يَـرُدّ هذا الواقع من التّراجع الحادّ في الدّيمغرافيا الأوروبيّة إلى الضَّعف الشّديد لنسبة الخصوبة في بلدانها. ويُرَدّ تدنّي الخصوبة هذا إلى قلّة التّوالد، أو إلى ثقافةٍ اجتماعيّة جديدة فرضتْها شروط الحياة المدينيّة المعاصرة. فأمّا قلّة التّوالد فناجمةٌ من عوامل عدّة منها: تراجع نسبة الزّواج في المجتمعات الأوروبيّة، وازدهار ظواهرَ بديل من قبيل المعاشَرة غير الرّسميّة بين الجنسين، أو العزوف عن الإنجاب جملةً أو في حدود ضيّقة جدّاً؛ وأمّا الثّقافة الاجتماعيّة المانعة فمتولّدة إمّا من شروط موضوعيّة (صعوبة الحياة وعدم تحمّل مسؤوليّة التّفرّغ للتّربيّة عند الإنجاب)، أو من شروط ذاتـيّة (ضَعْف فكرة العائلة والأسرة في بعض مجتمعات أوروبا، أو الاقتناع بأنّ مولوديْن – في الحدّ الأقصى –  يكفيان الأسرة؛ حيث كثرةُ الأولاد مَنْـقَصَةٌ اجتماعيّة ومَبْعـثُ إنفاقٍ ماديّ يفوق الطّـوق).

وما من شكّ في أنّ الأمر في هذا كلِّه يتعلّق بثقافةٍ أوروبيّة حديثة لا تميل، في الأغلب، وخـلافاً للولايات المتّحدة وتقـاليدها الاجتماعيّة، إلى التّـمسُّـك بإطار العائلة والأسرة، وتَـجْـنَـح – بـدلاً من ذلك – لتبجيل الحريّـة والفردانيّـة. وهي عينُها الثّقافة التي ترى في تزايُد النّموّ الدّيمغرافيّ تهديداً لمعدّلات النّموّ الاقتصاديّ. لذلك تكاد البنية الدّيمغرافيّة في أوروبا أن تظلّ راكدة منذ مئة عام أو أن تعيد إنتاج نفسها في أحسن حال، ولا يشذّ عن هذه القاعدة فيها سوى تركيا؛ لأنّ المجتمع فيها ينهل من منظومة قيم أخرى تتنزّل فيها العائلة والتّضامن الأسريّ بمنزلة القلب منها،  ولأنّه لا يقايض هذه القيم بمبادئَ أخرى من قبيل الفردانيّة وتعظيم النّموّ الاقتصاديّ على حساب النّموّ الدّيمغرافيّ.

على أنّ ثمّة حقيقةً تحتيّةً تاريخيّة لا سبيل إلى تجاهل تأثيراتها، في هذا المعرض، على الذّهنيّة الجمْعيّة الأوروبيّة وموقفها من الدّيمغرافيا. لقد كان الأوروبيّون حسّاسين، باستمرار، تجاه أيّ فيْضٍ ديمغرافيّ في بلدانهم منذ زمن قديم، وخاصّةً حين يهدِّد التّزايُد السّكانيّ نسبَ النّموّ الاقتصاديّ في تلك البلدان. لنتذكّر، مثلاً، كيف تخلّصت أوروبا من فائضها البشريّ بُعَيْد «اكتشاف» القارّة الأمريكيّة، فشجّعت – بتفاهمٍ مع الكنائس – عمليّات الهجرات الجماعيّة إلى أمريكا ووفّرت لها، أحياناً، الإمكانيّات اللّوجيستيّة للوصول إلى المَواطن الجديدة. وكان الهدف هو التّحرُّر من عبء هذا الفائض البشريّ الذي يعيش عالة على دوله. بل إنّ دارسي تاريخ أوروبا الحديث كثيراً ما عزوا نهضةَ أوروبا وتقدُّمَها إلى نجاحها في التّخلّص من فائضها الدّيمغرافيّ. ومن المفارقات أنّ هؤلاء المقذوف بهم من الأوروبيّين في سفن الهجرة إلى أميركا هُمْ مَن بنوا أميركا وتمتّعوا بخيراتها، وحوّلوها إلى قوّة تحكُم العالم بما فيه أوروبا التي جاؤوا منها!

 كان يمكن الأميركيّينَ أن يصبحوا نسخةً ثانيةً من الأوروبيّين في موقفهم من الدّيمغرافيا لأنّهم يحملون ثقافتَهم عينَها، ولأنّهم متشبّعون بالقيم ذاتِها – وإن كانوا أكثرَ محافَظةً من الأوروبيّين وأشدَّ تمسُّكاً بقيم العائلة منهم -، لولا أنّ حاجتهم مسَّت إلى مهاجرين جدد لتغطية الجغرافيا الفسيحة للقارّة. ولقد نجحت سياسةُ استيعابِ المهاجرين وتوطينِهم وعمليّات الدّمج الاجتماعيّ لهم في تأمين موردٍ لا ينضب من القوى البشرية: لا المهاجرة فحسب، بل الخارجة من أرحام المهاجِرات. وإلى ذلك كان التّزاوج ملحوظاً بين مكوّنات المجتمع الأمريكيّ بعضها ببعض، ممّا تعزّزت به علاقاتُ الاندماج الاجتماعيّ فيه. واليوم، ليس في الولايات المتّحدة أزمة نموّ ديمغرافيّ؛ إذ يعيش فيها وحدها نصف الذين يعيشون في القارّة الأوروبيّة، بمن فيهم المائة مليون ويزيد من الرّوس في الشّطر الأوروبيّ من روسيا.

ليس من حل لأزمة الدّيمغرافيا وضَعف الخصوبة في أوروبا إلاّ الحل الأميركي: الهجرة والتّأقلُم التّدريجيّ مع هذا الخيار الذي أصبح وجوديّاً بالنّسبة إليها. يدرِك الألمان ذلك، وقبلهم أدركه السّويديّون والنّرويجيّون، فبات طلبُهم على الهجرة إلى بلدانهم يزداد، حتّى أنّ سياساتهم تجاه أزمة اللاّجئين الأخيرة (منذ سنوات أربع) تختلف عن سياسات باقي دول أوروبا، خصوصاً الجنوبيّة منها. لكنّ الحلّ الدّيمغرافيّ من طريق الهجرة – الذي يعرف الأوروبيّون نجاعته من مساهمة المهاجرين المواطنين في ضخّ التّوازن في البنية السّكانيّة لبلدانهم – لن يكون ناجعاً ولا ناجحاً إلاّ متى طوّرت أوروبا منظوماتها التّشريعيّة الخاصّة بالهجرة – على مثال نظيرتها في الولايات المتّحدة – وتحرّرت من عقدة التّهيُّب من الآخر، ومن المنزِع القوميّ الانكفائيّ الضيّق. ولكنّ ذلك يحتاج إلى شجاعةٍ سياسيّة تتوقّف، هي بدورها، على ثورةٍ في الأذهان.