا اليوم – 19 أبريل 2018
سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
تابعوا أحدث أخبارنا وخدماتنا عبر حسابنا بتويتر