د. شادي عبدالوهاب منصور
تدور في ليبيا حالياً معركة للسيطرة على العاصمة طرابلس بين الجيش الوطني الليبي بقيادة المشير خليفة حفتر، الذي يتمتع بقاعدة شعبية في شرق البلاد، وبين حكومة الوفاق الوطني المعترف بها دولياً، التي يقودها رسمياً رئيس الوزراء فايز السراج، المدعومة من قبل ميليشيات مختلفة. في هذا الصدد، قال أحمد المسماري، المتحدث باسم الجيش الوطني الليبي، مؤخراً إن اللافتات الإرهابية التابعة لتنظيمي “داعش” و”القاعدة” بدأت تظهر في المناطق التي تسيطر عليها حكومة الوفاق في طرابلس. بل إنه ذهب إلى أبعد من ذلك، متهماً تركيا بالتدخل في المعركة عبر إرسال متطرفين من “جبهة النصرة” من سوريا لدعم حكومة الوفاق الوطني في معركتها ضد الجيش الوطني الليبي (1).
تسعى هذه المقالة إلى تقييم هذه الادعاءات من خلال تحليل الأسباب الجذرية للاضطرابات الحالية في ليبيا والعلاقات التاريخية بين التحالف التركي-القطري والجماعات الارهابية والمتطرفة في ليبيا.
حكاية حكومتين
في أول انتخابات ديمقراطية تُعقد في ليبيا في عام 2012، أخفقت الأحزاب الإسلامية في الفوز بأغلبية، ولم تفز بعض الأحزاب المرتبطة بالمتطرفين، مثل “حزب الوطن”، الذي أسسه عبدالحكيم بلحاج، أحد قدامى المشاركين في الجهاد الأفغاني والقائد السابق “للجماعة الإسلامية الليبية المقاتلة” المرتبطة بالقاعدة، بأي مقاعد في تلك الانتخابات (2).
ورغم فشل الميليشيات الإسلامية، بما في ذلك بعض المرتبطين بمنظمات إرهابية، إلا أنها واصلت ممارسة نفوذ كبير، حيث استطاعت فرض حصار على البرلمان المنتخب بغية تمرير قوانين تناسبها وتعيين قادة بارزين في مناصب وزارية رئيسة (3).
في الانتخابات البرلمانية التي جرت تحت إشراف الأمم المتحدة في 25 يونيو 2014، فازت الفصائل التي يغلب عليها الطابع العلماني بأغلبية المقاعد وحصل الإسلاميون على 30 مقعد فقط من إجمالي 200 مقعد. وبدلاً من القبول بالهزيمة، شكّل الإسلاميون وحلفاؤهم على الساحل الغربي لليبيا تحالف “فجر ليبيا” وقاموا بانقلاب. استولى الإسلاميون على طرابلس بعد معركة استمرت سبعة أسابيع. فرّ أعضاء البرلمان المنتخبين حديثاً إلى شرق طبرق وعينوا حفتر قائداً لجيشهم (4). أما في طرابلس، فقد تم تشكيل حكومة إنقاذ وطني مؤلفة من أولئك الذين خسروا انتخابات عام 2014. وكانت حكومة الإنقاذ الوطني مدعومة من جماعة الإخوان المسلمين.
وفي محاولة لحل قضية السلطات المتنافسة، توسطت الأمم المتحدة لتشكيل حكومة الوفاق الوطني في ديسمبر 2015. وتم اختيار السراج لقيادة الحكومة، في أبريل 2016 عاد إلى طرابلس وتمكن من بسط بعض النفوذ. وسرعان ما تفككت سلطة حكومة الإنقاذ بعد ذلك بفترة وجيزة، وإن كان تم استدعاء سلطة حكومة الإنقاذ عندما قام زعيمها السابق، خليفة الغويل، بمحاولة انقلاب ضد حكومة الوفاق الوطني بعد عدة أشهر، وهو جهد أسفر عن اشتباكات متقطعة منذ ذلك الحين. ولم تعمل المؤسسات المختلفة التي أنشئت بموجب خطة الأمم المتحدة بشكل سليم. وكان من المفترض أن يكون “المجلس الأعلى للدولة”، هيئة استشارية غير منتخبة تابعة للبرلمان، حلاً توفيقياً قصير المدى بين حكومة الوفاق الوطني الحكومية وسلطه طبرق، غير أن المجلس يتمتع الآن بنفوذ كبير دون ضابط أو رادع على هيكل المؤسسة البيروقراطية في طرابلس، بقيادة خالد المشري، وهو زعيم سابق في جماعة الإخوان المسلمين. وقد رفض البرلمان الذي يتخذ من طبرق مقراً له الاعتراف بحكومة الوفاق الوطني، وكان دور الأمم المتحدة في التصديق الفعلي على استيلاء من خسروا الانتخابات على السلطة أمراً مثيرا للجدل. وتمارس حكومة طبرق عملها برئاسة عبدالله الثني.
ورغم أن حكومة الوفاق تحظى باعتراف معظم الأطراف الدولية، بما في ذلك الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، والأمم المتحدة (5)، إلا أنها تفتقر للشرعية وينظر إليها بعض الليبيين كحكومة مفروضة من الخارج. علاوة على ذلك، لم تستطع حكومة الوفاق ممارسة السيادة الفعلية، حتى على طرابلس، التي أصبحت منقسمة بين أربع ميليشيات محلية كبيرة تسللت إلى مؤسسات الدولة وفرغتها من مضمونها (6).
المعركة الحالية
في مسعى لإنهاء حالة الجمود بين الحكومتين، جرى تقديم العديد من مقترحات السلام، لاسيما في مؤتمر عقد في باريس في مايو 2018 ومؤتمر دولي عقد في نوفمبر 2018، نظمته الحكومة الإيطالية في باليرمو، صقلية. في كلا المؤتمرين، وافقت حكومة الوفاق والجيش الوطني الليبي على إجراء الانتخابات، التي تأجلت لأسباب مختلفة من ديسمبر 2018 إلى تاريخ غير محدد في 2019 (7).
ومع ذلك، بالتزامن مع جهود السلام هذه، حاولت المليشيات التابعة لحكومة الوفاق السيطرة على مناطق استراتيجية من تلك التي تخضع لسيطرة الجيش الوطني الليبي. فعلى سبيل المثال، في 14 يونيو 2018، شن تحالف من المقاتلين يطلق على نفسه اسم ” حرس المنشآت النفطية”، بقيادة إبراهيم الجضران، الذي كان يسيطر على “الهلال النفطي” في الفترة بين 2012 و2016، هجوما انطلاقاً من قاعدة بالقرب من بني وليد في غرب ليبيا، في محاولة للاستيلاء على محطات تصدير النفط والبلدات المجاورة التي تخضع لسيطرة الجيش الوطني الليبي (8). وقد ساند المجلس الأعلى للدولة في طرابلس ضمنياً هذا الهجوم، الذي استطاع الجيش الوطني الليبي التصدي له.
وهكذا، تبدو ادعاءات السراج مؤخراً أن حملة حفتر العسكرية ضد طرابلس هي خيانة لاتفاقات السلام، ادعاءات جوفاء. الجهد الذي يقوم به حفتر الآن يهدف لوضع حد لهذه المشاحنات عبر التخلص من الحكم المتصدع للميليشيات الإجرامية والمتطرفة المختلفة في طرابلس، وإعادة توحيد الدولة تحت سلطة واحدة فعالة.
علاقات أنقرة وقطر المثيرة للشكوك
لقد أصبحت تركيا، منذ الربيع العربي، أحد الرعاة الرئيسيين للتطرف، خاصة في سوريا، حيث عززت سياساتها تنظيم داعش والجماعات المرتبطة بتنظيم القاعدة (9). ويمكن اعتبار ليبيا دولة أخرى استثمرت فيها تركيا وحليفتها قطر، بشكل مكثف في رعاية الجماعات المرتبطة بالمنظمات الإرهابية.
خلال الانتفاضة ضد حكم القذافي في عام 2011، زوّدت قطر بعض الجماعات المتطرفة داخل ليبيا، خاصة تلك المتحالفة مع تنظيم القاعدة، بالأسلحة، من بين هذه المجموعات الفصيل الذي يقوده بلحاج. وقد تم استخدام بعض الأسلحة التي أرسلتها الدوحة إلى ليبيا، فيما بعد، من قبل المسلحين الذين تربطهم علاقات بتنظيم القاعدة في مالي (10).
تورطت قطر في تمويل منظمات إرهابية في ليبيا، مثل داعش وأنصار الشريعة، مما عزز من قدرة هذه الجماعات على دفع رواتب شهرية للمقاتلين مما عزّز قدراتها على التجنيد (11).
من ناحية أخرى، أقامت تركيا علاقات مع الجماعات المرتبطة بتنظيم القاعدة في عدد من الأماكن في شتى أنحاء المنطقة. من هذه الحالات المواطن الأيرلندي المولود في ليبيا المهدي الحاراتي، الذي كان يدير في الفترة من أبريل إلى أغسطس 2011 “كتيبة ثوار طرابلس”، وهي وحدة مسلحة شاركت في المعركة الأخيرة لإخراج الديكتاتور الليبي معمر القذافي من عاصمته. وبعد فتره وجيزة من سقوط طرابلس، تم تعيين الحاراتي نائبا لقائد المجلس العسكري في طرابلس، الذي كان يرأسه آنذاك بلحاج. وقد استقال الحاراتي في أكتوبر 2011 وانضم إلى التمرد السوري بدعم من الحكومة القطرية والتركية. وفي هذا الوقت، توجه بلحاج أيضا إلى تركيا والتقى بزعماء المعارضة السورية. وفي أبريل 2012، شكّل الحاراتي وصهره، حسام نجار، “لواء الأمة” الذي يتخذ من محافظة إدلب الشمالية الغربية في سوريا مقراً له (12).
وواصلت أنقرة دعم الجماعات المتطرفة في ليبيا، في طرابلس ومصراته، بالأسلحة بالرغم من حظر الأسلحة الذي تفرضه الأمم المتحدة. وفي ديسمبر 2018، صودرت شحنة من الأسلحة قادمة من تركيا في ميناء “الخمس” بالقرب من طرابلس. شملت الشحنة 3,000 مسدسا تركي الصنع، فضلاً عن بعض المسدسات الأخرى وبنادق الصيد والذخيرة (13). وقد تعهدت تركيا بوقف هذه الشحنات وفتحت تحقيقاً مشتركاً مع حكومة الوفاق الوطني.
وبعد مضي شهرين فقط، في فبراير 2019، صودرت شحنة أخرى من الأسلحة التركية في نفس الميناء البحري. كانت تحتوي الشحنة على تسع مركبات مدرعة هجومية رباعية الدفع من طراز “تويوتا لاندكروزر” ودبابات قتالية تركية الصنع. كانت هذه الأسلحة موجهة إلى قوات الردع الخاصة و”كتيبة النواسي”، وهما من المليشيات الأربع الرئيسية التي تشكل “قوة حماية طرابلس” (14). وينبغي التأكيد هنا على أن ميليشيات طرابلس مرتبطة برموز في الجماعة الإسلامية المقاتلة الليبية (15).
من جانبها، أكدت الأمم المتحدة الدور التركي في دعم العناصر المتطرفة في تحالف فجر ليبيا، وأن قطر قد حافظت على علاقاتها مع بلحاج (16). علاوة على ذلك، ألقى الجيش الوطني الليبي القبض عل بعض المقاتلين الأتراك خلال المعارك الجارية في طرابلس، الذين اعترفوا بالعمل نيابة عن جهاز الاستخبارات التركي (17). والجدير بالذكر أن جهاز الاستخبارات التركي قد كان مسؤولاً عن تسليم الأسلحة إلى المتمردين الإسلاميين في أجزاء من شمال سوريا في أواخر عام 2013 وأوائل 2014، وذلك وفقاً للمدعي العام التركي وشهادة أدلى بها ضباط الدرك، المسؤولين عن مراقبة الحدود، في المحكمة. الدعم الخارجي الإضافي التركي لميلشيات طرابلس- بما في ذلك الجماعات المرتبطة بالإخوان المسلمين والقاعدة- مكّنها من اختراق الأجهزة الأمنية والسياسية في المدينة (19).
في ضوء هذه الخلفية، لا يمكن استبعاد ادعاءات المتحدث باسم الجيش الوطني الليبي بأن تركيا ترسل أعضاء من جبهة النصرة إلى ليبيا لدعم حكومة الوفاق الوطني في المعركة الجارية للسيطرة على طرابلس (20). وهكذا، يُظهر هذا السجل نمطاً واضحاً من الدعم الذي تقدمه أنقرة إلى الفصائل المتطرفة في ليبيا، غالباً مع تعاون قطري.
الخلاصة
تُعد المعركة للسيطرة على طرابلس خطوة رئيسة لمستقبل ليبيا بالكامل. ذلك أن الحكم الصوري لحكومة الوفاق الوطني قائم على ميليشيات متنافسة متكالبة على المدينة، ووضع نهاية لهذا الوضع من شأنه أن يعيد الاستقرار. ومع ذلك، فإن المعركة ستكون طويلة، لاسيما أن الإسلاميين يمكنهم استدعاء الدعم من تركيا وقطر.
يدّعي بعض النقاد أن هجوم الجيش الوطني الليبي على طرابلس سيفاقم حالة عدم الاستقرار بدلاً من إرساء النظام والاستقرار في ليبيا (21). غير أنهم يتجاهلون حقيقة أن طرابلس غير مستقرة بالفعل بسبب حكامها الحاليين، وأمراء الحرب والمليشيات المختلفة، الذين يستفيدون من اقتصاد الحرب، وما يصاحب ذلك من عمليات خطف ومناوشات لتوسيع رقعة الإقطاعيات التي يستحوذون عليها (22).
وهنا، تجدر الإشارة إلى أن المصالح الرئيسية للدول المجاورة في شمال أفريقيا وأوروبا تتمثل في مكافحة الإرهاب واحتواء تدفق المهاجرين. لدى حكومة الوفاق الوطني صلات وثيقة مع “سرايا الدفاع عن بنغازي”، ميليشيا إرهابية تخضع لعقوبات من قبل الولايات المتحدة الأمريكية والأمم المتحدة. ولدى حكومة الوفاق أيضاً علاقات وثيقة مع صلاح بادي، وهو من أمراء الحرب المتطرفين الذي يخضع أيضاً لعقوبات من الأمم المتحدة بسبب التورط في جهود لتقويض الاستقرار في ليبيا، وكذلك عبد الرحمن ميلاد، الذي يخضع لعقوبات من الأمم المتحدة بسبب التورط في عمليات الاتجار في البشر (23).
قصارى القول، تُشكل حكومة الوفاق الوطني، والميليشيات التي تعتمد سلطتها عليها، عاملاً معوقاً وليس مساعداً، يحول دون تحقيق الاستقرار في ليبيا، الذي يمكن أن يضع حداً للإرهاب وتدفق الكوادر المتطرفة المزعزع للاستقرار.
المراجع:
[1] Libyan National Army Accuses Turkey of Sending Terrorists to Tripoli, Asharq Al-Awsat, April 20, 2019, accessible at:
[2] Mary Fitzgerald, The Syrian Rebels’ Libyan Weapon, Foreign Policy, August 9, 2012, accessible at:https://econ.st/2UTbkDp
[3] Ibid.
[4] The UN’s election gamble in Libya, Strategic Comments, Vol. 24, Comment 18, June 2018, p. iv.
[5] Ibid., p. iv.
[6] Wolfram Lacher and Alaa al-Idrissi, Capital of Militias: Tripoli’s Armed Groups Capture the Libyan State,Small Arms Survey Briefing Paper, June 2018, accessible at:
[7] Ludovico Carlino, Libyan peace process prospects, IHS Markit, November 20, 2018, accessible at:
[8] After the Showdown in Libya’s Oil Crescent, International Crisis Group, no. 189, August 9, 2018, accessible at:
[9] Michael Rubin, Turkey’s Libya Gambit, The National Interest, January 11, 2019, accessible at:
[10] James Risen, Mark Mazzetti and Michael S. Schmidt, U.S.-Approved Arms for Libya Rebels Fell into Jihadis’ Hands, The New York Times, December 5, 2012, accessible at: https://nyti.ms/2FJTW8t
[11] Lydia Sizer, Libya’s Terrorism Challenge Assessing the Salafi – Jihadi Threat, Middle East Institute: Counterterrorism series, no. 1, October 2017, (p. 11), accessible at:
[12] Charles R. Lister, The Syrian Jihad Al-Qaeda, the Islamic State and the Evolution of an Insurgency, (Oxford: Oxford University Press, 2015), p. 76.
[13] Libya complains of arms cargo from Turkey, joint investigation launched, Reuters, December 22, 2018, accessible at:
[14] Turkish meddling in Libya, Ahram online, February 16, 2019, accessible at:
[15] A Quick Guide To Libya’s Main Players, European Council on Foreign Relations, accessible at:https://bit.ly/2L2nghK
[16] Uzay Bulut, Turkey Stabilizing Libya? Think Again, Gatestone Institute, November 22, 2018, accessible at: https://bit.ly/2Zx2biz
[17] Paul Iddon, Turkey and regional rivals clash in Libya, Ahval, April 16, 2019, accessible at:https://bit.ly/2Pq2cA4
[18] Al-Nusra fighters were sent from Turkey to join Tripoli battles: LNA, Al Arabiya, April 19, 2019, accessible at: https://bit.ly/2GGkYAF
[19] Giorgio Cafiero and Theodore Karasik, General Hifter’s march on Tripoli, Middle East Institute, April 9, 2019, accessible at: https://bit.ly/2L1MBsa
[20] Sami Zaptia, Tripoli Chamber ‘‘militia kidnapping’’ turns out to be arrest by ‘‘official forces’’, Libya Herald, June 6, 2018, accessible at: https://bit.ly/2GFL6M0
[21] David D. Kirkpatrick, Thugs and Extremists Join Battle for Tripoli, Complicating Libyan Fray, The New York Times, April 12, 2019, accessible at: https://nyti.ms/2DBj7uV