سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
د. رامي كمال النسور
ظهرت الأرقام الصادرة في بريطانيا، منتصف هذا الشهر، أنها دخلت في نهاية عام 2023 بحالة من الركود الاقتصادي، مع انكماش أكثر من المتوقع، في الأشهر الثلاثة الأخيرة من العام نفسه، ما أدى إلى إرسال موجات صادمة عبر أسواقها المالية أثرت في حياة الملايين. وفي حين أن تفاصيل كل ركود قد تختلف من اقتصاد إلى آخر ومن دولة إلى أخرى، إلا أن هناك أسباباً أساسية مشتركة تسهم في مثل هذه الانكماشات الاقتصادية. وفي هذه المقالة، نتعمق في العوامل التي يمكن أن تؤدي إلى ركود اقتصادي عميق في إنجلترا.
ومؤخراً، ثار تساؤل لدى العديد لماذا تقوم بريطانيا بمنح تأشيرة سفر إلكترونية لرعايا بعض الدول، بحيث تحصل عليها خلال أقل من ساعتين، فيأتي الجواب أنها بحاجة إلى مزيد من السياحة والإنفاق داخل بريطانيا، لأن رعايا هذه الدول هم أكثر السياح الوافدين عليها إنفاقاً.غالباً، ما ينبع أحد المحفزات الأساسية للركود في إنجلترا من الاضطرابات الاقتصادية العالمية الأوسع. إن الطبيعة المترابطة للاقتصاد الحديث، تعني أن أحداثاً مثل الأزمة المالية العالمية، أو التوترات التجارية، أو عدم الاستقرار الجيوسياسي، يمكن أن تمتد بسرعة إلى اقتصاد المملكة المتحدة. على سبيل المثال، يمكن أن تؤدي الاضطرابات في التجارة الدولية إلى الإضرار بالصناعات الموجهة للتصدير، في حين أن الأزمات المالية في الخارج، يمكن أن تؤدي إلى فقدان ثقة المستثمرين وهروب رؤوس الأموال. وبريطانيا هنا شهدت حالتين مهمتين؛ الأولى خروجها من الاتحاد الأوروبي، والذي يرى بعضهم أن آثار الخروج سلبية أكثر من بقائها فيه، والحالة الثانية هي الحرب الروسية الأوكرانية، وما لحقها من تبعات اقتصادية مكلفة، مثل تراجع إمدادات الغاز الروسي، وتدفق اللاجئين الأوكرانيين إليها.
كل ما جاء أعلاه، انعكس على السوق المالية، وحدث العديد من التقلبات، ويمكن أن تلعب هذه التقلبات في الأسواق المالية أيضاً دوراً مهماً في إثارة الركود. ومن الممكن أن يؤدي انهيار سوق الأوراق المالية، أو الأزمات المصرفية، أو الاضطرابات في أسواق الائتمان إلى تقويض الثقة بين المستثمرين والمستهلكين على حد سواء. ويمكن أن يؤدي فقدان الثقة في النظام المالي إلى انخفاض الإنفاق والاستثمار، ما يؤدي إلى تفاقم الانكماش الاقتصادي.
ونتيجة للنقطتين أعلاه أصبح الإنجليز يمرون بحالة من أوقات عدم اليقين الاقتصادي، حيث يصبح المستهلكون والشركات أكثر حذراً في قراراتهم المتعلقة بالإنفاق والاستثمار، خاصة مع ارتفاع كلفة فاتورة الطاقة بشكل مجهد للطبقة المتوسطة في بريطانيا، ما أدى إلى انكماش القوة الشرائية للسكان. ومن الممكن أن تدفع المخاوف بشأن الأمن الوظيفي، أو انخفاض الدخل، أو قيمة الأصول الأسر إلى تقليص إنفاقها التقديري، في حين قد تؤخر الشركات خطط التوسع أو الاستثمارات الرأسمالية. وهذا الانخفاض في ثقة المستهلكين والشركات، يمكن أن يؤدي إلى مزيد من إضعاف النشاط الاقتصادي، وتفاقم الضغوط الركود.
ويمكن أن تكون فعالية السياسة المالية والنقدية في معالجة الركود مقيدة بعوامل مختلفة. وإذا نفذت الحكومة تدابير التقشف أو فشلت في توفير الحوافز المالية الكافية، فقد يؤدي ذلك إلى تفاقم الانكماش، من خلال خفض الطلب الكلي بشكل أكبر. وبالمثل، إذا كانت أسعار الفائدة عند مستويات منخفضة تاريخياً بالفعل، فقد يكون لدى البنوك المركزية مجال محدود للمناورة بالسياسة النقدية، ما يعيق قدرتها على تحفيز الاقتراض والاستثمار. ومن الممكن أن تسهم نقاط الضعف الهيكلية طويلة الأمد في الاقتصاد، مثل نقص المهارات، أو فجوات الإنتاجية، أو عدم كفاية البنية التحتية، في زيادة شدة الركود. وهذه حقيقة تتجلى كنتيجة سريعة وسلبية لخروج بريطانيا من المجموعة الأوروبية، حيث أصبحت تعاني بشدة نقص المهارات والعمالة المساعدة، وقد تحد هذه القضايا الهيكلية من قدرة الاقتصاد على التكيف مع الظروف المتغيرة أو الاستفادة من الفرص الجديدة، ما يجعله أكثر عرضة للصدمات الاقتصادية.
في الختام، غالباً ما يكون الركود الاقتصادي العميق في إنجلترا نتيجة لمجموعة من العوامل، بما في ذلك الاضطرابات الاقتصادية العالمية، وتقلبات الأسواق المالية، وتراجع ثقة المستهلكين والشركات، وقيود السياسة المالية والنقدية، ونقاط الضعف الهيكلية في الاقتصاد، والصدمات الخارجية. وتتطلب معالجة هذه القضايا الأساسية استجابة سياسية منسقة، تهدف إلى استعادة الثقة، وتحفيز الطلب، ومعالجة الاختلالات البنيوية داخل الاقتصاد. ولن تتمكن إنجلترا من الخروج من الركود الاقتصادي العميق والتوجه نحو طريق النمو المستدام والازدهار إلا من خلال الجهود المتضافرة.
كما تتطلب من جهة أخرى حل الأزمات، التي أشرنا إليها أعلاه، مثل الحرب الأوكرانية وكذلك معالجة آثار خروج بريطانيا من المجموعة الأوروبية، وتحقيق مزيد من الانسجام السياسي بين أقطاب الأحزاب في بريطانيا، لتوفير مزيد من عوامل الثقة بالاقتصاد، كل ذلك يؤكد أن هذا الركود، وهو الآن في بداياته، سيزداد عمقاً وسيستمر ربما حتى نهاية عام 2025.
المصدر: الخليج
سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!
تابعوا أحدث أخبارنا وخدماتنا عبر حسابنا بتويتر