سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
ألفة السلامي
من المؤكد أنها كانت ليلةً حزينةً على المحافظين بعد إعلان هزيمتهم، لكنها لم تكن كذلك انتصارًا واضحًا لحزب العمال.
خسر المحافظون لكن حزب العمال، الخصم التقليدي في الحياة السياسية البريطانية، لم يفز أيضاً، وهذا أغرب ما يتّسمُ به مشهد الانتخابات المحلية في بريطانيا التي جرت خلالها المنافسة على آلاف المقاعد في المجالس المحلية في إنجلترا واسكتلندا وويلز، حيث أظهرت منافِسيْن قويين من خارج الدائرة الثنائية: الحزب الديمقراطي الليبرالي من جهة، الذي عاش أسعد ليلة في تاريخه يوم الخميس الماضي، بتحقيقه مئات المكاسب في جميع أنحاء البلاد، وحزب الخضر بدوره الذي حقق مكاسب كبيرة نسبيّاً تعكس تقدّماً عن الجولات الماضية. ويفسّرُ مراقبون للمشهد الانتخابي هذا التغيّر في سلوك الناخبين بأنهم يسعون إلى إيجادِ بدائلَ لحكومة المحافظين التي تتهاوى شعبيتها بالتوازي مع معارضة غير مقنعة لحدٍّ كافٍ. ولعلَّ هذا التراجع وخسارة مئات المقاعد للمحافظين يؤدي للمزيد من الضغوط على رئيس الوزراء الحالي، بوريس جونسون.
لكنّ خصمَه العمّالي، كير ستارمر، لم يسلمْ أيضاً من الانتقادات، بعد فشله في تحقيق “خروج المحافظ المغلوب”. أمّا الجديد الذي جاءت به الانتخابات المحلية لآيرلندا الشمالية فهو تحقيق نصر تاريخي لجمهور حزب الشين فين المؤيد لإعادة توحيد أيرلندا الشمالية مع جمهورية أيرلندا . فكيف تبدو تفاصيل المشهد السياسي بعد نتائج الانتخابات المحلية.. وما مدلولات ذلك على الانتخابات العامة القريبة، وعلى مستقبل الوحدة بين ضفتي أيرلندا ؟
خسائر كبيرة للمحافظين:
تكبَّدَ حزب المحافظين الحاكم في بريطانيا خسائر كبيرة في انتخابات المحليات، بلغت نحو 500 مقعد مع فقد الأغلبية في 11 مجلساً محليّاً في البلاد. لكنَّ التراجع الشديد، خاصة خسارة مجالس لندن المرموقة، كان النتيجة الأكثر قسوة، مما يؤكدُ أنَّ الناخبين انقلبوا ضد حزب المحافظين، وأنه اتجاه عام في عديد من المناطق قد يوحي باتجاهات مماثلة خلال الجولة القادمة للانتخابات العامّة. فليس أمراً سهلاً تسجيلُ المحافظين تلك الخسارة في العاصمة لندن لحساب العمّال، لاسيما في مجالس واندزورث وبارنيه ووستمنستر الخاضعة تقليديّاً لسيطرة المحافظين منذ عقود. وهذه المرة الأولى منذ عام 1964 التي يفقد فيها حزب المحافظين سيطرته على ثلاثة مجالس رئيسية في العاصمة لندن لصالح حزب العمّال بقيادة كير ستارمر.
وهذه النتيجة “الكئيبة” بالنسبة للمحافظين، كما يصفها بعض المراقبين، تجاوزت أكثر التوقعات تشاؤمًا قبل الانتخابات. وصفت إحدى صحف لندن الصباحية يوم الجمعة خسارة المحافظين ثلاث مجالس رفيعة المستوى بأنها “ليلة مظلمة لم تشرق الشمس في نهايتها”.
كان هذا أقل بأربع نقاط عن عام 2018، وست نقاط عن عام 2021، وهو ما دفع أيضاً مراقبين للمشهد الانتخابي وصفَ خسارة حزب المحافظين في صندوق الاقتراع بأنها “تراجيدية”، حيث خسر ما يقرب من 500 مقعد في المجلس، أي ما يقرب من ثلث مقاعد الحزب. وعلّلوا هذه النتائج بأنها تعكس “خيبة أمل الناس” من سياسات المحافظين. وكان وراء عدم ذهاب الكثير من الناخبين للاقتراع هذه المرة شعورهم بالخذلان من حزبهم بعد ارتفاع أسعار المعيشة، وزيادة معدلات التضخم، وتدهور الأحوال الاقتصادية والاجتماعية. وعزا البعض الآخر النتائج الهزيلة للمحافظين بزعامة جونسون- الذي تولّى رئاسة الحكومة قبل ثلاثة أعوام- بتورّطِ الأخير في الفضيحة التي أصبحت تُعرف إعلامياً “بارتي جيت”، التي تسببت في تغريمه الشهر الماضي، بعد ثبوت تهمة مخالفة قواعد التباعد الاجتماعي التي فرضها تفشي جائحة كورونا، وهو أوّل رئيس وزراء بريطاني يتعرض لعقوبة الغرامة فى أثناء وجوده في المنصب لإدانته بمخالفة القانون. وقد واجه دعوات عديدة تطالب باستقالته، إلا أنه نجا منها بعد تسليط الضوء على دوره في الدعم الغربي لأوكرانيا. غير أنه لم ينجُ من التصويت العقابي من أنصاره الذين انقلبوا ضده وأعطوا أصواتهم للأحزاب المنافسة.
حزب العمال بين النجاح والإخفاق:
ارتفع رصيد حزب العمال بفوزه بـ 137 مقعدا في المجالس المحلية، ومنح بذلك المعارضة أكبر تقدم على حكومة المحافظين منذ عام 2012. ومع ذلك، فشل أداء حزب العمال المتفاوت بين التقدم في لندن والتراجع خارجها، في تأكيد جاذبيته للناخبين في أرجاء بريطانيا.
ويسعى حزب العمّال الآن لاستثمار الكثير من عناصر القوة التي تدعو إلى التشجيع، ومن حصوله على مقاعد في مجالس لأول مرة وسيطرته بالأغلبية على ثلاثة مجالس لندنية، محاولا البناء عليها في الانتخابات العامّة. فمن المعروف أنه لم يُدرْ منذ ما يقربُ من 50 عاماً أى من واندزورث أو بارنيه أو ويستمينستر. الآن يسيطر الحزبُ على الثلاثة. ظل المد الأحمر يتصاعد في العاصمة لندن منذ سنوات عديدة، حتى إنها اقتربت الآن من أن تصبح تحت سيطرة الحزب الواحد. وفي حين أن هذا كان السيناريو الأسوأ بالنسبة للمحافظين، فإن الاتجاهات الأساسية التي أدت إلى تراجعهم ليست جديدة.
وتتلاقى حاليّاً جميع التيارات المؤيدة لحزب العمال في لندن، فهي أصغر سناً وأكثر تنوعًا عرقيًا، وأكثر ثقلًا في الخريجين وأصحاب الشهادات العليا، وأكثر تمثيلاً لعناصر المجتمع من النساء والرجال والشباب والفئات الاجتماعية ككل. وقد دفع ذلك رئيس الحزب، كير سترامر، بأن يشحذ هممَ أنصار حزبه ويقول إنهم يخطون خطوات “على المسار الصحيح” نحو الفوز بالانتخابات العامة المقبلة.
لكنَّ ذلك الحماس لم يحجب القلق الذي استغرق بعض زعامات حزب العمال. كانت نسبة التصويت الإجمالية لحزب العمال التي لم تكن أفضل مما كانت عليه قبل أربع سنوات جنباً إلى جنب مع النتائج المتواضعة خارج العاصمة البريطانية، سبباً في إثارة الجدل والنقاش بين تلك الزعامات وأنصارهم، في محاولة لنقد الذات والتعلّمِ من الأخطاءِ. توقفوا عند الخسارة الكبيرة لحزبهم في أسكتلندا وويلز، حيث فقد الأغلبية في مجلسهما المحليين. كما توقّفوا عند تراجع إجمالي الأصوات أو ثباتها في بعض المناطق التي كانت في السابق “حمراء”. ويقول بعض الأنصار أن زعماء الحزب العمالي انصرفوا للرد على خصومهم التقليدين -المحافظين- وغفلوا عن المنافسين الجدد القادمون بقوة.
الديمقراطيون والخضر يتقدّمون:
فاز الديمقراطيون الليبراليون بمكاسب ضخمة تمثلت في أكثر من 200 مقعد، وهو ما أمّنَ للحزب السيطرة على المجالس المحلية في ووركنج، وجوسبورت، وهال، ما تجاوز كل التوقعات، بحسب مراقبين، خاصة مع ترجيح الناخبين الساخطين في معقل حزب المحافظين كفة الديمقراطيين في جميع أنحاء إنجلترا، إضافة إلى مكاسب في اسكتلندا وويلز أيضًا.
وقد دفع ذلك إد ديفي، زعيم حزب الديمقراطيين الليبراليين، إلى القول إنَّ نتائج هذه الانتخابات سوف تكون نقطةَ تحوّلٍ في حظوظ حزبه، مضيفا أن الناخبين “سئموا” من حزب المحافظين وسط الضغوط التي تحاصر مستويات المعيشة، مرجحاً حزبه ليصبحَ “المنافس الحقيقي” في المناطق التي يسيطر عليها المحافظون.
أما حزب الخضر، فكان أنصاره مبتهجين أيضًا بعد أداء قوي ثالث على التوالي في الانتخابات المحلية، بارتفاع في المتوسط بأربع نقاط عن 2018 في المقاعد التي تنافسوا عليها في المرتين، مع زيادات مركزة تساعدهم في الحصول على أكثر من 60 مقعدًا.
وتعزّزُ هذه الجولة الانتخابية القوية مرة أخرى مكانة حزب الخضر في الحياة الحزبية والسياسية. كما يطرح تقدمه في الانتخابات المحلية أسئلة جديدة على جميع الأحزاب، حيث أصبح الآن منافسًا جديدًا وقوياً لحزب العمال في العديد من المعاقل الحضرية وكذا المعاقل التقليدية لحزب المحافظين. كما أنه ينافس الديمقراطيين الليبراليين على نصيب مما يسمى بالأصوات الاحتجاجية أو التصويت العقابيِّ في الأماكن المزدحمة بالخريجين؛ بينما في أسكتلندا يتحدى حزب الخضر الحزب الوطني الاسكتلندي للناخبين المؤيدين للاستقلال.
ويؤكد حزب الخضر بذلك أنه أصبح له الآن حضور راسخ في المجالس بشتّى أنحاء بريطانيا، لكنْ يبقى أن نرى ما إذا كان بإمكانه استخدام الوجود المحلي المتزايد كنقطة انطلاق لحملات الانتخابات العامة لتعزيز مصداقيته.
“الشين فين” يعود بقوّةٍ بعد مئة عام:
في حين سيتم غربلة النتائج المحلية من قبل الأحزاب المتنافسة والمحللين السياسيين بحثًا عن علامات التقدم أو التراجع في الانتخابات العامة المقبلة، فقد كانت الانتخابات ذات عواقب سياسية فورية في أيرلندا الشمالية، حيث صنع حزب الشين فين محطة فارقة في تاريخه السياسي وأصبح أوّلَ حزب قومي على الإطلاق يتصدر الاقتراع في المقاطعة. ومع ذلك، كانت هذه أيضًا نتيجة مفاجئِة للكثيرين، ربما لأن حزب الشين فين يفوز بالغالبية في المجلس المحلي للمرة الأولى منذ مائة عام في تاريخ المقاطعة البريطانية التي يبلغ عدد سكانها 1.9 مليون نسمة والتي تعاني أجواء توتر منذ خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.
وقد وصف مراقبون فوز حزب الشين فين، الواجهة السياسية للجيش الجمهوري الأيرلندي سابقاً والمؤيد لإعادة توحيد أيرلندا الشمالية مع جمهورية أيرلندا، بأنه يحمل في طياته عواقب “زلزالية” محتملة لتوازن القوى بين الوحدويين الذين ينشدون الوحدة مع العرش البريطاني، والقوميين، الذين يطالبون بإعادة توحيد أيرلندا الشمالية وجمهورية أيرلندا .
ويبدو أنَّ التغييرَ قادمٌ في الأجواء الأيرلندية الشمالية لا محالة، على الرغم من أن الشكل الذي سيتخذه هذا التغيير لا يزال غير واضح بعْدُ.
ويعاني حزب المحافظين حالياً من “نوبة انزعاج” كبيرة من الجنوب. كان التراجع في دعم حزب المحافظين أكبر بكثير في الجنوب منه في الشمال أو ميدلاندز، والأكبر على الإطلاق في معاقل المحافظين الجنوبية، حيث كان أداؤهم أفضل في انتخابات عام 2018. وقد ازداد تراجع حزب المحافظين في المقاطعات الرئيسية، مقارنة بالتراجع الذي ظهر بالفعل في الانتخابات العامة لعام 2019. وسيطر التوتر حاليّاً على نواب حزب المحافظين الجنوبيين، حيث تشير نتائج التصويت الحالية إلى أنه حتى أولئك الذين لديهم أغلبية كبيرة قد لا يكونون في مأمن من تمرُّدِ فئات الطبقة الوسطى الساخطين على المحافظين. واستطاع الديمقراطيون الأحرار، بعد خمس سنوات من العمل كقوة ضغط في الائتلاف، استعادة دورهم التقليدي كحزب جامع لأصوات المحتجّين. وبعيداً عمَّا أظهرته الانتخابات المحليّة من نقاط ضعف أو قوة لكل حزب، فإن الحقيقة التي تكشّفت بوضوح تتمثل في تغيّر مواقف الناخبين تجاه المحافظين في السلطة، بعد انتقاد طريقة إدارتهم لجائحة كورونا، واعتبار إجراءاتهم غير كافية لمساعدة الأسر التي يخنقها التضخم، في ضوء ما لحقهم مؤخرا من صعوبات في المعيشة بعد ارتفاع أسعار مصادر الطاقة والمواد الأولية.
كما أن هذه النتائج ستزيد الجدل الدائر بين المحافظين في الفترة المقبلة قبل الانتخابات العامّة وانقسامهم حول جدارة قيادة بوريس جونسون. وسوف تمنحُ المئات من المقاعد المفقودة وانهيار الكتلة الداعمة خصومه ذخيرةً قويةً للهجوم عليه وإظهار فشله. وقد يرى بعض الخصوم أن الإبقاء على جونسون يمكن أن يضيف وقودًا إلى تمرد المناطق الجنوبية، لكنَّ الموالين له سيرون أيضاً أن استبدالَه بشخصية محافظة بارزة يمكن أن يؤدي بدوره إلى ردِّ فعلٍ عنيفٍ من طرف المنافس الأحمر حزب العمّال.
ختاما، قد يتحدّدُ مصير رئيس الوزراء وفقاً لما ستئول إليه كفّةُ تلك المخاطر، وهو ما يقلق نواب المحافظين أكثر من غيرهم، خوفاً من أن يواجهوا في الانتخابات العامة المقبلة نفس المصير الذي واجهوه في الانتخابات المحلية الحالية، وهو التصويت العقابيِّ من الكتلة المحتجة التي قد يتسّعُ عددها مع زيادة المخاطر.
المصدر: مجلة السياسة الدولية
سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
تابعوا أحدث أخبارنا وخدماتنا عبر حسابنا بتويتر