تركيا وأوهام التماسك الاقتصادي | مركز سمت للدراسات

تركيا وأوهام التماسك الاقتصادي

التاريخ والوقت : الثلاثاء, 27 أغسطس 2019

إيسار كاراكاش

 

حاولت طوال الوقت أن أسلط الضوء، وألفت الانتباه إلى وجود علاقة أساسية بين دولة القانون وتحقيق النمو الاقتصادي في الدولة؛ فعلى سبيل المثال كلما ارتقت معايير دولة القانون في الدولة، ارتقت معها معايير حقوق الملكية، وبقدر زيادة الاستثمارات يتسارع النمو الاقتصادي في الدولة أو العكس.

وفي الواقع، فإن تركيا تحتل المرتبة رقم 101 بين 113 دولة في ترتيب الدول التي تلتزم الشفافية في تطبيق مبادئ سيادة القانون. وكان طبيعياً أن يؤثر هذا الترتيب المتدني سلباً باتجاه تراجع الاستثمارات الأجنبية المباشرة إلى 12 مليار دولار في عام 2018، بعد أن وصل إلى 22 مليار دولار  في عام 2007.

ومن المحتمل أن تتدنى معدلات النمو، بالتوازي مع التراجع في معايير سيادة القانون والاستثمار الأجنبي المباشر، لتصل إلى واحد بالمائة سالب عام 2019 ، بعد أن بلغت نسبة 7% في عام 2007.

جاء في البيانات التي نُشرت الأسبوع الماضي عن مؤشر الإنتاج الصناعي في تركيا أنه “في حين سجل الإنتاج الصناعي الصافي، أي بعيداً عن التقلبات الدورية أو الموسمية، تراجعًا بنسبة 3.9% في يونيو، مقارنة بنفس الشهر من العام السابق، تراجع الإنتاج الصناعي الصافي كذلك بنسبة 3.7%، مقارنة بالشهر السابق له، كما انخفض  مؤشر الإنتاج الصناعي في يونيو بنسبة 9.6% في ضوء التقويم والعوامل الموسمية، مقارنة بنفس الشهر من العام الماضي. وفي حين سجل المؤشر 96.9 نقطة خلال هذه الفترة، بلغ 107.2 نقطة في يونيو من العام الماضي”. (معهد الإحصاء التركي).

وعلى الجانب الآخر، لم يخلُ الإنتاج الزراعي، هو الآخر، من مشكلات مماثلة حيث ” تراجع إنتاج الجبن البقري إلى 51 ألفاً و 742 طناً، أي بنسبة 13.8%، مقارنة بنفس الشهر من العام السابق، كما تراجع إنتاج أنواع الجبن المُستخرجة من حليب الخراف والماعز والجاموس والحليب المختلط إلى 4 آلاف 401 طن، بنسبة 4.1%، مقارنة بنفس الشهر من العام الماضي، وتراجع كذلك إنتاج الزبادي إلى 98 ألفاً و271 طناً، بانخفاض قدره  1.6%، مقارنة بنفس الشهر من العام الماضي. وأخيرًا بلغ إنتاج تركيا من اللبن الرائب 59 ألفاً و 130 طنًا، بانخفاض قدره 1.5%، مقارنة بنفس الشهر من العام الماضي”.  (معهد الإحصاء التركي).

ولا شك أن الدخل القومي التركي آخذ في التقلص، وهذا يعني أن الإنتاج الصناعي والإنتاج الزراعي آخذ في التقلص كذلك. دعونا نُذكِّر كذلك أنه بالعلاقة بين النمو والعمالة، التي هي في أصلها علاقة معقدة للغاية، وبسبب اختلال هذه العلاقة، تحدث مشكلات كبيرة للغاية في أسواق العمل، بالتوازي مع تناقص الدخل القومي.

يعرض الجدول الموضح أدناه شرحاً ملخصًا للدراسة الإحصائية، التي نشرها معهد الإحصاء التركي الأسبوع الماضي، عن قوة العمل في السوق التركية.

يشير الجدول إلى وجود انخفاض مطلق في حجم العمالة الزراعية وغير الزراعية، خلال الفترة بين مايو 2018 ومايو 2019، وفي المقابل كانت نسبة البطالة هي الشيء الوحيد الذي حقق زيادة؛ إذ إن الاقتصاد التركي يعيش بالفعل فترة مضطربة للغاية توقفت خلالها الموارد، متأثرة بغياب دولة القانون، وكان نتيجة ذلك توقف النمو أيضاً.

ولا شك في أن تردي الوضع الاقتصادي في تركيا كان سبباً رئيساً في وصول مشكلة البطالة إلى أبعاد خطيرة، مع ارتفاع معدل البطالة من 9.7% إلى 12.8% خلال عام واحد.

والأخطر من هذا أن معدل البطالة غير الزراعية قد ارتفع، هو الآخر، خلال نفس الفترة (من مايو 2018 إلى مايو 2019) من 11.6% إلى 15% ، وهو معدل خطير للغاية. دعونا نذكر أن بيانات العمالة الزراعية هي بيانات لا يمكن الوثوق بها بشكل كبير، وهذا يعني أن معدل البطالة الفعلي للبلد هو، على الأرجح، معدل البطالة في المجالات غير الزراعية.

تركيا ومزاعم التماسك الاقتصادي 

معهد الإحصاء التركي، إحصاءات القوى العاملة، مايو 2019، بدأت نسبة التحاق العمالة بسوق العمل في تركيا في الانخفاض مرةً أخرى بالتزامن مع ارتفاع نسبة العاطلين؛ الأمر الذي نأى بسوق العمل التركي بعيداً عن نظيره في الدول المتقدمة، حيث نحتل المركز قبل الأخير بين دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD)، وهو أمر معروف في الكتب والنظريات الاقتصادية؛ حيث يرتبط معدل نمو القوى العاملة بنسبة البطالة.

التطور الأكثر لفتاً للانتباه في جدول إحصائيات القوى العاملة، الذي نشره معهد الإحصاء التركي في مايو 2019، هو أن معدل البطالة بين الشباب في الفئة العمرية بين (15-24) ارتفع من 17.8% إلى 23.3% خلال سنة واحدة، ولا شك أن هذه الزيادة تعد مؤشراً على أن هناك أزمات كبيرة تنتظر بلدنا في المستقبل. نلاحظ في الجدول كذلك أن ما يقارب ربع الشباب (24%) ليسوا متعلمين ولا يعملون. والسؤال الآن عما يفعله هؤلاء الشباب في حياتهم، وما ينوون فعله. في رأيي الشخصي، إن علماء الاجتماع هم المُخاطبون بهذه المشكلة، وليس خبراء الاقتصاد.

ومع ذلك، قد لا يكون الانكماش الاقتصادي، وتراجع الإنتاج هما السبب الرئيس وراء القفزة الكبيرة، التي حققها معدل البطالة بين الشباب خلال عام واحد. لا شك أن هناك أسباباً اقتصادية أخرى تقف وراء ارتفاع نسبة البطالة بين الشباب، ولكن هناك سبب مهم آخر هو الحالة المثيرة للشفقة لنظام التعليم لدينا.

والواقع أن ارتفاع نسبة البطالة بين الشباب، في ظل نظام التعليم الحالي الذي حصلوا عليه، أو بالأحرى الذي لم يتسنّ لهم الالتحاق به، كان مثالاً مناسباً للغاية على حقيقة وجود علاقة بين نظام التعليم السائد وسوق العمل. لسوء الحظ، فإن المستوى المعرفي والمهاري لدى الشباب العاطلين عن العمل ليس على المستوى الذي يمكن أن يسهم بشكل فعال في نمو الإنتاج. ولهذا السبب بالتحديد، كان من الطبيعي ألا يتطابق مستوى المعرفة والمهارات التي يطلبها أرباب العمل مع ما يقدمه هؤلاء، وبالتالي كان من الطبيعي كذلك أن يقترب معدل البطالة بين الشباب إلى 25%.

بينما كنت أعدّ هذا المقال، قرأتُ تعليقاً، عن معدلات البطالة في تركيا، نشره أحد أنصار حزب الشعب الجمهوري، يدعى ولي أغا بابا على موقع Artı Gerçek الإخباري. أنقل لكم فيما يلي أجزاء من هذا المقال

ذكر أغا بابا، في مقالته، أن نسبة البطالة بين الشباب في دول الاتحاد الأوروبي لا تتعدى نسبة 15% ، في الوقت الذي تحتل فيه تركيا المركز الثاني بعد أيسلندا بين دول الاتحاد الأوروبي في ارتفاع نسبة البطالة بشكل مستمر، أو على حد أغا بابا “في الوقت الذي نجحت فيه الدول، التي تأثرت، بالدرجة الأولى، من الأزمة المالية عام 2008، في تقليل نسبة البطالة بين الشباب، سجلت نسبة البطالة بين الشباب في تركيا نسبة 18.6% عام 2015، ثم ما لبثت أن قفزت 4.7 نقطة خلال أربع سنوات لتسجل 23.3%. أما نسبة الشباب الذين تسربوا من التعليم، ولم يلتحقوا بسوق العمل، فقد ارتفعت، هي الأخرى، إلى 24%”.

ذكر السيد أغا بابا تعليقاً مماثلاً على الأرقام التي أشرت إليها أعلاه، ومع هذا فلم يتطرق أحد، بما فيهم أغا بابا، لموضوع وجود علاقة بين انفجار نسبة البطالة بين الشباب بهذا الشكل، ونظام التعليم لدينا، وتسرب الطلاب من التعليم. حاولت الدراسات شرح أسباب البطالة بين الشباب بإرجاعها إلى اختلال التوازن في الاقتصاد الكلي مثل المعدل العام للبطالة، والنمو السلبي، ولكن في رأيي، إن هذه ليست هي الحقيقة الكاملة.

تخيلوا معي أننا نعيش في عالم نموذجي، وأن جميع الشباب الخريجين العاطلين عن العمل من خريجي جامعة هارفارد، حينها سيكون السؤال البديهي في عقولنا عن النسبة التي سينخفض لها مستوى البطالة بين الشباب بشكل فجائي؟  وهذا مما يؤكد على وجود علاقة قوية بين نسبة البطالة بين الشباب ونظام التعليم وسوق العمل.

من ناحية أخرى، تراجع حجم صادراتنا عام 2019 إلى ما دون معدله عام 2008 البالغ  202 مليار دولار ، ومن المتوقع أن يتراجع، بشكل أكبر، إلى 198 مليار دولار خلال 11 عاماً المقبلة. ولما كان النمو هو المحدد الرئيس لحجم الواردات، وعليه يتوقف حجم الطلب على الطاقة الخارجية والسلع الرأسمالية والسلع الوسيطة من الأسواق الخارجية، لذلك كان من الطبيعي أن تتراجع مستويات الطلب على هذه السلع مع النمو السلبي في تركيا، الذي أدى، بطبيعة الحال، إلى حدوث فائض في الميزان التجاري.

ومع ذلك، فالجانب المحزن حقاً في الأمر، أن الوزراء في الحكومة يعتبرون هذا الفائض نوعاً من النجاح الذي يسجل للاقتصاد التركي، متناسين أن السبب وراء هذا الفائض هو أن الاقتصاد الذي توقف عن النمو هو الذي خفّض الطلب الخارجي، وفي المقابل وقف بعض الجهلة ومزيفو الحقائق؛ ليقدموا هذا الأمر للمواطن التركي باعتباره انتصاراً تاريخياً.

إن ما تقوم به الحكومة التركية الحالية يُعدّ، بلا شك، انتهاكاً للمبادئ العالمية لسيادة القانون، في وقت لم تعد فيه المدخرات المحلية كافية، وانقطعت مصادر الدعم الخارجية الأخرى، وأصبح النمو سلبيا. لقد كتبتُ كثيرا في هذا الموضوع، وقلتُ إذا تسبب تباطؤ النمو في حدوث عجز في الميزان التجاري، فحينها لا بدّ أن تكون للديكتاتورية حدود. وهذا ما تقوله أيضاً النظريات والكتابات المختصة بهذا الشأن.

أما إذا كانت معايير التعليم منفصلة عن ظروف المنافسة العالمية، فحينها سيكون من الصعب زيادة النمو والحدّ من بطالة الشباب، وهذه الحقيقة تتوافق كذلك مع النظريات الاقتصادية المختصة.

وإذا كانت مرونة نمو الواردات مرتفعة للغاية، أو بعبارة أخرى إذا ارتفعت الواردات مع النمو،  وتقلصت مع تراجع النمو، فحينها يحدث فائض في الميزان التجاري، وهو فائض غير حقيقي. لهذا السبب يُطلق عليه اسم “النمو السلبي”، وحينها يصبح تقديم هذا الأمر باعتباره خبراً ساراً من أمر الجهلاء فقط.

المصدر: أحوال تركية

النشرة البريدية

سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!

تابعونا على

تابعوا أحدث أخبارنا وخدماتنا عبر حسابنا بتويتر