ليست تلك المواجهة الأولى بين بولندا والاتحاد الأوروبي منذ انضمام الدولة الأوروبية الشرقية مع غيرها للاتحاد في عملية توسع له مطلع القرن (عام 2004). كان انضمام تلك الدول للاتحاد منقذا لاقتصادها بمليارات الدعم الأوروبي للدول الأعضاء، وهي الدول الخارجة من المعسكر الشرقي المنهار وقوانين الاشتراكية. المثير أن بعض دول أوروبا الغربية كانت تتحفظ على التوسع وترى فيه “تمييعا” لقوة الاتحاد، خاصة الاقتصادية، إلا أن بريطانيا كانت من المتحمسين لضم بولندا والمجر وغيرهما.
ثم خرجت بريطانيا من الاتحاد (بريكست) بعد أكثر من نصف قرن. والآن يبدو أن بولندا تسير على خطاها للخروج من الاتحاد الأوروبي (بوليكست) وربما تتبعها المجر إذا حدث وخرجت. ومنذ أكثر من ست سنوات، تريد حكومة حزب “العدالة والقانون” في بولندا تغيير النظام القضائي فيما تسميه عملية إصلاح ويراه الأوروبيون إهدارا تاما لاستقلالية القضاء.
في البداية حاول رئيس الوزراء البولندي ماتيوش مورافيسكي إلغاء المحكمة الدستورية في البلاد لأنها تعوق تغييراته في السلطة القضائية وتعيينه لقضاة موالين لحزبه. يدعمه في ذلك رئيس الحزب اليميني التوجه ياروسلاف كزانسكي.
وكادت المفوضية الأوروبية في بروكسيل من قبل أن تفرض عقوبات على وارسو وتحرمها من مليارات الدعم الأوروبي لولا أن المجر، التي تدعم توجه بولندا، أفشلت القرار الذي يحتاج إلى اجماع أوروبي.
لكن المشكلة الأخيرة تتجاوز اتهامات الفساد لحكومة مورافيسكي وتغوله على القضاء. فقد أصدرت المحكمة الدستورية في وارسو قرارا يعتبر بعض بنود الاتفاقيات الأساسية للاتحاد الأوروبية متناقضة مع الدستور البولندي.
وفي حال اعتماد هذا القرار، الذي طلبه رئيس الوزراء من المحكمة، يصبح الوضع فعليا “بوليكست قانونيا” – أي خروج بولندا من الاتحاد الأوروبي فيما يتعلق بالجانب القانوني. فلن تستطيع المفوضية الأوروبية والمجلس الأوروبي في بروكسيل القبول بأن تلغي بولندا القوانين الأوروبية وتظل عضوا في الاتحاد.
مشكلة رئيس الوزراء وحزبه أن بعض القضاة المستقلين يلجؤون للقوانين الأوروبية للطعن في اجراءات الحكومة تجاه القضاء، خاصة ترقية وتعيين قضاة فاسدين في مناصب قضائية عليا. ويريد الحزب الحاكم التخلص من هذا الصداع، بعدما عين أغلب قضاة المحكمة الدستورية من الموالين له. حتى أن القاضي الذي أصدر القرار الأخير عينه مورافيسكي رغم اتهامات له بالفساد مرفوعة ضده من قضاة آخرين.
لا ينفك بعض رموز حزب العدالة والقانون الترويج لخروج بولندا من أوروبا، والإشادة بالبريكست باعتبار أن خروج بريطانيا هاديا لهم. ويثير ذلك مشاعر لدى بعض المغالين في القومية الذين يتذكرون كيف بدأ انهيار المعسكر الشرقي – وربما حتى بداية نهاية الاتحاد السوفييتي – من بولندا وحركة تضامن بزعامة ليش فاونسا في الثمانينيات من القرن الماضي. وربما يكون صحيحا أن خروج بولندا من أوروبا (بوليكست) سيعني بداية تفكك الاتحاد الأوروبي.
تظل مشكلة الشعبويين في بولندا أنهم أقلية رغم وجودهم في الحكم، فأكثر من ثلاثة أرباع البولنديين يؤيدون البقاء في الاتحاد الأوروبي. وبالتالي لا يمكن للحكومة إجراء استفتاء بوليكست مثل استفتاء بريكست في بريطانيا علم 2014. كما أن بولندا تعتمد على المليارات من الأموال الأوروبية للحفاظ على اقتصادها متماسكا. والبولنديون يتحركون بحرية للعمل في دول أوروبا المتقدمة ويحولون الأموال الطائلة لبلدهم.
أما مشكلة الاتحاد الأوروبي فهي أنه قد لا يحتمل بوليكست بعد بريكست فربما يليه “مجريكست” وينفرط عقد الاتحاد. في الوقت نفسه فإن المساس ببنود الاتفاقيات الأساسية للاتحاد غير ممكن أيضا. وليس أمام بروكسيل سوى التلويح بوقف حزمة الدعم بعشرات المليارات التي تطلبها أوروبا من صندوق التحفيز الأوروبي لمواجهة تبعات آثار أزمة وباء كورونا.
يراهن الحزب الحاكم في وارسو على مخاوف الأوروبيين من خروج بلدهم من الاتحاد، ويضغطون مستغلين ذلك من أجل النيل من استقلالية القضاء. في الوقت نفسه لا يمكنهم الضغط إلى حد الخروج من الاتحاد لأن ذلك سيفقدهم الأصوات في الانتخابات والقدرة على تنفيذ المشروعات بمليارات الاتحاد. وفي تلك الحالة لن تنفعهم المجر أو غيرها، فكل دول أوروبا الشرقية التي انضمت للاتحاد الأوروبي تحصل على أموال أكثر بكثير مما تساهم به في ميزانية الاتحاد.