الهند والصين.. قراءة في نموذجين | مركز سمت للدراسات

الهند والصين.. قراءة في نموذجين

التاريخ والوقت : الخميس, 15 نوفمبر 2018

 

مثل النموذجان الهندي والصيني تجارب رائدة في “النهضة” بما يدفع كافة دول العالم النامي للاستفادة من مواطن القوة والتقدم في كلا النموذجين. ورغم عدم التكافؤ في درجة التقدم بين النموذجين، فإن كليهما يزخر بالدروس التي ينبغي الاستفادة منها بشكل جذري.

لقد نجحت الصين في التطلع إلى المستقبل فلم تتراجع مسيرة التقدم، بل أصبحت رهان كافة المراقبين على قيادة الاقتصاد العالمي، وربَّما السياسة مستقبلاً. ورغم نجاح التجربة الهندية، وتبوؤها الصدارة العالمية، فإن تباطؤ معدلات النمو الهندي تنذر بمصير متعثر لتلك التجربة الملهمة، ولا سيما مع الفشل في تحقيق الدرجة المطلوبة من الرفاهية للشعب الهندي مقارنة بالحالة الصينية.

فيما يلي نقدم قراءة في واقع النموذجين بهدف استلهام الدروس المستفادة منها على كافة المستويات.

 

التجربة الصينية.. نجاحات مستمرة

انطلقت التجربة الصينية فعليًا عام 1955 خلال “مؤتمر باندونج” الذي شارك فيه 29 دولة آسيوية وإفريقية لدعم العلاقات الاقتصادية والثقافية بين القارتين. وتكمن أهمية هذا المؤتمر في كونه يمثل نقطة انطلاق الصين خارج حدودها، فقد قدمت “بكين” الدعم الاقتصادي والعسكري والفني للدول النامية في محاولة لمواجهة القوى الغربية وخلق نظام عالمي جديد. وقد تلاقى ذلك مع رغبة الدول الإفريقية في مشوارها نحو الاستقلال. وفيما بين 1966 – 1969 تأثر التوجه الصيني نحو إفريقيا بالظروف الداخلية، حيث كانت الثورة الثقافية في ذلك الوقت. وبعد تسوية النزاعات الداخلية بدأت الصين تستأنف علاقات جديدة مع القارة الإفريقية.

ركزت الصين على وجود توازن بين القوى العظمى ومعارضيهم الضعفاء، حيث قامت الصين في تلك الفترة بمساعدة الدول الضعيفة؛ ففي 1978 تميزت مرحلة ما بعد “ماو” بوجود استثمارات جديدة لدعم القطاع الاقتصادي لتحديث الصين. وقد ركزت السياسة الخارجية للصين في ذلك الوقت على تحديث الاقتصاد وتزايد العلاقات التجارية بين الصين وبقية دول العالم. وبالنسبة للصين، فقد كانت البيئة المستقرة مطلوبة للتنمية. فقد شهدت الفترة من 1979 – 1982 تقلبًا في السياسة الخارجية الصينية حيث انخفض الدعم الاقتصادي المقدم للدول النامية، وانخفض مستوى العلاقات الثنائية، وبخاصة التجارية، كما هبط عدد البعثات والفرق الطبية. وقد تميزت الجمعية العامة للحزب الشيوعي رقم 12 عام 1982 بتحول من سياسة تؤكد على الحرب والثورة إلى سياسة تؤكد على “السلم والتنمية”. وبالمثل فقد تحولت الصين من سياسة الاقتصاد الذي يخدم الدبلوماسية إلى سياسة قائمة على دبلوماسية تخدم الاقتصاد. ففي نفس السنة، وبعد زيارة لعدد من الدول الإفريقية، أعلن رئيس الوزراء الصيني المبادئ الأربعة للتعاون الاقتصادي والتكنولوجي مع إفريقيا. وقد كان ذلك التحول يركز على التأثير العملي “الواقعي” في المساعدات في العلاقات بشكل عام، وكذلك روح التنمية “التنمية معًا”Developing Together . وقد قررت الجمعية عاملين استراتيجيين لسياسة الصين في إفريقيا هما:

 1- الدولة سوف تؤكد على تنمية الصين.

2- أن الصين سوف تسعى لسياسة خارجية مستقلة.

وخلال الحرب الباردة توترت العلاقات بين أميركا والاتحاد السوفييتي. وفي تلك الظروف ركزت الصين على دول أخرى. ففي 1982 قام رئيس الوزراء الصيني “تشاو زيانج” بزيارة بعض الدول الإفريقية لدعم المبادئ الأربعة للتعاون الصيني بالدول النامية “المساواة والمنفعة المتبادلة، والتركيز على النتائج العملية، والتنوع في الأشكال والتنمية الاقتصادية”.

 

مرتكزات الاستراتيجية الصينية

تعتمد الاستراتيجية الصينية عدة محاور: 

أولاً: الإفادة من العولمة الاقتصادية  

لم تكن العولمة هي الأداة التي تمسك الولايات المتحدة الأميركية بها وحدها للسيطرة على العالم اقتصاديًا؛ فلقد أجادت الصين الاستفادة من تلك العولمة وعملت على تكوين تكتلات وتحالفات واتفاقيات مع الهند وكوريا الجنوبية وماليزيا لمواجهة العولمة الاقتصادية الأميركية والغربية.

 

ثانيًا: الابتعاد عن التدخل في الشؤون الداخلية للدول التي تتعامل معها  

تنأى الصين عن التورط في الصراعات الداخلية, وتسعى إلى تقديم صورة مغايرة عن تلك التي يعرفها قادة العالم جيدًا عن الاقتصاد الأوروبي, الذي يهدف إلى ترجيح كفة بعض الموالين له على أقرانهم، ودمج الاقتصاد مع سياسة توسعية تمتص الموارد الاقتصادية تحت ذرائع دولية مختلفة، تتعلق أحيانًا بالإرهاب, أو بالإغاثة، أو بحقوق الإنسان, أو تأمين المصالح الغربية؛ ما يتيح للدول الغربية التدخل في شؤون الدول النامية إلى حد اعتبارها ضيعاتخاصة. ولذلك، فالساسة الصينيون دائمًا ما يرددون قولهم بأن الصين لا تخلط السياسة بالاقتصاد.

 

ثالثًا: تقديم المساعدات غير المشروطة

تقدم الصين نفسها للحكومات الإفريقية على أنها البلد النظيف من الأطماع “الاستعمارية” التي تشوه تاريخ نظرائها من البلدان الأوروبية صاحبة السوابق الصراعية والاضطهادية لشعوب الدول النامية.

فلم يحدث أن رهنت الصين علاقاتها بالدول النامية، بتحقيق قدر ما من الديمقراطية, أو اشترطت معايير خاصة لحقوق الإنسان تتم بموجبها الإفادة من المنح الصينية.

 

رابعًا: ملء الفراغ الاقتصادي الناشئ عن ابتعاد الدول الغربية مؤقتًا عن بعض الدول الإفريقية

لعل هذه سياسة صينية لا تقتصر على إقليم بعينه؛ إذ تعمل “بكين” على ملء الفراغات الناشئة عن مقاطعة الدول الغربية – لا سيما الولايات المتحدة الأميركية – لبعض الدول الرافضة للسياسات الأميركية، التي اصطلحت الولايات المتحدة في ولايتي بوش الابن على تسميتها بـ”الدول المارقة”، علاوة على دول أخرى لم تحمل هذا الاسم، لكنها تعاني عقوبات، أو شبه حصار من الولايات المتحدة الأميركية، مثل: السودان وإيران وكوريا الشمالية ومينمار وفنزويلا وأوزبكستان وكمبوديا وغيرها.

 

خامسًا: انتهاج أسلوب الشراكة التنموية

أبدت الصين حرصًا لافتًا على الشراكة التنموية مع الدول النامية، بخلاف الدول الأوروبية التي حرصت عبر قرون على جعل إفريقيا مستودعًا للمواد الخام، ولم تقدم ما يمكنه أن ينهض بالقارة. والمثير لحفيظة الأوروبيين في هذا الصدد أن العلاقات الخارجية الصينية الآن هي الأفضل بشكل كبير في مجال التنمية، وتفعيل الشراكة النفعية من كلا الجانبين.

 

سادسًا: مساندة الدول التي تمنح الصين أولية في التعامل في المحافل الدولية  

تعتبر الصين اليوم هي الدولة الأولى عالميًا من حيث الأعداد الموفدة لقوات حفظ السلام العاملة تحت راية الأمم المتحدة؛ متفوقة في ذلك على أي عضو آخر دائم بمجلس الأمن.

سابعًا: نشر الثقافة الصينية ونمط الاستثمار الصيني في إفريقيا

ترى الصين أن لها أرضية تاريخية للتعاون مع دول العالم، فالصين تحمل تراثًا مملوءًا بالقهر “الاستعماري” الذي مورس ضدهما، وكلاهما لا يريد تكرار تلك الفترة؛ فالصين قد عانت الاحتلال البريطاني (مثل بعض بلدان إفريقيا) ثم الياباني، وإفريقيا قد عانت منذ قرون الاحتلال البريطاني والفرنسي والألماني والإيطالي والبرتغالي والإسباني.

 

التجربة الهندية.. انطلاقة قوية ومصير متعثر

أمَّا بالنسبة للهند، فقد اعتمدت تجربة تحديث التنمية الصناعية، حيث أدرك “نهرو” منذ وقت مبكرة بعد الاستقلال أن بلده يحتاج إلى الديمقراطية سياسيًا، وإلى التنمية اقتصاديًا؛ فقرروا أن تكون الصناعة هي القاطرة التي تقود التقدم الهندي حتى أصبحت واحدة من دول العالم. وقد نجحت الهند في تحويل التعددية العرقية واللغوية والدينية والطبقية لخدمة أهداف الدولة وتحقيق غاياتها، وأثبتت التجربة الهندية أن الدول المتعددة عرقيًا أكثر استعدادًا للتقدم مقارنة بغيرها.

لقد استفادت الهند من البيئة العالمية بعد الحرب الباردة في تحقيق أهدافها الاستراتيجية، فقد نجحت في تحرير الاقتصاد، وإعادة صياغة سياستها الخارجية من خلال الانخراط في المجتمع الإقليمي والدولي. كما حافظت الهند على علاقاتها التقليدية مع روسيا بعد انهيار الاتحاد السوفييتي.

أمَّا على المستوى الاجتماعي، فقد نجحت الهند في توظيف التعددية العرقية في تحقيق التماسك وبناء دولة قوية. كما تمكن النموذج الهندي من الاستفادة من الزيادة السكانية إيجابيًا من خلال دمج السكان في الإنتاج. فالاقتصاد الهندي – حاليًا – يحتل المرتبة الرابعة عالميًا. وارتفع معدل النمو من 6% خلال الفترة من 1980 – 2002 إلى 7.5% خلال الفترة من 2002 إلى 2006.

رغم ذلك، فإن ثمة مشكلات تواجه النموذج الهندي، فبدلاً من اتباع الاستراتيجية الآسيوية التقليدية القائمة على تصدير السلع الرخيصة المصنعة باستخدام أعداد كبيرة من الأيدي العاملة، اعتمدت الهند على أسواقها المحلية أكثر من اعتمادها على التصدي، وعلى الاستهلاك بدلاً من الاستثمار، وعلى الخدمات بدلاً من التصنيع. كما اعتمد الهند على الإنتاج باستخدام التكنولوجيا المتطورة بدلاً من الاعتماد على الأيدي العاملة غير الماهرة.

كما أن النموذج الهندي يبدو ثابتًا نظرًا لبيئة الاقتصاد الخصبة، وسهولة تدفق الأموال، والإيرادات الحكومية الثابتة، والاحتياطات الكبيرة من النقد الأجنبي، وأسعار النفط التي لا تزال غير باهظة، إلى جانب أسعار المواد الغذائية.

لكن الهند تواجه واقعًا مختلفًا أخيرًا، فمعدل نمو الناتج المحلي الإجمالي يتراجع بشكل واضح، ويرجع ذلك التباطؤ إلى أن فكرة انتعاش النمو باتت صعبة جدًا حتى يتم إصلاح الاقتصاد، كما أن الإنفاق الحكومي وانخفاض أسعار النفط قد عززت تراجع النمو.

إلى جانب ذلك، فمن الملاحظ أن معدلات النمو المرتفعة لا يصاحبها تطور ملحوظ في الأوضاع المعيشية للشعب الهندي الذي يعاني من الفقر، فقد أخفق النموذج الهندي في تحقيق التقدم المستهدف في هذا المجال. فالشعب الهندي لا يزال يعاني من ارتفاع أسعار الطاقة، والتأثير السلبي للضرائب على أسعار السلع والخدمات، ويعاني الهنود أيضًا من البيروقراطية التي تعيق نجاح النموذج الهندي.

فضلاً عن ذلك، يعاني النموذج الهندي من عدد من المشكلات الهيكلية، مثل ضعف السيطرة البيروقراطية على الموارد البشرية، ففي مجال التعليم يتغيب نحو ربع معلمي المدارس الابتدائية الحكومية، كما أن نصف الذين يلتزمون بالحضور لا يزاولون النشاط التدريسي بالتزام.

الخاتمة

بقراءة تاريخ وواقع النموذجين الهندي والصيني في إطار مقارن يمكن الوقوف على الخلاصات التالية:

1- اختلف النموذج الهندي عن الصيني في كفاءة الاستفادة من التطورات التكنولوجية التي أنتجتها العولمة، فبينما تمكن الصينيون من تطوير التعليم ودعم البحث العلمي لتطوير النظام التعليمي، تقاعس الهنود عن تقديم نموذج تعليمي هندي يسهم في الارتقاء بالمستوى المعيشي للشعب الهندي.

2- تأثرت المسيرة الصينية بطموحات النخبة الحاكمة في أعقاب الاستقلال، وهو ما ترجمته توجهات الصين الخارجية، حيث رأى القادة الصينيون في الخارج مصدرًا لقوة الداخل من خلال السعي للحصول على الموارد من الدول النامية، وبخاصة في القارة الإفريقية. ومن ثَمَّ فقد مثَّل الانفتاح على العالم الخارجي أحد مصادر قوة النموذج الصيني، مقارنة بالتجربة الهندية التي ضمن لها الاعتماد على الداخل والنجاح في بناء نموذج قوي، لكن هذا “الانكفاء على الداخل” لم يضمن لها الحفاظ على توقعات بمستقبل مزدهر كما في الحالة الصينية.

3- لقد استفادت التجربة الصينية من الثراء البشري الذي تميزت به، فالصين لديها الأيدي العاملة الرخيصة والمدربة جيدًا في كافة المجالات. وقد تأثر ذلك إيجابًا بكفاءة نظام التعليم المتطور الذي استهدف تزويد المجتمع باحتياجاته الحقيقية، وليس مجرد تحقيق معدلات متسارعة في أعداد خريجي الجامعات بعيدًا عن تحقيق الاستفادة القصوى من هؤلاء الخريجين.

4- كما تمكنت الصين من المزج بين التكنولوجيا ورؤوس الأموال الغربية والأيدي العاملة المدربة جيدًا بما ينعكس على دعم توجهات الانفتاح الاقتصادي في كافة الميادين العالمية في تحول ملحوظ بعيدًا عن النظام السابق الذي يعتمد على المركزية والبيروقراطية المفرطة، وهو ما يعزز كافة التوقعات بأن تصبح الصين هي القوة الاقتصادية الأولى في العالم بحلول 2050. فالنمو الاقتصادي الصيني يحتل المرتبة الأولى عالميًا خلال العشر السنوات الماضية بمعدل 9-12% سنويًا. كما أن “بكين” تحتل مرتبة متقدمة جدًا في مجال جذب الاستثمارات الأجنبية.

5- أمَّا بالنسبة للتجربة الهندية، فقد اعتمدت على الاستفادة من نقاط القوة في المجتمع الهندي التي تمثلت في الزيادة السكانية، حيث اعتمد الهنود على استراتيجية تحويل الزيادة السكانية إلى ثروة يمكن الاستفادة منها.

6- اعتمدت “نيودلهي” على النموذج الديمقراطي في إدارة التعددية العرقية والدينية بالمجتمع، وقد ساعدها ذلك على الاستفادة القصوى من الإمكانات والمزايا التي يوفرها هذا التنوع.

7- استفادت كل من الهند والصين من مزايا العولمة، وخاصة التكنولوجيا المتطورة في تطوير القاعدة الاقتصادية لمواكبة التغيرات المتسارعة التي تفرضها العولمة.

 

وحدة الدراسات السياسية

 

المراجع 

1- مصطفى الفقي، النموذج الهندي، جريدة المصري اليوم، 19/2/2015. https://www.almasryalyoum.com/news/details/660751

2- ميهير شارما، عيوب نموذج النمو الاقتصادي في الهند، جريدة الوطن، 13/9/2017. http://alwatannewspaper.ae/?p=231949

3- مايكل مورجان، النبض الأميركي في عيون مصرية، (القاهرة: سما للنشر والتوزيع، 2017).

4- جورشاران داس وآخرون، نهوض الهند، مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية، 2008.

5- Alexander Woodside , Vietnam and the Chinese Model : A Comparative Study of Nguyen and Ch’ing Civil Government in the First Half of the Nineteenth Century (Harvard East Asian Monographs), (Washington DC: Harvard University Asia Center (December 15, 1988).

6- He Li, The Chinese Model of Development and Its Implications, Political Science Faculty Publications, Merrimack College Merrimack ScholarWork, . World Journal of Social Science Research, 2(2), 128-138.

7- Ganda Singh, The Indian Community OF 1857 AND THE SIKHS, Guardara Papardhak Committee, (Delhi:Sisganji , Chandni Chowk, 1996.

8- Bipan Chandra , India’s Struggle for Independence 1857-1947, (Delhi: Penguin Books)

9-  Deep K. Datta, India proves democracy is no longer fit for purpose, while China’s model shows the way, Available at. https://www.scmp.com

النشرة البريدية

سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!

تابعونا على

تابعوا أحدث أخبارنا وخدماتنا عبر حسابنا بتويتر