سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
“خيار لمستقبلين” هو شعار غالباً ما تستخدمه الأحزاب السياسية في حملات الانتخابات العامة. أعضاء حزب المحافظين [البريطاني] اليوم عليهم القيام بالخيار ذاته فيما يقررون من سيكون رئيس وزرائنا المقبل، ريشي سوناك أو ليز تراس.
وينبغي من هذه المنافسة أخيراً أن تعالج انقساماً حل في صفوف المحافظين عقب الاستفتاء على الخروج من الاتحاد الأوروبي قبل ست سنوات، والذي تسبب في أزمة هوية لدى الحزب، فيبدو الخيار في الظاهر انقساماً بين التحلي بالمسؤولية المالية التي يطرحها سوناك، وبين ما تعد به تراس من اقتطاعات [تخفيضات] ضريبية فورية.
بيد أن هذا السجال يستبطن سؤالاً أكثر جوهرية، هل على بريطانيا ما بعد “بريكست” تبني رؤية تراس كي تستغل حرياتها الجديدة وتتحول إلى بلد الضرائب فيه متدنية والقيود الناظمة [الضوابط] مخففة يختلف عن الاتحاد الأوروبي وضوابطه المشددة، ويتمتع بـ “دولة أصغر” [تدخل حكومي أصغر] يسميها أنصار “بريكست” “سنغافورة على ضفة التايمز”؟ أم أن على بريطانيا أن تسلك المسار الذي يطرحه سوناك فتحيا بحدود إمكاناتها وتوازن حساباتها وتأخذ في الاعتبار المتطلبات المتزايدة في مجال الخدمات العامة، وليس أقلها متطلبات شريحة البريطانيين المسنين؟
في هذا الإطار حدثني نائب رفيع بحزب المحافظين قائلاً “أمام الحزب خيار حقيقي، إنه مفترق طرق”، وقال نائب آخر “هذا الأمر الآن سيكون معركة أفكار حقيقية”.
رئاسة بوريس جونسون ساهمت في إخفاء التصدع الذي نشأ إثر “بريكست”، فهو كرر الكلام عن “الفرص التي يتيحها (بريكست)”، لكنه للمفاجأة لم يفعل الكثير لاستغلال تلك الفرص، والتحالف الانتخابي الذي بناه جونسون سنة 2019 قاد حكومته نحو سياسة إنفاق أعلى وإلى زيادة العبء الضريبي الذي سجل أعلى نسبة له خلال 70 سنة حين أصر سوناك من موقعه كوزير للمالية على المضي في رفع اشتراكات التأمين الوطني لتمويل إصلاحات جونسون في قطاع الرعاية الاجتماعية.
وتقوم تراس اليوم بتعليق حبل مشنقة الأعباء الضريبية حول عنق سوناك، وكانت وزيرة الخارجية قد وعدت باعتماد مسار جديد للنمو منذ اليوم الأول [لرئاستها]، محذرة من أن سوناك قاد البلاد نحو الركود، وإنها سوف تستبدل السياسات التي نتج منها نمو بطيء طوال عقدين بسياسات جريئة “للإصلاحات في الموارد الجانبية”.
وستقوم تراس بإلغاء الزيادة في اشتراكات التأمين الوطني التي أقرت في شهر أبريل (نيسان)، كما ستعلق “الضريبة الخضراء” [لحماية البيئة] لاستقطاع مبلغ 153 جنيه استرليني (نحو 183 دولار) من رسوم الطاقة لمعالجة أزمة غلاء المعيشة.
ولمحت تراس إلى أنها ستلغي خطوة رفع ضريبة الشركات من 19 إلى 25 في المئة والتي يبدأ مفعولها في شهر أبريل المقبل.
خطة تراس هذه قد تصل كلفتها إلى 40 مليار جنيه استرليني (نحو 48 مليار دولار)، ويحذر اقتصاديون كثر من أن يؤدي خفض الضرائب إلى رفع التضخم (وبالتالي معدلات الفائدة)، رافضين فكرة أن الضرائب ستمول ذاتها من خلال إنعاش النمو.
وستسمح تراس لعمليات الاستدانة من أجل تجاوز الأزمات قائلة إن الدين المترتب على البلاد بفعل الجائحة ينبغي اعتباره “دين حرب” يسدد تدريجياً، أما نقطة ضعفها كرئيسة وزراء فقد تتمثل بتقليص إضافي للإنفاق العام، بيد أنها ستنفي تهمة “العودة للتقشف” عبر إطلاق الوعود بإجراء إصلاحات جذرية في القطاع العام.
في المقابل يقدم سوناك رؤية مختلفة تماماً، وبالنسبة إلى منتقديه في أوساط حزب المحافظين فتمثل هذه الرؤية رؤية شخص غدا “أسيراً للنظريات الأرثوذكسية المالية”، ويصر سوناك على أنه “محافظ داعم للضرائب المنخفضة”، لكنه يعتبر أن الخفوض الضريبية ينبغي أن تنتظر ريثما تتم السيطرة على التضخم، ولديه في هذا السياق وجهة نظر محقة حين يجادل بموقفه.
وعلى الرغم من خطة تراس الضريبية يبقى سوناك الوريث الحقيقي لمارغريت تاتشر التي رفعت الضرائب كي توازن الحسابات، قبل أن تعود وتخفضها في مراحل لاحقة من رئاستها، إذ كما ذكر أحد المؤيدين لسوناك “يحتاج ريشي إلى مزيد من الاندفاع في الدفاع عن موقفه، فتاريخ الحقبة التاتشرية يجري إعادة صياغته [أي تغييره]”.
ويتوقع نواب حزب المحافظين بأن تتمكن خطة “خفض الضرائب فوراً” من استمالة أعضاء الحزب بشكل أفضل من مقاربة سوناك، على الرغم من أن الدراسات الاستطلاعية تظهر أنهم لا يشاركون تراس حماستها تجاه فكرة “الدولة الصغيرة” [الحكومة التي لا تتبنى سياسات تدخلية]، ويريدون حماية الخدمات العامة وصونها، لكن سوناك بغية تلافي الهزيمة قد يحتاج سريعاً إلى تبديد الاعتقاد السائد القائل إنه “يعارض خفض الضرائب”.
أعضاء كثر في حزب المحافظين قد يدلون بأصواتهم باكراً الشهر المقبل عندما ترسل لهم أوراق الاقتراع، وعليه يمكننا أن نتوقع قريباً فورة سياسات من قبل فريق سوناك، وشخصياً أعتقد أنه قد يقدم وعداً بتسريع الخصم على ضريبة الدخل بنسبة بنس واحد في الجنيه الاسترليني التي سبق وأعلنها لعام 2024 حين كان وزيراً للمالية، ليغدو هذا التدبير سارياً في شهر أبريل المقبل. وفي حال اتهم أنه غير رأيه يمكنه الإجابة بأنه خطط للقيام بذلك في الموازنة التي أعدها هذا الخريف.
وعلى الرغم من أن منافسي سوناك يصورونه وكأنه من الجناح اليساري في حزب المحافظين، إلا أنه يبقى محقاً في وصف نفسه كمحافظ في السياسات المالية، بيد أنه تلقائياً قد يكون أكثر تعاطفاً من تراس مع المتطلبات المالية لقطاع الخدمات العامة، لكن هذا لا ينطبق على كل نواحي الإنفاق.
وكانت تراس تعهدت برفع الإنفاق في المجالات الدفاعية إلى معدل ثلاثة في المئة من الناتج المحلي الإجمالي مع حلول سنة 2030، فيما ينوي سوناك إبقاء هذا الإنفاق على مساره الراهن، ليرتفع بمعدل 2.5 في المئة خلال الفترة عينها.
وعلى الرغم من أن وزير المالية السابق كان قد أولى وزارة الدفاع معاملة خاصة في برنامج الإنفاق الذي وضعه، إلا أنه يشارك الخزانة شكوكها في وجود مردود بالقيمة جراء صرف تلك الأموال.
وفيما يرى معسكر تراس أن سوناك سيقدم دعماً أقل لأوكرانيا وسط مخاوف من تأثر بريطانيا من العقوبات المفروضة على روسيا، لكن على أرض الواقع كلاهما سيقوم بتبني المقاربة ذاتها، لكن المرجح أيضاً أن تكون تراس أكثر حزماً من سوناك تجاه الصين.
ومن المتوقع كذلك أن تتبنى وزيرة الخارجية مقاربة أكثر حزماً في العلاقات مع الاتحاد الأوروبي، فيما يلمح حلفاء سوناك أنه قد يرغب في تحسين هذه العلاقات، الأمر الذي يتطلب اعتماد المرونة بالنسبة إلى “بروتوكول إيرلندا الشمالية”، أما تراس التي تلقى دعم العديد من مناصري “بريكست” بأوساط حزب المحافظين فإنها قد تسعى إلى الوفاء بالشعارات التي أطلقتها، وقد تمضي قدماً في الضغط لمصلحة تشريعاتها المثيرة للجدل، فتمكن الحكومة من تجاوز بنود أساس من البروتوكول، لذا من المرجح أن تكون مكانة المملكة المتحدة على المسرح العالمي في ظل رئاسة سوناك أعلى مما قد تكونه برئاسة تراس.
بعض التغييرات في عهد الإدارة الجديدة ستكون تغييرات شكلية، فوعود جونسون بتحسين المستوى المعيشي [التقديمات الطبية والتعليمية وتوفير فرص العمل والتطور] قد لا تنجو بحد ذاتها كشعارات، لكن الاستراتيجية ستستمر مع محاولة القيادة الجديدة للمحافظين للتمسك بمقاعد البرلمانية التي فازت بها سنة 2019 في معاقل حزب العمال، وكل من سوناك وتراس تعهدا بتعيين وزير جديد “لإيرلندا الشمالية” وإبداء مزيد من التنازلات واعتماد معادلة لتأمين الدعم المالي الحكومي لإنماء المناطق المحرومة.
أياً كان الفائز بسباق حزب المحافظين فهو سيواجه المهمة الصعبة الآيلة إلى تجديد دم الحزب في الحكومة، وذلك بموازاة مهمات شاقة أخرى مصدرها ضغوطات راهنة منها الأزمة الاقتصادية والحرب في أوروبا، ومن هنا يردد بعض نواب حزب المحافظين بشكل غير علني أن “معركة الأفكار” التي يتخبط بها الحزب ينبغي أن تنتهي خلال وجود الحزب لفترة في موقع المعارضة.
المصدر: independentarabia
سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
تابعوا أحدث أخبارنا وخدماتنا عبر حسابنا بتويتر