سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
عمر تابينار
يبدو أن معظم مراقبي السياسة التركية مهووسون بالقوة السياسية التي اكتسبها الرئيس رجب طيب أردوغان على مدار الأعوام الستة عشر الماضية. إذ يركزون في غالبيتهم بشكل حصري على أردوغان وعلى ميوله نحو الاستبداد. إلا أن ذلك ينطوي على فكرة زائفة تبالغ في قدرات أردوغان على حساب الدافع الحقيقي وراء طبيعة السياسة التركية، وذلك بالنظر إلى التحالف المناهض للأكراد بمعنى أنه تحالف بين “الدولة العميقة” التركية وأردوغان نفسه.
فقرار إلغاء انتخابات إسطنبول إنما يمثل أحدث الأمثلة التي تثبت قوة هذا التحالف. فمن الخطأ الكبير التفكير في أردوغان كقائد يعمل باستقلال كامل عن العوامل الهيكلية العميقة التي حددت تاريخيًا السياسة التركية.
فعلى الرغم من أن فكرة الدولة العميقة غير معروفة إلى حدٍّ بعيدٍ في الغرب، فإن دونالد ترمب قد طوَّر تلك الفكرة أخيرًا بالولايات المتحدة حينما تعرض لوصف المقاومة البيروقراطية والقانونية ضد أجندته الشعبوية. ومع ذلك، فمن الصعب أن تأخذه على محمل الجد؛ لأن غالبية ما يعتبره الرئيس الأميركي أفعالاً لدولةٍ أميركيةٍ عميقةٍ إنما هو في الواقع يعبر عن توازنات مشروعة بالنسبة للحكومة.
أمَّا في تركيا، فإن مثل هذه الضوابط والتوازنات تبدو غائبة؛ فالبلد نفسه موطن للنسخة الأصلية والخبيثة من الدولة العميقة.
وفي الواقع، تمتلك تركيا براءات الاختراع بالنسبة لفكرة الدولة العميقة، حيث تعمل القوة المظلمة في البلاد منذ الانتقال من الإمبراطورية إلى الدولة القومية في العقود الأولى من القرن العشرين.
فعلى سبيل المثال، يشير معظم المؤرخين إلى أن الإبادة الجماعية للأرمن قد تمَّ التخطيط لها من قِبَل مجموعة صغيرة داخل الحركة الشبابية التركية التي كانت تعمل في سرية. أمَّا اليوم فإن الفكرة تبدو في صيغتها الحديثة، فإن الدولة العميقة تمثل شبكة وطنية سرية تتكون من عناصر مارقة في الجيش والشرطة والمخابرات، ذلك أنها المسؤولة عن تسيير العمل القذر للدولة ضد أعداء النظام المفترضين.
وعلى عكس النسخة الشرعية للدولة، التي تعمل في العلن ويفترض أنها ملتزمة بسيادة القانون، فإن هذه النسخة “الأعمق” من الدولة تعمل سرًا وبدون عقاب؛ لذلك يمكن أن تدعي قابلية الإنكار المعقولة في عملياتها.
لقد تألف العمل القذر للدولة تاريخيًا في القضاء على التهديدات التي تعتبر وجودية للنظام. فخلال الحرب الباردة، كانت الشيوعية تمثل تهديدًا. وبحلول التسعينيات، ومع انتهاء الحرب الباردة، تحول التهديد، كما كان يُتصور، إلى الحركة الانفصالية الكردية وتيار الإسلام السياسي. وهنا نجد الدفاع عن القومية التركية والعلمانية من الدولة العميقة، وبالتالي ليس من المستغرب أن يلعب الجيش دورًا مهمًا في تحديد هذه المخاطر الوجودية للجمهورية.
وقد اعتبرت الدولة العميقة أردوغان تحديًا كبيرًا للنظام العلماني عندما تولى السلطة لأول مرة في عام 2003. لكن سرعان ما جمع أردوغان الشرعية الشعبية من خلال إدارته للاقتصاد والسياسة الخارجية، وبعد ذلك تحالف، مع فتح الله غولن، العالم والداعية الإسلامي وزعيم “حركة الخدمة”، وبهذا تمكن من تحييد المتشددين العلمانيين داخل الدولة العميقة والمؤسسة الكمالية.
ومع ذلك، فبمجرد أن هزم أردوغان وغولن أعداءهم المشتركين، انقلب كلٌّ منهما على الآخر. وقد أجرى أردوغان مذبحة داخل المعسكر الإسلامي من خلال تشكيل تحالف وطني مع فلول الدولة العميقة ومع القوميين المتطرفين.
وبعد 16 عامًا في الحكم، أثبت أردوغان أنه أحد الانتهازيين “الميكافيليين” الذين نجحوا في تغيير مفهوم التهديد العلماني للدولة العميقة. فقد أرسى أردوغان معالم تيار ديني محافظ في عمق القومية التركية.
ومع تحول الإسلام إلى عُمق بنية النظام السياسي، فإن ما يظل يشكل تهديدًا وجوديًا للدولة العميقة هو القومية الكردية، وهي القوة الصاعدة في الداخل وفي المنطقة. وبالتالي فإن التحالف بين أردوغان والدولة العميقة، يقوم على أساس القومية التركية المحافظة التي هدفت إلى تحييد الحركة السياسية الكردية الصاعدة في تركيا.
ويعيدنا كل هذا إلى فكرة إلغاء انتخابات بلدية إسطنبول، فليس سرًا أن حزب أردوغان خسر إسطنبول لأن الناخبين الأكراد أيدوا بأغلبية ساحقة “أكرم إمام أوغلو”، مرشح حزب الشعب الجمهوري. وهو التحالف الذي نشأ بين الأكراد والحزب المؤسس للجمهورية التركية، الذي شكله كمال أتاتورك نفسه في عام 1923، بما يشير إلى مصالحة تاريخية بين الكمالية التي تمَّ إصلاحها والهوية العرقية الكردية. كما أن ذلك التحالف يمثِّل تهديدًا وجوديًا للتحالف بين الدولة العميقة وأردوغان.
ويثبت قرار إلغاء تصويت إسطنبول وإعادة التصويت في 23 يونيو أن أردوغان، الذي اعترف في البداية بالهزيمة، أصبح الآن مملوكًا بالكامل للدولة العميقة والقوميين المتطرفين. وهو ما يجعل هذا التحالف يبذل كل ما في وسعه لمحاولة التأثير في السياسة التركية. وفي الواقع، يمكن لتحالف “إمام أوغلو” مع الأكراد في إسطنبول أن يصوغ مستقبل تركيا. وعلى هذا، فإن المخاطر المترتبة على الدولة العميقة كبيرة جدًا، ذلك أن كل ما يحدث في إسطنبول لا ينتهي أبدًا في إسطنبول فقط.
إعداد: وحدة الترجمات بمركز سمت للدراسات
المصدر: آسيا تايمز
سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
تابعوا أحدث أخبارنا وخدماتنا عبر حسابنا بتويتر