أثارت محاولة تمرد قوات شركة فاجنر شبه العسكرية ضد القوات المسلحة النظامية الروسية والتي تم أجهاضها، حيث إنها لم تدم طويلًا 23-24 يونيو 2023، ورحل قائدها يفغيني بريغوزين إلى بيلاروسيا؛ مجموعة من التساؤلات بشأن مستقبل قوات فاجنر المتمركزة في القارة الأفريقية، في ظل التضارب في التقارير بشأن انسحابها من أفريقيا الوسطى، والتداعيات المُحتملة على جمهورية أفريقيا الوسطى إذا تم تأكيد صحة التقارير التي تتحدث عن رحيل قوات فاجنر.
التقارير المتضاربة
بدأت قوات فاجنر في التواجد في أفريقيا الوسطى عام 2017، للمشاركة في التصدي للجماعات المتمردة النشطة في جمهورية أفريقيا الوسطى، وقد تزايد نفوذ قوات فاجنر في 2020 بقيامها بحراسة وتأمين رئيس جمهورية أفريقيا الوسطى، وكذلك مساعدة الأجهزة الأمنية والقيام بتدريب أفرادها ورفع الكفاءة الأمنية، وهو ما حقق استقرارًا نسبيًا في البلاد.
وفي أعقاب محاولة التمرد الفاشلة، صدرت تصريحات رسمية من جانب وزير الخارجية الروسية سيرجي لافروف في السادس والعشرين من يونيو 2023، تؤكد أن هناك مواصلة لتواجد قوات فاجنر في أفريقيا، وهو ما يعني بقاء الأوضاع كما كانت دون أي تغيير، باعتبار أن قوات فاجنر أداة تمولها الحكومة الروسية لتوسيع نفوذها في القارة الأفريقية والحصول على الموارد الطبيعية، وتحقيق أهداف استراتيجية تتعلق بمواجهة النفوذ الغربي في القارة الأفريقية من خلال إقامة شراكات مع الدول الأفريقية، وهو ما سيساهم في تعزيز الحضور العسكري والاقتصادي الروسي في القارة الأفريقية، وكذلك الحصول على دعم الدول الأفريقية في المحافل الدولية كالأمم المتحدة.
وعلى الرغم مما تم ذكره، نجد أن هناك تضاربًا واضحًا بشأن مستقبل قوات فاجنر في أفريقيا الوسطى. فقد صدرت تقارير تؤكد انسحاب القوات بداية من الثالث من يوليو 2023 من عدة مناطق في الشريط الشمالي لأفريقيا الوسطى، ولا سيما من موين سيدو، وهي بلدة حدودية مع تشاد، استنادًا إلى تصريحات لمصادر رفيعة المستوى في وزارة الدفاع بجمهورية أفريقيا الوسطى ومسئولين متواجدين في السفارة الروسية أكدت مغادرة حوالي 500 من قوات فاجنر من العاصمة متوجهين إلى ليبيا ومنها إلى بيلاروسيا، ويقدر المصدر نفسه أن 14 معسكرًا من أصل 47 لمجموعة فاجنر تم إخلاؤها ولو جزئيًا، مع بقاء 1300 عنصر. لكن التقارير اختلفت بشأن أسباب رحيل القوات؛ فهناك اتجاه يربط بين مغادرة القوات والتمرد ضد الرئيس الروسي، وآخر يشير إلى محدودية في الموارد المالية المتوفرة لحكومة جمهورية أفريقيا الوسطى، التي يبدو أنها فضلت آلية التعاون الرسمي تحت إشراف وزارة الدفاع الروسية.
وفي المقابل، ظهرت تقارير مقابلة تنفي هذا الانسحاب، والتي استندت إلى التصريحات الرسمية الصادرة عن حكومة أفريقيا الوسطى التي نفت رحيل قوات فاجنر، ووصفت هذه التقارير بأنها تقارير كاذبة، حيث علق المتحدث باسم الرئاسة في جمهورية أفريقيا الوسطى “ألبرت يالوك موكبيم” على مصير قوات فاجنر في بلاده معتبرًا أن خروج مئات من قوات فاجنر هو جزء من تناوب القوات وليس انسحابًا، وأن بعض القوات قد غادرت وسيأتي آخرون، لكن دون ذكر أي تفاصيل عن عدد قوات فاجنر التي غادرت، والأطر الزمنية المتعلقة بمواعيد عودة قوات فاجنر لأفريقيا الوسطى.
سيناريوهات مستقبلية
من الاستعراض السابق، يرجح أن هناك مئات من قوات فاجنر قد غادرت أفريقيا الوسطى، مما يثير تساؤلات جدية بشأن خيارات حكومة جمهورية أفريقيا الوسطى في حال عدم استبدال قوات فاجنر المغادرة بقوات بديلة، خاصة في ظل السياق الداخلي والإقليمي المضطرب. ويمكن استشراف مستقبل الأمن في جمهورية أفريقيا الوسطى بعد مغادرة فاجنر وفق عدد من السيناريوهات التي تشمل:
- اضطراب المشهد الأمني والسياسي الداخلي: ويفترض هذا السيناريو رحيلًا شبه كامل لقوات فاجنر عن جمهورية أفريقيا الوسطى، وهو ما قد يترتب عليه خلط الأوراق لدى رئيس أفريقيا الوسطى فوستين أرشانج تواديرا الذي اعتمد على قوات فاجنر في المهام الأمنية، ورحيل هذه القوات ربما سيقوض من استقرار حكمه على خلفية حالة الاحتقان على إثر إعلان الرئيس اعتزامه إجراء استفتاء يمهد له الطريق للترشح لولاية ثالثة. بهذا، يرجح أن تشهد جمهورية أفريقيا الوسطى تطورات سلبية نتيجة زعزعة استقرار النظام الحاكم في حال تمكن رئيس أفريقيا الوسطى من تمرير التعديلات الدستورية، وهو ما سيخلق بيئة خصبة لنشاط الجماعات المتمردة النشطة في أفريقيا الوسطى التي ستعمل على توظيف الاحتقان السياسي مضافًا إليه تداعيات رحيل قوات فاجنر.
- اتجاه أفريقيا الوسطى لتنويع تحالفاتها الخارجية: لا شك أن رحيل قوات فاجنر ربما يدفع حكومة أفريقيا الوسطى لإعادة النظر في علاقاتها الخارجية، وتحسين علاقاتها مع القوى الكبرى، ولا سيما الولايات المتحدة الأمريكية التي أعربت عن انزعاجها من تغلغل النفوذ الروسي في أفريقيا الوسطى، وعملت على فرض عقوبات في أواخر شهر يونيو الماضي على عدة جهات في جمهورية أفريقيا الوسطى بسبب صلتها بمجموعة فاجنر. كما يمكن إعادة النظر في اتخاذ خطوات محدودة بشأن عودة التقارب بين أفريقيا الوسطى وفرنسا بعد انحسار النفوذ الفرنسي فيها وصولًا إلى سحب فرنسا قواتها العسكرية بصورة كاملة.
- استمرار الوضع الراهن: وهو سيناريو يقوم على أن رحيل قوات فاجنر عن أفريقيا الوسطى هو رحيل مؤقت، وأن هناك قوات جديدة ستتواجد في أفريقيا الوسطى، وأن روسيا لن تعمل على مغادرة أفريقيا الوسطى، وربما أنها تعمل على ترتيب الأوضاع وإعادة هيكلة شركة فاجنر (الأداة غير الرسمية لروسيا) في أعقاب محاولة التمرد الفاشلة. فليس من المنطقي أن تنهي روسيا بنفسها تواجدها في أفريقيا الوسطى، حيث إن روسيا تتولى عملية تدريب الجيش وكذلك الحرس الرئاسي، كما أنها تستحوذ على مناجم الذهب والألماس والبلاتين والكروم. وقد سبق وأن تم تداول تقارير بشأن انسحاب روسيا من أفريقيا الوسطى بعد اندلاع الحرب الروسية-الأوكرانية، ولكن لم يسفر ذلك عن انسحاب كبير للقوات الروسية من أفريقيا الوسطى. ولا شك أن استمرار النفوذ الروسي في أفريقيا الوسطى ستكون له انعكاسات داخلية أبرزها دعم استمرار الرئيس تواديرا في السلطة، وإجهاض محاولات إزاحته.
وفي الختام، يمكن القول إن مستقبل تواجد قوات فاجنر في أفريقيا بشكل عام وجمهورية أفريقيا الوسطى مُرتبط بما ستقوم به القيادة الروسية من إعادة ترتيب أوراقها، وحسم المسألة المُتعلقة بدمج مقاتلي فاجنر في الجيش الروسي، حتى يتم منع تكرار ذلك مرة أخرى في محاولة تمرد قد يصعب احتواؤها، وربما تزعزع مكانة ونفوذ روسيا في القارة الأفريقية.