سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
تريفون شارما
بجانب العواقب الاقتصادية طويلة المدى التي سيواجهها كلٌّ من الاقتصاد الأوروبي والبريطاني، فمن المرجح أن يكون لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي والمعروف بـ”بريكسيت” تداعيات أمنية، من شأنها إضعاف منظومات التحالفات والمؤسسات الغربية التي تعمل على حفظ الأمن والاستقرار في القارة. وهو ما يرجع إلى أن أحد التأثيرات طويلة المدى لخروج بريطانيا من الاتحاد، سينعكس على حالة الجغرافيا السياسية للمنطقة، وكذلك دور بريطانيا في العالم كله؛ فقد كان دخول بريطانيا للمؤسسات الأوروبية بناء على حسابات استراتيجية تتعلق بقبول الواقع الجيوسياسي الذي ظهر في أعقاب الحرب العالمية الثانية.
فقُبَيل تلك الحرب، كانت بريطانيا هي القوة العالمية المهيمنة، وكانت تسيطر على طرق التجارة العالمية عبر المحيط الأطلسي والهندي والهادئ. ثم إن طرق التجارة البحرية إلى جانب قيادة الثورة الصناعية في أوروبا، مكَّنت بريطانيا من الظهور كقوة اقتصادية مهيمنة خلال القرن التاسع عشر. ومع ذلك، فخلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وفي أعقاب توحيد ألمانيا، بدت الأخيرة كقوة قارية ديناميكية قادرة على الإنتاج والتجارة بكفاءة. ومن ثَمَّ، فقد بدأت المملكة المتحدة في نهاية القرن التاسع عشر، تفقد مكانتها الرائدة على مستوى القارة، وكذلك هيمنتها العالمية وتفوقها على الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية.
وخلال تلك المرحلة، تنامى ظهور الولايات المتحدة كقوة مهيمنة، إذ مكَّن الاقتصاد الأميركي القوي، فضلاً عن قوتها البحرية المتفوقة، من السيطرة على طرق التجارة البحرية العالمية. وقد دفعت الرؤية الجيوسياسية للمملكة المتحدة إلى أن تصبح حليفًا استراتيجيًا للولايات المتحدة؛ ذلك أن تأمين طرق التجارة البحرية الحيوية كان في صالح البلدين. فبالنسبة للولايات المتحدة، كان تأمين طول السواحل المطلة على المحيطين الأطلنطي والهادئ، مسألة أمنية مدفوعة بالظروف الجغرافية. أمَّا بالنسبة للمملكة المتحدة، فقد كان الأمر يتعلق بإبقاء الطرق الحيوية للتجارة الدولية المفتوحة. لكن تفكك الإمبراطورية، كان يعني – أيضًا – أن المملكة المتحدة تُركت على وضع اقتصادي ضعيف يحتاج إلى إعادة بنائه.
ولمَّا كانت الحرب العالمية الثانية دمرت الاقتصادات الأوروبية، فقد قرر مؤسسو الاتحاد الأوروبي أن أفضل طريقة لضمان النمو في القارة، هو دخول الدول الأوروبية، اقتصاديًا وسياسيًا، في إطار مؤسسات من شأنها أن تقضي على خطر الحرب. وهكذا، بدأت فكرة وجود سوق مشتركة في قارة أوروبا في التشكل. ومع تنامي أوضاع البلدان الأوروبية بشكل بدا أكثر اتحادًا، بجانب العمل على إعادة بناء اقتصاداتها، شهدت المملكة المتحدة فرصة ممتازة، فأدركت أن السوق الأوروبية المشتركة يمكن أن تكتمل إن لم تحل محل أسواقها في الإمبراطورية المتراجعة. وبعبارة أخرى، فإن المصالح الاقتصادية للمملكة المتحدة دفعتها نحو الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي.
بجانب ذلك، فقد وجدت المملكة المتحدة أنها استفادت من عضويتها النشطة في منظومة الأمن الأوروبي، التي تتضمن كلاً من حلف الناتو والاتحاد الأوروبي؛ وأصبحت حجر الأساس للأمن القومي البريطاني. فقد سمحت المشاركة في حلف الناتو للمملكة المتحدة بالمحافظة على بعض القوة العالمية، وإعادة تحديد موقعها في أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية؛ فخلال الحرب الباردة، قامت بريطانيا ببناء سياستها الخارجية والدفاعية في ضوء عضويتها في الناتو؛ وأصبح التحالف الذي تمَّ تشكيله لحماية أوروبا الغربية من غزو الاتحاد السوفييتي، محوريًا لكيفية قيام المملكة المتحدة ببناء وتجهيز ونشر قواتها المسلحة لعقود قادمة.
ومع ذلك، فقد شهدت نهاية الحرب الباردة تراجع الإنفاق الدفاعي للمملكة المتحدة بعد القضاء على التهديد السوفييتي. وهو ما أدى إلى تخفيضات كبيرة فُرِضَت على القوات المسلحة البريطانية، وهي العملية التي تكررت في معظم الدول الأوروبية الأعضاء في الناتو. في حين أن بريطانيا لم توفر الجزء الأكبر من القوات والموارد لعمليات الأمن الأوروبية في كلٍّ من كوسوفو، وأفغانستان، وبحر إيجة، وخليج عدن؛ ذلك أن مساهماتها تركزت في توفير التوجيه الاستراتيجي والخبرة والاستخبارات والمعدات التي أثبت فعاليتها. وقد ساهم ذلك في المصداقية الدولية للاتحاد الأوروبي بالقضايا الأمنية.
وهكذا، فقد كانت المملكة المتحدة جزءًا لا يتجزأ من منظومة الأمن الأوروبي خلال فترة ما بعد الحرب الباردة. إلا أنها بـ”خروجها من الاتحاد الأوروبي” Brexit، يتغير هذا الأمر؛ ذلك أن تأثير “بريكسيت” سيؤدي في أحسن الأحوال إلى إحداث حالة من عدم اليقين، وفي أسوأ الأحوال تضعف منظومة الدفاع الغربية بشكل دائم عن طريق انقسامات جديدة التي تطرأ على أوروبا. فهناك عدد من القضايا المثارة بشأن الكيفية التي ستواصل بها المملكة المتحدة ما بعد “بريكسيت”، التعاون مع هيئات أوروبية، مثل: “يوروبول” والمركز الأوروبي لمكافحة الإرهاب. وفي الوقت الحالي، يُفترض أن تتعاون بريطانيا في الترتيبات الأمنية الأوروبية بشكل مستمر بعد خروجها، لكن الأمر غير مؤكد، حيث تعتمد كثيرًا على كيفية سير المفاوضات.
وبالنظر إلى أهمية هذه الهيئات بالنسبة لكل من بريطانيا والاتحاد الأوروبي، فمن الممكن أن نفترض أن كلا الطرفين سيحاولان إيجاد أرضية مشتركة، ذلك أن خسارة أحدهما للآخر ستكون لها عواقب سلبية ليس فقط على سير عمل المنظمة، بل على المنظومة العامة للأمن في أوروبا، وهو ما أظهرته الهجمات الإرهابية الأخيرة. ولذلك، فإن المملكة المتحدة – بما لديها من ميزانيات عسكرية كبيرة، وأسلحة متطورة، وخدمات استخباراتية متطورة جدًا – أثبتت درجة عالية من الحيوية، وخاصة في الحفاظ على جهود الاتحاد الأوروبي في إطار مكافحة الإرهاب والأمن الداخلي.
تحديد أولويات العلاقات الثنائية
إن التأثير الحقيقي لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، سيتركز على العلاقات الثنائية بداخل الاتحاد الأوروبي التي يمكن أن تؤثر على ديناميكيات عمل الاتحاد متعددة الأطراف. فقد سبق أن أعطت الولايات المتحدة الأولوية لعلاقتها مع عدد من دول الاتحاد الأوروبي، مثل: بولندا ورومانيا. إذ كانت سياسة الولايات المتحدة على دراية بمفهوم “إنترميريام” Intermarium، وهي الفكرة التي طرحها مفكرون استراتيجيون من أجل فهم السياسة الأميركية، خاصة فيما يتعلق ببلدان أوروبا الوسطى والشرقية، حيث تتمتع المملكة المتحدة بعلاقة عسكرية قوية مع الولايات المتحدة. ومقارنة بالقوى الأوروبية الأخرى، مكنت القوة العسكرية للمملكة المتحدة ومصالح السياسة الخارجية المشتركة، من تقاسم العبء العسكري مع الولايات المتحدة في حالة الانخراط في عمليات عالمية وإقليمية.
ومن الواضح أن موقف الرئيس ترمب، لا يروق للاتحاد الأوروبي، إذ يمنحه حلف الناتو ودعمه لإحياء العلاقة الخاصة بين المملكة المتحدة والولايات المتحدة الأميركية، فرصة مغرية لتعزيز علاقته مع الولايات المتحدة التي تعتبر الركيزة الأساسية لسياستها الخارجية. في الوقت نفسه، توفر سياسة الولايات المتحدة تجاه دول وسط وشرق أوروبا أرضية مشتركة كبيرة بالنسبة بريطانيا لتبقى قوةً مؤثرةً في أوروبا من خلال بناء علاقات أقوى مع القوى الصاعدة في تلك المنطقة. ويمكن أن تكون هناك فرصة لشراكة أقوى بين بولندا وبريطانيا ما بعد “بريكسيت” Brexit.
وقد وقَّع الجانبان – بالفعل – على معاهدة التعاون في مجال الدفاع والأمن، التي بموجبها تمَّ تعهد الطرفين بالتزامات بشأن عدد من القضايا التي تتراوح بين الأمن الإلكتروني “السيبراني” والاتصالات الاستراتيجية. فبموجب اتفاقية التعاون الدفاعي والأمني، يمكن لبريطانيا أن تقدم لبولندا عددًا من المزايا. ومن الجدير بالملاحظة، أن بولندا على الرغم من كونها عضوًا نشطًا في منظومة حلف شمال الأطلسي، وهي من بين الدول القليلة التي تساهم بنسبة 2٪ من ناتجها المحلي الإجمالي في ميزانية الناتو، فإنها لا تعتمد فقط على حلف الناتو في أمنها. فقد ركزت بولندا – تاريخيًا – على تطوير علاقات الدفاع الثنائية مع الدول الرئيسية لمواءمة اعتباراتها الأمنية.
ويمكن لبريطانيا، بعد خروجها من الاتحاد الأوروبي، أن تقدم الدعم البولندي في القضايا الحاسمة المتعلقة بأمنها، فقد كانت لندن واحدة من أشد منتقدي سياسة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في أوكرانيا، ولا يوجد سبب لافتراض أن سياسة لندن ستتغير بعد “بريكسيت”. فلدى بريطانيا مشاكلها الخاصة مع روسيا، حيث سيكون من مصلحة بريطانيا إلقاء ثقلها الدبلوماسي على مقاومة بولندا لروسيا. وعلاوة على ذلك، يمكن للندن – أيضًا – أن توسع نطاق التعاون الاستثماري والتجارية مع بولندا بما يمكن أن يقلل من اعتماد الأخيرة على ألمانيا من أجل النمو الاقتصادي على المدى الطويل. فترسيخ مكانة بولندا السياسية في أوروبا من شأنه أن يمكِّن بريطانيا من الحفاظ على وضعها الجسيوسياسي في أوروبا. وبالنسبة لبولندا، فإن الحصول على الدعم من قوة اقتصادية ودبلوماسية كبيرة، يُعدُّ أمرًا حاسمًا في ظل حملتها لمواجهة التأثير الألماني في أوروبا.
إعداد: وحدة الترجمات بمركز سمت للدراسات
سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
تابعوا أحدث أخبارنا وخدماتنا عبر حسابنا بتويتر