الأسئلة في الحالة العثمانليّة الجديدة مثيرة، والأجوبة غائبة عن الكثيرين، فما جرى مع الأتراك في العقدين الأخيرين، لاسيّما بعد الحادي عشر من سبتمبر 2001 وحتّى الساعة، لا يخرج عن كونه سيناريو مرسومًا بدقّة متناهية، وقد منح أضواء خضراء كافية لأن يؤدّي ما يخدم إستراتيجيّة أكبر للقطب الذي اعتبر نفسه منفردًا بمقدّرات العالم.

على مشارف القرن الحادي والعشرين، كانت روح تركيا منقسمة داخلها، تضع قدمًا في شرق آسيا، وتحلم بالقدم الأخرى في أوروبّا.

غير أنّ الأوروبيّين لم يكن لهم أن ينسوا فظاعات العثمانليّ طوال الخمسمئة عام الأخيرة، وفظاظة قادته، ودمويّتهم التي تجلّت في مذابح الأرمن بنوع خاصّ، ولهذا لم يجد أردوغان ما يغازل به الإسلامويّين سوى العزف على أوتار المسألة الدينيّة كسبب لرفض أوروبّا قبولهم ضمن وحدته.

في ذلك الوقت كان هناك وراء المحيط الأطلسيّ من يرسم خطّة بسط هيمنته على العالم، وقد جرى ذلك بإشراف المحافظين الجدد، وعبر رؤيتهم الشهيرة المعروفة بـ”وثيقة القرن الأميركي”، أي أن يكون القرن الحادي والعشرون قرنًا أميركيًّا بامتياز، من غير منازع أو مشارع، إذ وقتها كان الاتّحاد السوفيتيّ قد تهاوى، والأوليجاركيّة تعيث فسادًا في الداخل الروسيّ. أمّا التنّين الصينيّ فقد كان يتهيّأ رويدًا رويدًا لصعوده القادم بكلّ تأكيد وتحديد.

كان على العمّ سام أن ينشغل بالروس والصينيّين، وأن يخلف وراءه الشرق الأوسط، وقد رسم له خريطة واسعة تستوعب القوى غير العربيّة ضمن أطره ومحدّداته، وليتفرّغ هو لحصار موسكو وبكين، ومن هنا تفتّقت القريحة الأميركيّة عن استغلال العثمانليّ ليعيد تاريخ إمبراطوريّته البائدة مرّة جديدة.

كانت إدارة بوش الابن هي من أطلق مصطلح “الشرق الأوسط الكبير”، والذي يضمّ بلدان العرب كافة، إضافةً إلى تركيا، إسرائيل، إيران، أفغانستان، وباكستان.

كانت المظلّة التي تذرَّعَ بها بوش الابن هي الإصلاحات السياسيّة والاقتصاديّة، وروّجت مستشارته للأمن القوميّ لمصطلح “الفوضى الخلاّقة”، وأعلن نصّ مشروع الشرق الأوسط الكبير في مارس 2004 بعد أن طرحته واشنطن على مجموعة الدول الصناعيّة الثماني.

كانت تركيا ولا تزال البيدق الخبيث الذي تمّ استخدامه في الشرق الأوسط لتحقيق جزء من الخطّة عبر مراحل مختلفة بدأت بزيارات أردوغان لأميركا، وفيما كان ينسج خيوط الخطّة الإستراتيجيّة الكبرى، والتي يراها البعض ضربًا من ضروب المؤامرة، رأيناه كما أسلفنا يعزف على أوتار التقوى والإيمان، وإحياء صراع الأديان مع الغرب عامّة وأوروبّا خاصّة.

كان التماهي الأوروبي والأميركي مع الإسلامويّين خطيئتهم الأصليّة منذ تأسّست جماعة الإخوان المسلمين عام 1928، وحتّى غضّ الطرف عمّا يحدث من اتّفاقات ظاهرة وخفيّة بينعصابة الوفاق الليبيّة والآغا المتوهّم، ولهذا لم يعترض أحد من بروكسل إلى واشنطن على الإحياء الأصوليّ الذي ذهب أردوغان في طريقه.

كانت الخطّة محكَمة، أن يشاغب ويشاغل أردوغان الشارع العربيّ بأحلام إحياء الخلافة، وأن يصنع له أعوانًا وطوابير خامسة من الجماعات الراديكاليّة بالمعنى السلبيّ للكلمة من تيارات إسلامويّة ساعية للحكم منذ أمد بعيد.

بدا أردوغان وكأنّه “دوريان غراي”، في رائعة “أوسكار وايلد”، يرتدي قناع الطهر والقداسة، بل أكثر من ذلك يظهر ذاته أنّه السند والعون والمدافع عن القضية الفلسطينية، رغم أن القاصي والداني يعلم حقيقة علاقاته مع إسرائيل.

كانت تلك فترة كُمون مشروع العثمانيّين الجدد، والذي يقول بعض الثقات إنّه كان مقدرًا له أن يطفو إلى السطح عام 2022-2023، بعدما استطاع أن يجد أكثر من حصان طروادة يخترق به النسيج الاجتماعيّ للعديد من الدول العربيّة والشرق أوسطية.

حين آن أوان الربيع العربيّ، أو إن شئتَ الدقّة فقلْ الشتاء الأصوليّ القارس الذي ولَّدَ خرابًا مستديمًا في بعض الدول العربية، اشرأبَّتْ أعناق المخترقين إلى إسطنبول، عَلَّ الخليفة يأتي من هناك في موكبه على البغال المُطْهَمَة، ومن حوله الإنكشاريّة الملاعين، الذي تسبّبوا في ظلم قرون للعرب، وقد بدا أنّ الحلم كاد أن يكون في متناول أيدي الأردوغانيّين، غير أنّ مصر المحروسة، بشعبها، وجيشها الوطنيّ، قد حوّلوا الحلم إلى كابوس حين قُدِّرَ لهم أن يخرجوا بالملايين في شوارع الكنانة هاتفين.”يسقط يسقط حكم المرشد”.

كان الهتاف في القاهرة والرجفة تسري في الأبدان في أنقرة، من غير أدنى شكّ، وللانتقام، وجد الإرهاب الذي خرج من الباب المصريّ، فرصة له للعودة  من الشبّاك الليبيّ.

ملامح الدور التخريبيّ لتركيا في هدم الشرق الأوسط القديم، وبناء شرق أوسط مغاير، تبدّت في سوريا بنوع خاصّ، كما لم يخلص العراق أيضًا من هجمات البغاة من الأتراك، وبات السؤال: “هل يمكن أن تجري الأحداث على هذا المنوال من جانب تركيا ومن دون موافقة ومباركة من القوى الإمبرياليّة التقليديّة عبر التاريخ المعاصر؟

حين احتجز أردوغان القسّ الأميركي المبشّر برونسون، توجّه إليه الرئيس الأميركيّ دونالد ترامب بخطاب وصفه فيه مباشرة ومن غير مداراة أو مواراة بالقول: “لا تكن أحمق”، وقرن الإهانة بالتهديد الساحق الماحق للاقتصاد التركيّ، فلم يكن من الأخير إلا السمع والطاعة والإفراج عن الرجل وهو صاغر.

التساؤلات فلسفيًّا أهمّ من الأجوبة، ومنها هل يُعقَل أن يمارس أردوغان عربدة في المتوسّط على هذا النحو، ومن دون أيّ خوف أو ملامة من الولايات المتّحدة خاصّة صاحبة اليد العليا في هذه المنطقة منذ نهاية الحرب العالميّة الثانية وحتّى الساعة؟

كثيرًا ما صرخ “شوان لاي” رئيس وزراء الصين العتيد بالقول: “لا يهمّ ماذا يعتقد الآخرون بنا، المهمّ ما الذي نفعله بأنفسنا ولأنفسنا”.

ما يقوم به أردوغان في هذه الساعات تجاه ليبيا، حلقة من حلقات رُسِمَت بليلة مظلمة للعرب في دهاليز يخيّم فوقها الضباب الأحمر على حدّ تعبير “وليام غاي كار”، وقد يكون الأشقاء في ليبيا، وهم كذلك بالفعل، في القلب من محنة كبرى تستدعي تنادي عروبي لمواجهة الفصل الجديد من الشرق الأوسط الكبير، أو سايكس بيكو الثانية، أو من أيّ مشروع تخريبيّ جديد.

حين صدح موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب في أيّام نكسة 1948 “أخي جاوز الظالمون المدى”، كانت فلسطين في خطر، الآن مستقبل أجيال العرب كافّة في خطر، فليبيا اختبار مصيريّ في الحال والاستقبال.