الناتو: التحدي من الداخل | مركز سمت للدراسات

الناتو: التحدي من الداخل

التاريخ والوقت : الثلاثاء, 4 فبراير 2020

راشيل ريزو

 

لكي يضمن حلف شمال الأطلسي “الناتو” قوته وأهميته المستمرة لسنوات قادمة، فإن عليه أن يصل إلى صميم القضايا التي يعاني منها تماسكه الداخلي.

ففي 4 ديسمبر 2019، اجتمع قادة الناتو في لندن لمناقشة القضايا الأمنية الملحة والاحتفال بالذكرى السبعين لتأسيسه. وكان المحللون على جانبي الأطلسي قلقين بشأن ما يمكن أن يحدث خلال يوم ونصف من الاجتماعات، وذلك بالنظر إلى عددٍ من الأصوات والدعاوى التي كانت يمكن أن تعرقل هذا الحدث برمته. لكن لحسن الحظ، انطلقت الاجتماعات مع قليل من الدراما، فقد اجتمع قادة الحلفاء في صورة الأسرة التقليدية، وشددوا على أهمية الدفاع الجماعي، كما تحدثوا عن قضايا مثل التهديدات المشتركة، والاستعداد العسكري، والإنفاق الدفاعي. وكان هذا متوقعًا إلى حد بعيد. فعلى مدار الأعوام القليلة الماضية، حاولت دول الناتو وضع جبهة موحدة عند الضرورة.

وفي حين أن كل ذلك يبدو جيدًا، فليس هناك إمكانية لإخفاء حقيقة أن الناتو اليوم يواجه تحديات استراتيجية كبيرة. ولسوء الحظ، لا يتم طرح هذه التحديات من قِبل جهات خارجية مثل روسيا، أو محاولة الإجابة عن التساؤلات الخاصة بالصورة الكبيرة مثل دور الناتو في المجالات الأمنية الجديدة والناشئة. وبدلاً من ذلك، فإن أشد تحديات الناتو إلحاحًا هي تلك التي تنشأ من الداخل.

التراجع الديمقراطي

يتمثل التحدي الداخلي الأول، وربَّما الأخطر اليوم، في تراجع الديمقراطية بين بعض أعضاء الحلف مثل تركيا والمجر. فمنذ محاولة الانقلاب الفاشلة في يوليو عام 2016، قام الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بقمع الحريات داخل البلاد وانزلق بشدة نحو الاستبداد. واليوم، تتصدر تركيا العالم فيما يخص أعداد الصحفيين السجناء، الذين تتم محاكمتهم من جانب نظام أردوغان، كما أن الانتخابات ليست حرة ولا نزيهة، ومؤسساته الديمقراطية ليس لها أي تأثير حقيقي. وإضافة إلى ذلك، فقد اشترت تركيا أخيرًا نظام دفاع صاروخي روسي الصنع من طرازS-400، وفي أكتوبر شنت غزوًا على شمال سوريا الذي يسيطر عليه الأكراد. وقد أسفرت كلتا الحركتين عن إدانة قوية من بقية الأعضاء في حلف الناتو.

وفي وسط أوروبا، تتبع المجر مسارًا مشابهًا للنهج التركي، إذ يشير رئيس الوزراء “فيكتور أوربان” بفخر إلى نفسه على أنه “ديمقراطي غير ليبرالي”، ويقول إن لديه تفويضًا من الشعب للدفاع عن بعض أعماله غير الليبرالية الأخيرة. وفي عام 2017، اعتمدت المجر قانونًا يلزم المنظمات غير الحكومية الممولة من الخارج بالتسجيل كوكلاء أجانب. كما أن القانون “يهدد نشطاء حقوق الإنسان، ويحد من الحرية الأكاديمية، ويعزز السيطرة السياسية على القضاء”. وفقًا لمراسل صحيفة نيويورك تايمز، “باتريك كينجسلي”، “يسيطر حلفاء أوربان على المحكمة الدستورية، بينما يسيطر الموالون له على المحاكمات التي يتم رفعها إلى المحكمة”. وفي الوقت نفسه قام “إربان” بتهديد المهاجرين واللاجئين وغيرهم من الخارج، وكذلك المدافعون عن الحقوق والحريات، حيث ينظر إلى الاتحاد الأوروبي باعتباره رجلاً مخادعًا”.

إن الاتجاهات الراهنة في المجر وتركيا تثير قلقًا عميقًا، وفي الوقت الحالي لا يظهر أي إشارة على مواجهة ذلك.

الحلفاء المتشككون

يكمن التحدي الداخلي الثاني لحلف الناتو في استمرار عدم القدرة على التنبؤ لدى بعض أعضائه، وخاصة الولايات المتحدة. ففي بداية حكمه وصف الرئيس الأميركي دونالد ترمب، التحالف بأنه “عفا عليه الزمن”، وأشار إلى أنه شعر بأن الولايات المتحدة تخوض صفقة سيئة من عضويتها في حلف شمال الأطلسي. ومن المفترض أن ينفق كل حليف 2٪ من ناتجه المحلي الإجمالي على الدفاع، وحتى يومنا هذا، فإن ترمب يعزف على الناتو بسبب فشل حلفائه، مشيرًا إليهم على أنهم “جانحون”. لكن ترمب ليس أول رئيس يدفع الأوروبيين إلى إنفاق المزيد على دفاعهم الخاص. لكنه أول رئيس أميركي يشكك في التزام الولايات المتحدة بالمادة الخامسة، التي تنص على أن “الهجوم ضد أي حليف واحد يعتبر هجومًا على جميع الحلفاء”، وهو ما يعدُّ القلب النابض لروح الدفاع الجماعي للناتو. إلا أن اقتراح عدم مساعدة الولايات المتحدة لعضو آخر في الناتو يضعف الأساس الذي قامت عليه المنظمة، كما أنه يشجع فقط الأطراف الخارجية على اختبار تلك النظرية. ولحسن الحظ، في أواخر نوفمبر أعلن الأمين العام لحلف الناتو “ينس شتولتنبرغ” زيادة الإنفاق الدفاعي من قبل الأعضاء الأوروبيين، وكندا في عام 2019، مضيفًا أنه “بناءً على أحدث التقديرات، فإن الزيادة المتراكمة في الإنفاق الدفاعي بنهاية عام 2024 ستصل إلى 400 مليار دولار.” وقد كشف ذلك عن إمكانية زيادات في الإنفاق الدفاعي للحلف.

لكن ترمب ليس الزعيم الوحيد الذي يسبب الصداع لحلف الناتو. ففي أوائل نوفمبر، أجرى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مقابلة مثيرة مع مجلة الإيكونوميست وضعت الناتو في مأزق. فقد أعرب الرئيس الفرنسي خلال المقابلة عن أسفه لـ”حالة الموت الدماغي التي أضحى عليها الناتو”، وتساءل ماكرون عن الحالة الصحية لبند الدفاع الجماعي، ودعا إلى إعادة تقييم الناتو في ضوء التهديدات الأميركية. وكان الجواب عن هذه الأسئلة، كما اقترح ماكرون، يتمثل في المزيد من الوحدة الأوروبية. كما كانت ردود فعل القادة على جانبي الأطلسي سريعة وناقدة. إذ قالت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل إن ماكرون استخدم كلمات “راديكالية”، ووصفت الناتو بأنه “لا غنى عنه”، وقد استغل وزير الخارجية الأميركي “مايك بومبيو” الفرصة للضغط على أوروبا بشأن الحاجة إلى زيادة الإنفاق الدفاعي؛ وأشار “ينس شتولتنبرغ” إلى أن “أي محاولة لإبعاد أوروبا عن أميركا لن تؤدي فقط إلى إضعاف التحالف عبر الأطلسي، بل إنها تخاطر أيضًا بتقسيم أوروبا نفسها”. لكن ماكرون راح يدافع عن موقفه، قائلاً: إن الناتو في حاجة إلى “اليقظة” وكذلك إعادة تقييم الغرض والغايات النهائية من وجوده.

ما التالي لحلف الناتو؟

لسوء الحظ، ليس لدى حلف الناتو رفاهية الاختيار: حتى إنه في ظل أزمة الهوية الداخلية، يجب أن يظل الحلف رشيقًا بما يكفي لتطوير قدراته على ردع أعضائه والدفاع عنهم من التحديات الخارجية، وضمان الاستعداد العسكري بين الحلفاء، ومعالجة المجالات الجديدة مثل الفضاء وتكنولوجيا الجيل الخامس، والذكاء الاصطناعي. وللقيام بكل ذلك بفعالية فإن الأمر ليس يسيرًا.

إذن، ما الذي يجب على الناتو فعله؟ إنه سؤال سهل، ولكن هناك شيئًا واحدًا يبدو مؤكدًا: فلِكَي يضمن التحالف قوته وأهميته المستمرة لسنوات قادمة، يجب عليه أن يتطرق إلى القضايا التي تعصف بتماسكه الداخلي.

ويجب أن يتحدث قادة الناتو أولاً عن كيفية التعامل مع الأعضاء الذين يميلون إلى الاستبداد. فهذه ليست المرة المرة الأولى التي يواجه فيها الناتو تلك المشكلة، لكن الحجم الهائل للتحديات الراهنة يعني أنه بات من المهم أكثر من أي وقت مضى أن يبدو الناتو موحدًا. ليصبح السؤال: هل هذا تحالف عسكري بحت، أم ينبغي أن يكون تحالفًا للقيم المشتركة؟ فإذا كان الجواب هو الأخير، فقد حان الوقت لحلف الناتو لإجراء بعض المحادثات الصعبة. فالقيم، هي الأساس الذي يعتمد عليه التحالف. وإذا بدأت القيم المشتركة في التهاوي، فستبدأ المهام الأساسية مثل الدفاع الجماعي والأمن التعاوني في الانهيار. وابتداء من اليوم، لا توجد آليات حقيقية لدى الناتو لمعاقبة عضو قد يتخذ خطوات غير ديمقراطية، فمنظمة حلف شمال الأطلسي تعتبر منظمة توافقية؛ لذلك يجب على جميع الأعضاء الاتفاق على أي قرارات على مستوى التحالف.

وفي مقال نشره معهد بروكينغز، اقترح “جوناثان كاتز وتوري تازيغ” تشكيل لجنة جديدة للحكم، برئاسة مساعد الأمين العام لحلف الناتو للشؤون السياسية والسياسة الأمنية، لمعالجة انتهاك مبادئ معاهدة واشنطن، لوثيقة تأسيس حلف الناتو. وستكون هذه خطوة مهمة، ويجب على قادة الناتو أن لا يتخلفوا عنها. كما أنه من الأهمية بمكان أن تؤكد الوثائق المشتركة الصادرة عن الاجتماعات رفيعة المستوى ومؤتمرات القمة على أهمية الحرية والقيم الديمقراطية والليبرالية بين جميع الأعضاء.

كما أن حلف الناتو في حاجة إلى تركيز الحديث عن الإنفاق الدفاعي. نعم، من الأهمية بمكان أن تبذل الدول الأوروبية المزيد من الجهد للتقدم وتحقيق أهداف الإنفاق الخاصة بها، ولكن الأرقام الحديثة تظهر أن أوروبا تتخذ خطوات كبيرة. فخلال السنوات القليلة الماضية، سيطر هذا الموضوع على اهتمام كافة اجتماعات وزراء الدفاع والخارجية، وكل قمة عقدها حلف الناتو. إذ تحتل المناقشات بشأن الإنفاق الدفاعي الأوروبي مكانة الصدارة في كافة الأحداث واجتماعات الموائد المستديرة للخبراء في أماكن مثل واشنطن وبرلين وبروكسل. وفي هذه المرحلة، فإن ثمة معوقًا لقدرة الحلفاء على إجراء المزيد من المناقشات الموضوعية؛ إنها تحول التركيز من القدرات الفعلية إلى واقع ملموس؛ وهو ما يغذي انتقادات ترمب. لقد أثبت موضوع الإنفاق الدفاعي أنه مثير للجدل. وللمضي في هذا الطريق، يجب على قادة الناتو التركيز بدلاً من ذلك على تطوير قدراتهم: ما الذي تحمله دول الناتو خلال اجتماعهم على طاولة المفاوضات؟ هل هم على استعداد لاستخدام هذه القدرات إذا لزم الأمر؟ وكيف يمكن للأعضاء الذين قد ينفقون أقل على الدفاع إضافة قيمة في مجالات أخرى مثل الإنترنت أو محاربة التزوير؟ نأمل أن يؤدي تحويل الموضوع إلى قضايا أكثر جوهرية إلى تخفيف مخاوف بعض قادة الناتو.

وفي الواقع، يعتبر حلف الناتو أنجح تحالف عسكري في التاريخ. لكن من أجل البقاء على هذا النحو، يجب أن يكون القادة على ارتياح بشأن إجراء محادثات عميقة حول مستقبل التحالف. على أن هذه المحادثات ستكون صعبة، ومن المحتمل أن تكون مثيرة للجدل، لكنها ضرورية لحلف الناتو ليبقى قويًا وموحدًا ومحل ثقة في السنوات القادمة.

 

إعداد: وحدة الترجمات بمركز سمت للدراسات

المصدر: مؤسسة المراقب للأبحاث

النشرة البريدية

سجل بريدك لتكن أول من يعلم عن تحديثاتنا!

تابعونا على

تابعوا أحدث أخبارنا وخدماتنا عبر حسابنا بتويتر